عن زيارة لمخيم، خاطرة غير عابرة

بقلم: علي ابو بكر*

ضيقالمكان، خنق الأفكار والهموم والأسئلة، أن يخنق همٌّ هماً، في استعادة لتوأمي آدم. لا كلام هنا تنظمه بطريقة منمّقة ومرتّبة كما يفعل الأكثرون في حديثهم عن فلسطين. تخيم على المكان مشاعر لم تطأها كعب بشر، في أرض النبوات، ربما تجد في الصمت صدقاً وخلاصاً. لا أجد حالة مشابهة إلا في حضن أمي بعد طول غياب.

تتكالب عليّ الآراء، والخواطر، وكعادة الفقراء على موائد الصدام، أنأى بنفسي عن الخوض فيما عُلِم عن الشعوب بالضرورة، إذ لطالما غشيتني الحيرة من النخبويين؛ يستنفرون أنفسهم للنزال في وصف حالتنا. لست غريباً عن المخيم، وأجدني متوافقاً تماماً مع من يقول ذلك، هي من المرات النادرة التي جعلتني أتعارض مع نجم وإمام في إحدى روائعهم: "يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش، تعارف يخلي التحالف يعيش". لم أبدِ انزعاجاً عند الإجابة على  سؤال بقالٍ في المخيم: "من وين هاظ الجروب"Group"؟ بنبرة الاعتياد على زيارة الغرباء لالتقاط بعض الصور، دون التعريف عن هويتهم، هذا المخيم إثبات على أنه لا بالصور وحدها تحيا الذاكرة، لكن مقصده هؤلاء أشباهنا. لذلك كدت اختنق قبل أن أسأل احداً عن هويته، فالمخيم هوية مؤقتة لمن بقي المخيم فيه، وديمومته فناءنا جميعاً.

هوية وذاكرة:

خيوط شمس تلوح من أسماء قرى تحلت بها جدران الأزقة الضيقة، أخذت مسارها من ذاكرة صلدة لإنسان أبى أن يكون النسيان حياته والطريق إلى حتفه وفنائه، في ذات آن. تلك القرى القابعة بين جمر الذاكرة، تغلي ويحول غليانها دون نسيانها، بين جمر أحمر لانهائي لكيِّ الوعي مما علق به همٍ ووهمْ ومخيم. قرىً خبرتها ورأيت عرق أهلها، ودمهم، ودموعهم، وفرحهم، وفزعهم، كأشواك صبارهم يلسع المارين المتجاهلين بلسان يقول: لازلنا هنا ولن نُزال، حَلَّ الصبر في الصبار أشواكاً، أشواقاً لطول انتظار، أين الفرح المختبئ وراء أسماء القرى؟

فرح في المخيم:

تستطيع سماع هسيس الأزقة الضيقة؛ من هنا مرّ الشهيد، وها هنا أثر الرصاص؛ في طرقات استحضرت أسماءها من ذاكرة خطى السائرين فيها، شهيد ورصاص وأسماء قرى؟ مفردات مفاجئة، هي الأخرى في طريقها إلى الاستشهاد واقفة ضد الاحتلال، احتلال اللغة العصرية للمجتمعات الإفتراضية أرض الوجدان، وعقل الإنسان، تناضل ضد احتلال حروف الغريب لأرض اللغة،  وكأنما هي أشباح تطوف في وحشة ما نعيشه من غربة واغتراب. حاشا الذين لم يستوحشوا طرق الحقّ، كالصوفي يعينه الوقوف على الجمر استغراقا في الوجد، ويزيدني الوجد إغراقاً في أشأم الإعتقاد، فيصيبني بمَسٍّ من قناعة هلاك من "يصحون ]عند ذهاب[الشهداء إلى النوم، ]لحراستهم[من هواة الرثاء"، وحده الشهيد فينا من له الرأي الفصل؟

يعيدالفرح انتشالي من هول المراثي، فرح تحتويه قاعة ضيقة في مخيم تمتزج فيها النشوات؛  تزيين عروس لعريس، تأبين شهيد زغردت له الأرض لتغيظ السماء، في سجال حمل الرفاة واحتضان الروح، والذكرى تلوح ما بقي المخيم. والعدو: يطارد الذكرى؛

أورثنا مآسينا، وفاوضنا على شئ يؤرقه، على البسمة، على الذكرى وما نحميه، في النسيان أن يطوى، على النكبة، ويوم الارض، والأسرى، ليمحونا، وما نبقيه من ماض، يراودنا على دمنا، على الخيمة.

نحن نكتب ذواتنا فيما نسمع ونشاهد، ونبحث عن ذواتنا بين الأنا والآخر، ليس المخيم آخري، فبه أناي، هذا المخيم شاهدٌ ليَ لا عليْ.

 لذلك اصطفيت أبا محمد ـــــ وما أكثرهم ! ـــــ من الناس لأسأله: كيف عاملكم أهل بيت لحم؟

وأجاب بكلمة تختزل واقعاً وزمناً ومعاناة، أجاب بطبعنا نحن البسطاء، عندما تغلب بلاغتنا زيف واقعنا، ها هنا صدق الصالحين، وحسن بيان الشعراء، كلمة، ماذا تساوي كلمة واحدة في عرف من نذروا أنفسهم للتنظير.

قال : احتضنونا.

ولأنه لم يجد أمام إلحاح الإعجاب بدّاً، أضاف: هنا أهل مدينة طيبة وافق اسمها مسماها، بيت لحم، مسيحيوها قبل مسلميها، قدموا لنا كل عون، آوونا، سترونا، وفتحوا لنا أحضانهم قبل أبواب بيوتهم، وأعلنت عيناه الإضراب عن الكلام.

عينان مسجونتان خلف سديم البؤس، تقولان اكتب.

فقلت ليس لدي حرف للقراءة، ليس لدي ما يقال عن وقت ردئ، وتنضب الكلمات، يا كلمات؛ كأن ذهني قد أصابك بالجفاف؟ ما سأقول عن الناس أكثر مما قيل أو يقال. 

لكنما هنا عينان تعطيان الجرأة على استبداد الحروف والكلمات، كلمات من الهامش عن أناس في الهامش.

أكتب كما قال السجين: كنت أخاف من وحدتي، غبيّ من يقول ان الوحدة لا تخيف، من يكون أمامك وحيداً، هو في حقيقة الأمر يستحضر في ذهنه أشخاص من يحبهم، يجعل ذاكرته مسرحاً لهم، أكتب أسماءهم على حائط الزنزانة، كتابة الاسم على جدار السجن تجعله يتهاوى ويسقط، تغصب الأفق على الإتيان بالأمل، مثلما الكتابة على جدار قديم في مخيم، تجعل الإسمنت يزهر بالذكرى، وتتفتح كلّ أسماء القرى وتفوح، كتبت بدم الشهيد بيد الشهيد.

تيه:

احتضنونا، كلمة واحدة لم يتسلل إليها شيء مما علق في الأذهان من الإصرار على الانقسام، منذ أن بدأ بعضنا في التشظي، بدأ ميلنا لتناقض نسيان من نحن وما نحن، لن تفلح قدسية أرضنا، وعدالة قضيتنا في انتشالنا من التيه، وربما لأننا نسينا أرواح شهدائنا أو تناسيناها، أضحينا كمن فارقت روحه جسده، وخلا من الإيمان بقضيته، فقعد عن العمل لها، واتخذ إحياء ذكرانا صفة المناسباتية في احتفالات شبه "كرنفالية"، تزيد من الاعتقاد بعدم ائتماننا على ذاكرتنا ومصيرنا، وإرث حركتنا التحررية، ويقل الرفض فينا، ويتسلل الاحتلال إلى تفاصيل حياتنا اليومية، في استثمار حالتنا وشرعنة احتلاله، ونخفق فيما نظن أنه تحقيق انتصار جزئي، ونركن إلى أضعف الإيمان بثوابتنا، نتحرق إلى تحقيق ما نظنه انتصارا، ويبدأ الاحتلال في النفاذ إلى آخر حصوننا، الروح الحية في شعبنا؛ ذاكرتنا وأملنا، وهو ما يتأكّد من حالة لامبالاتنا العامة، والمسيطرة على الأجيال الجديدة من أبناء شعبنا، لنختلف على كيفية استعادة الأمل، حتى وإن اتفق سياسيونا، فهل سيخرجنا اتفاقهم من التيه؟ أحوالنا تحتدم، وتحتدّ من حولنا، مثلما هو حالنا اليوم، اشتد احتياجنا لفكر رحب يخلصنا من التيه.

 فما العمل؟

------------

*علي ابو بكر: طالب دراسات عليا في جامعة بيرزيت، معهد ابراهيم ابو لغد للدراسات الدولية، تركيز لاجئين وهجرة قسرية.