"مفاوضات السلام"، مقاطعة إسرائيل واستراتيجية النضال الفلسطيني المطلوبة من أجل نيل حقوقنا الشاملة*

بقلم: عمر البرغوثي**

لم تعد الإدارة الأمريكية والأصوات الصهيونية الأقل جنوناً تخجل اليوم من طرح حقيقة كانت واضحة لمعظم الشعب الفلسطيني لسنوات عدة وهي أن ما يسمى بـ"مسيرة السلام" بين دولة الاحتلال ومسؤولين فلسطينيين يحتلون موقعتمثيل الشعب الفلسطيني هي "ضرورة وجودية" للنظام الإسرائيلي، ولذلك فلا بد من التغطية على كونها جثة هامدة بلقاءات وتصريحات لا متناهية ولا تنطلي على أبسط البسطاء في منطقتنا. حتى الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، صرح مؤخراً بأن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تحمي إسرائيل من تنامي عزلتها الدولية إذا ما فشلت المفاوضات، أي إذا سقطت ورقة التوت الذهبية التي غطت بها إسرائيل استعمارها المسعور للأرض الفلسطينية وتطهيرها العرقي لقطاعات كبيرة من شعبنا في القدس والنقب والأغوار لمدة عقدين.

إن ما يُسمّي بتفاوض (negotiation) لا يعدو كونه نفياً (negation) تدريجي لحقوق الشعب الفلسطيني ومحاولة شرعنة ذلك بإضفاء صفة رسمية فلسطينية وعربية عليه. هذه ليست بمفاوضاتٍ حقيقيّة، لسببين بسيطين: أولاً، العبد لا يفاوض السيّد أبداً، إما أن يستجديه أو يقاومه؛ ثانياً، المفاوضات الجدية في حالات الاستعمار المماثلة لحالتنا الفلسطينية لا تأتي إلا كجزء من استراتيجية نضالية وكتتويج لتعديل موازين القوى من خلال المقاومة بأشكالها لإجبار العدو على التراجع والتسليم بحقوق الشعب الواقع تحت الاستعمار. فما بالكم والحال هنا هو استعمار استيطاني إحلاليّ، يسعى لتشريد واستبدال الشعب الأصلاني برمته، لا التوصل لتسوية معه؟

إذن، فإن "المفاوضات" الجارية منذ 1993، وحتى قبلها، بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مع منظمة التحرير الفلسطينية هي أشبهُ بمفاوضاتٍ بين الحكومة الأمريكيّة ونظيرتِها الإسرائيليّة، بأجزائها؛ وما تقرّرانه الأخيرتان تفرضانه على الشعب الفلسطينيّ، بالغالب من خلال "مسؤولين" فلسطينيين لا يتمتعون بوصاية ديمقراطية وبالتالي لا يملكون حق التوقيع على أي تنازل عن حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف، بحسب القانون الدولي.

لكنّ ثقتنا عالية في تطرّف الحكومة الإسرائيليّة وبالتالي في عدم وجود إمكانية واقعية لقبولها بأي "تسوية" حتى لو كانت بالفعل استسلاماً. نحن لا نَضْمن ما سيقدِّم "المفاوضُ" الفلسطينيّ على طاولة "المفاوضات"، ولكننا نَعرف حق المعرفة بان الاسرائيلي لن له أيّ شيء يمَكّنه من العودة إلى شعبه ليقول له: "حققتُ إنجازاً". إن التمسك بعملية "السلام"، التي يعترف الجميع تقريباً أنها أدت إلى كوارث لشعبنا، مع رفض كل أشكال المقاومة الفعّالة والتنازل المجاني عن الحرب القانونية والدبلوماسية ضد إسرائيل عالمياً تحت شعار "لا نريد معاداة إسرائيل" أو "تربطنا بإسرائيل علاقات تجارية وأمنية واقتصادية كبيرة"، وفقط نحتج على مستعمراتها هو أفضل تعبير عن الغياب الكامل للاستراتيجية الفلسطينية الساعية لتحصيل حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف.

لقد أدمن البعض منا على الهزيمة وعلى التكيّف مع ما يسلم به كانتصار للمشروع الصهيوني. لقد ربحت إسرائيل معارك كثيرة وحققت الكثير، دون شك، ولكن معظم شعبنا وأمتنا لا يزال مقتنعاً بإمكانية النصر. إن جوهر الاستراتيجية الفلسطينية الكفاحية الجديد لا بد أن يكون مبنياً على إيماننا الراسخ بهذه الإمكانية، إن توفرت الآليات النضالية المحلية والعربية والعالمية الضرورية لذلك، أي دون إسقاط التمنيات أو الغرق في مستنقع القدرية. إن أهمّ ما نواجه به "الجدار الحديدي" الذي بنته الحركة الصهيونية في عقولنا، أي احتلال عقولنا بفكرة إستحالة النصر، هو موجة الأمل المبني على العمل والمثابرة والنضال المبدئي والحكيم في آن واحد.

في ذروة قوتها الاقتصادية والعسكرية، بالذات النووية، ورغم فرض هيمنتها على دوائر القرار الأمريكي فيما يتعلق بالمنطقة العربية وجوارها ككل، ورغم ضعف القيادة الفلسطينية وانهيار سقف الطموح الرسمي إلى أدنى مستوى منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، فإن إسرائيل تشعر اليوم بالتهديد على نحو غير معهود منذ زمن. لكن هذه المرة، للمفارقة، يأتي التهديد من حركة نضال شعبي ومدني تستند على القانون الدولي وتستمد مبادءها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ففي حزيران 2013، قررت الحكومة الإسرائيلية بشكل رسمي أن الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، التي أطلقها المجتمع الفلسطيني بغالبيته الساحقة في 9 يوليو 2005، باتت تشكل "تهديداً استراتيجياً" للنظام الإسرائيلي الذي يجمع بين الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري (الأبارتهايد). في ضوء ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية نقل مسؤولية محاربة حركة المقاطعة إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية، بعد أن كانت وزارة الخارجية تتولى هذا الملف.

إن تتالي نجاحات حركة المقاطعة منذ انطلاقها قبل أكثر من ثمان سنوات، وبالذات انتصاراتها النوعية مؤخراً، تؤشر لمرحلة جديدة، قد تواجه إسرائيل فيها عزلة دولية غير مسبوقة تذكّر بعزلة نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا في نهايات القرن الماضي. لذلك، لا بد لأن تشكّل حركة المقاطعة عنصراً رئيسياً من عناصر استراتيجية النضال الفلسطيني من أجل حقوقنا الشاملة.

 

في سياق المساهمة في تطوير استراتيجية فعّالة ومعاصرة للنضال الوطني الفلسطيني، وكون الاستراتيجية هي الطريق إلى الهدف، فلا بد أولاً من طرح أهداف النضال الوطني الفلسطيني ونقاش ما إذا كان هناك إجماع عليها، أو ما يقاربه. لقد تغيّرت هذه الأهداف، كما عبّرت عنها القيادة السياسية المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، تدريجياً منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1965. فمن تحرير كامل التراب الوطني، إلى دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب، إلى الحل "المرحلي" الذي يدعو إلى تأسيس سلطة فلسطينية على أي شبر يتحرر من أرض فلسطين، إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الأراضي المحتلة عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها مع تأكيد حق العودة للاجئين، إلى دولتين لشعبين مع تبادل أراضٍ لضمان احتفاظ إسرائيل بكل "الكتل الاستيطانية" (ومعظم القدس المحتلة معها) وأهم الأراضي الزراعية وموارد المياه، إلى التلميح بإمكانية التنازل عن حق العودة من خلال تبني صيغة "العودة إلى أي مكان في الوطن" (كما كشفت الأوراق السرية للـ"مفاوضات")، مما يؤشر للعودة إلى الضفة وغزة فقط، إلى التصريح بعدم الرغبة في "إغراق إسرائيل بملايين اللاجئين"،[1]وصولاً إلى إبداء الاستعداد للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية،[2]أي لنسف المشروع الوطني الفلسطيني برمته.

رغم غياب الاتفاق بين الأحزاب السياسية الفلسطينية الأساسية حول أهداف النضال الوطني الفلسطيني، إلا أن بعض الحقوق ربما تُعدّ القاسم المشترك، أي الحد الأدنى، في أوساط الشعب الفلسطيني وأهمها: حق تقرير المصير، حق عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها خلال النكبة وبعدها، والحق في التحرر الوطني من الاحتلال العسكري (عادة يشار للأراضي المحتلة عام 1967 في هذا السياق من قبل غالبية فصائل العمل الوطني والإسلامي)، وكلها حقوق كفلها القانون الدولي.

كما إن الحق الأساسي في المساواة للفلسطينيين في أراضي 1948، أي حاملي الجنسية الإسرائيلية، مكفول في القانون الدولي، بل يعد أهم حق من حقوق الإنسان على الإطلاق.

إن برامج م.ت.ف. وتوجهات القيادة الفلسطينية المتنفذة وكل فصائل العمل الوطني والإسلامي تقريباً قد أسقطت حقوق ودور الجزء من شعبنا الذي تمكن من الصمود في أرضه خلال النكبة (فلسطينيو أراضي 48)، قبل حقبة أوسلو وخلالها، وكأن معظم الصف القيادي الفلسطيني، بيمينه ويساره ومثقفيه، بات مدجّناً لدرجة قبول سلخ فلسطينيي 48 عن نسيج الشعب الفلسطيني وترك حقوقهم بيد دولة إسرائيل وكأنها شأن داخلي لها. عدا عن الإجحاف التاريخي والتنازل السياسي الذي لا يغتفر الناجم عن هذا السلخ، فإنه ينمّ عن قصر نظر كبير إذ أن عدم إدراك الدور النضالي الحالي والإمكانيات النضالية الكامنة لدى شعبنا في أراضي 48 في معركة تقرير المصير وهزيمة المشروع الصهيوني يحرمان شعبنا من ذخر استراتيجي.

إذن، في الحد الأدنى، لا بد من الإصرار على الحقوق الفردية والجماعية لشعبنا في أراضي 48، كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، بما يتضمن الحق في التخلص من نظام الفصل العنصري "الأبارتهايد" الصهيوني هناك، أي في التخلص من البنى والقوانين والسياسات العنصرية التي يقوم عليها نظام الاضطهاد والعنصرية الإسرائيلي، كما سبق لشعب جنوب أفريقيا أن تخلص من نظام الأبارتهايد. وهذا أيضاً كفله القانون الدولي.

في المقابل، فإن أي رؤية لا ترتبط بـ"ساقَيْن" يسيران بها على الأرض نحو الأهداف المرجوّة هي بالضرورة غير بنّاءة لأنها تَبقى أسيرة التمنّيات ولا تحفّز على النضال التراكمي والفعّال. إنّ بعض الأدوات المطروحة للتغيير اليوم هي ذاتُها التي عفى عليها الزمن، لأنها لا تلامس الواقعَ ومقتضياتِه المتحرّكة دومًا، أو هي غير قادرةٍ على طرح برامج عمل كفاحية تجمّع الطاقات النضاليّة الإبداعيّة للقطاعات الواسعة من شعبنا وأمّتنا وشعوبِ العالم المتضامنة معنا، أسوةً بالنضال الجنوب أفريقيّ المدعوم عالميًا. كيف نصل من النقطة أ الى النقطة ب؟ هذا هو السؤال الذي يُفترض أن يقضّ مضاجعَ جميع المناضلين، لا أيُّ شعار نرفعه فحسب. إنّ رؤية البعض للنقطة ب ربما تكون رائعة، لأنّها تشمل حقوق كلّ الشعب الفلسطينيّ لا حقوقِه في الضفّة وغزّة فقط؛ لكنّه من غير الواضح كيف نصل إلى هناك.إن أساس أي استراتيجية هي خطة العمل التي تنبع من الطموح والحلم والرؤية وتدرس الواقع بعمق، دون إسقاط التمنّيات، ودون التسليم به كقَدَر، فتطرح آليات عمل للمقاومة (بمفهومها الأوسع) والتحالفات والتضامن الدولي لتغيير هذا الواقع وصولاً إلى تحقيق الطموح والحقوق الوطنية.

خلال عقدين منذ توقيع اتفاقية أوسلو، عملت إسرائيل بنجاح نسبي، وأكثر من أي وقت مضى، على تحقيق عدة اختراقات استراتيجية كادت تجهض الصراع العربي-الصهيوني، أهمها:

‌أ.        عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي.

‌ب.    تحويل جزء من الطبقة السياسية الفلسطينية (من مختلف الفصائل ومن المستقلين) إلى "شريك" متواطئ في "إدارة الأزمة" والتغطية على استمرار مخطط الاستعمار الاستيطاني والإحلالي الصهيوني للوطن الفلسطيني مقابل مصالح ضيقة.

‌ج.     تقزيم قضية فلسطين إلى مجرد قضية احتلال 1967، مع تحويل حق عودة اللاجئين إلى شعار "خيالي" وأحياناً "متطرف" واستبداله بشعار حل مقبول لجميع الأطراف يتم التوصل إليه "من خلال التفاوض".

‌د.       حذف فلسطينيي 48 من تعريف الشعب الفلسطيني والتهميش المتصاعد لفلسطينيي الشتات في الأطر "القيادية" والتمثيلية للشعب، وفي التمثيل الفلسطيني الرسمي في الأمم المتحدة، وحتى في التعريف "المقبول" و"المعتدل" للشعب الفلسطيني.

‌ه.       كسر طوق المقاطعة العربية ومن قبل دول عدم الانحياز، وبدء مسيرة تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دول الجنوب دخولاً من الباب الفلسطيني والعربي.

‌و.      استغلال هيمنة القطب الأوحد الأمريكي، بالذات في سياق حربه المفتوحة "ضد الإرهاب" منذ 11 سبتمبر 2001، لبسط نفوذ إسرائيلي غير مسبوق على السياسة الأوروبية ولتحويل الأمم المتحدة وأجهزتها إلى شاهد زور في أحسن الأحوال.

‌ز.      تسويق إسرائيل في العالم على أنها رائدة في مكافحة "الإرهاب" وحرب المدن وتطوير أسلحة ومنظومات عسكرية وأمنية متطورة، مجربة "في الميدان" (field-tested) ويحتاجها العالم أجمع.

‌ح.     إضعاف كل أشكال التضامن الفعال مع حقوق الشعب الفلسطيني تحت شعار: "لا تكونوا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم!".

بناء على ذلك، لا بد لاستراتيجيتنا، أولاً وقبل كل شيء، أن تعيد الاعتبار لوحدة شعبنا، كلّ شعبنا، ولضرورة تمثيله في الأطر التي تدّعي تمثيل الشعب؛ وأن تؤكد على حقوقنا غير القابلة للتصرف؛ وأن تعيد اللّحمة مع عمقِنا العربي وتسهم في تفعيل دور الشعوب العربية في التصدي لإسرائيل ومخططاتها واحتلالاتها وعدوانها المتكرر كجزء عضوي في نضال هذه الشعوب الشقيقة من أجل التحرر والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ وأن تصعد المشاركة الشعبية الواسعة في المقاومة وتطوير حركة مقاطعة إسرائيل ومؤسساتها والشركات المتواطئة في جرائمها، محليا وعربيا ودولياً، بما يكفل كسب غالبية الرأي العام العالمي وكسر التواطؤ الفلسطيني والعربي والدولي في انتهاكات إسرائيل لحقوق شعبنا. كما لا بد من إعادة ربط قضية فلسطين بنضالات شعوب العالم من أجل الكرامة والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والمديونية، وصيانة الحريات، والمساواة للمرأة، وإنقاذ البيئة وغيرها من القضايا التقدمية التي تجمع معظم البشر.

إن استمرار تقيّد المسؤولين الفلسطينيين باتفاقية أوسلو وتوابعها -- بالذات التنسيق الأمني واتفاقية باريس التي تكرس التبعية الاقتصادية -- من طرف واحد، رغم كل انتهاكات دولة الاحتلال المتتالية والجسيمة، واستمرار سياستهم المتناغمة مع عقلية أوسلو و"المفاوضات" الأزلية العقيمة و"الشراكة" مع إسرائيل بدلاً من مواجهتها ومقاومتها هما جوهر أزمتنا السياسية اليوم كشعب وأمة، والتخلص منهما هو مفتاح الحل.

وفي ظل غياب المحاسبة والمساءلة في الأطر السياسية الفلسطينية وشلل العملية الديمقراطية والتمثيلية في م.ت.ف، لا بديل عن استعادة الشعب الفلسطيني لمنظمة التحرير، أي إعادة تشكيل م.ت.ف من الأسفل إلى الأعلى، عبر إعادة بناء قاعدة شعبية في كافة القطاعات، في الوطن والشتات، بما في ذلك في أراضي 48، مع ترسيخ تقاليد الديمقراطية والتعددية السياسية وآليات المحاسبة، وعلى قاعدة حقوق شعبنا الأساسية وأهمها حق العودة إلى الديار.

لقد هيأ نداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، الصادر عن الغالبية الساحقة من المجتمع الفلسطيني في 2005، الأرضية لتجاوز السياسة الفلسطينية الرسمية التي فشلت في حماية الأرض الفلسطينية من النهب المستمر وفي حماية الإنسان الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 67 من جرائم الاحتلال والمستعمرين.

تشير الإحصائيات الرسمية الفلسطينيةإلى إن فلسطينيي غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) يشكلون فقط 38% من الشعب الفلسطيني، بينما يشكل فلسطينيو أراضي 48 حوالي 12%، وفلسطينيو الشتات 50% من شعبنا. لذلك، يحدّد نداء المقاطعة الحقوق الأساسية الخاصة بهذه الأجزاء الرئيسية الثلاثة المكونة للشعب الأصلي في فلسطين، والتي تشكل الحد الأدنى لمتطلبات تقرير المصير، فهو يطالب بإلزام إسرائيل بـ:

1-   إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية [المحتلة عام 1967] وتفكيك الجدار.

2-   الاعتراف بالحق الأساسي بالمساواة الكاملة لمواطنيها العرب الفلسطينيين.

3-   احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم، كما هو منصوص عليه في قرار الأمم المتحدة رقم 194.

يقوم نداء BDSعلى ما أنجزته مبادرات فلسطينية ودولية عديدة تدعو إلى مقاطعة إسرائيل و/أو سحب الاستثمارات منها، ولا سيما تلك المبادرات المنبثقة بعد انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية في ديربان بجنوب أفريقيا في عام 2001. وفي حين أن الاتّساق الأخلاقي والالتزام بحقوق الإنسان العالمية هما الأساسان الجوهريان للحركة العالمية الرامية لمقاطعة إسرائيل، فإن جهود المقاطعة تقوم من الناحية العملية على ثلاثة مبادئ أساسية هي: مراعاة الحساسية للسياق، والتدرج، والاستدامة.

لقد قطعت حركة المقاطعة BDSأشواطاً كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية على صعيد الوصول إلى التيار العام (mainstream) في المجتمع الغربي، وليس فقط في مجتمعات الجنوب الأكثر تأييداً لحقوقنا بطبيعة الحال. خلال الأشهر الماضية فقط، بدأت المقاطعة الاقتصادية تصل إلى بداية التحول النوعي. قبل ايام أعلنت شركو صوداستريم، المستهدفة من قبل حركة المقاطعة BDS، خسارة سهمها 14% من قيمته خلال الربع الأول من هذا العام. أما شركة "ميكوروت" الإسرائيلية للمياه فقد خسرت عقداً كبيراً قيمته 170 مليون دولار في الأرجنتين، كما أنهت شركة "فيتنز" الهولندية للمياه عقدها مع "ميكوروت" لتورطها في الاحتلال. وأعلنت الحكومة الألمانية أنها ستستثني من اتفاقيات التعاون العلمي والتقني مع إسرائيل جميع الشركات والمؤسسات الإسرائيلية المتواجدة في الأرض الفلسطينية المحتلة، "بما فيها القدس الشرقية". كما أعلن ثاني أكبر صندوق تقاعد هولندي، وتقدر استثماراته العالمية بـ 200 مليار دولار، سحب جميع استثماراته من البنوك الإسرائيلية التي تعمل في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، مما شكل ضربة معنوية ونفسية هائلة لأحد أهم أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي. أما أكبر بنك في الدنمارك فقد قرر مقاطعة بنك "هبوعاليم" الإسرائيلي لتورطه في الاحتلال. وصندوق التقاعد النرويجي، وهو الأكبر في العالم، وضع شركات إسرائيلية متورطة في الاستيطان على قائمته السوداء.

وكشفت الصحافة الإسرائيلية قبل أسابيع أن عدة شركات بناء عملاقة قد تراجعت عن المشاركة في عطاء تشييد ميناءين يديرهما القطاع الخاص في أسدود وحيفا خوفاً من تنامي المقاطعة العالمية لإسرائيل. وصندوق التقاعد اللوكسمبورغي أيضاً سحب استثماراته من بنوك وشركات إسرائيلية كبيرة. وتأتي هذه الخطوات انسجاماً مع إقرار الاتحاد الأوروبي في أواسط 2013 معايير تمنع تمويل أي مشروع إسرائيلي في الأرض المحتلة، وقد عكس هذا التحول الضغط الشعبي المتزايد لأنصار الشعب الفلسطيني بالإضافة للعمل الدؤوب لمؤسسات حقوقية فلسطينية وأوروبية عملت بهدوء وراء الكواليس.

وقد تبنى عدد كبير ومتزايد من اتحادات الطلبة في جامعات الغرب نداء المقاطعة BDS، بينما تبنت اتحادات الطلبة في عدد من الجامعات الأمريكية والكندية سحب الاستثمارات من شركات متورطة في الاحتلال.

وخلال 2013، قررت أربع جمعيات أكاديمية في الولايات المتحدة دعم المقاطعة الأكاديمية الشاملة لإسرائيل، وكذلك فعل اتحاد المعلمين في إيرلندا واتحاد الطلبة الناطقين بالفرنسية في بلجيكا، ويضم 100 ألف عضو. كما قاطع ستيفن هوكنغ، وهو أعظم عالم معاصر، مؤتمراً إسرائيلياً رئاسياً. وقفز عدد الفنانين والفرق الموسيقية العالمية الذي بات يحجم عن إقامة عروض في دولة الاحتلال والأبارتهايد.

إن حملتنا لمقاطعة شركة "فيوليا"، والتي أطلقت في نوفمبر 2008، تثبت جدوى المقاطعة الاقتصادية أكثر من غيرها. "فيوليا" هي شركة فرنسيه متورطة في مشاريع إسرائيلية في الأرض المحتلة. خسرت "فيوليا" عقودا، أو اضطرت تحت ضغط حملة المقاطعة أن تنسحب من مناقصات، بقيمة تقارب 20 مليار دولار في العالم، في بريطانيا والسويد وإيرلندا ومدينتي سانت لويس وبوسطن الأمريكيتين، وغيرها.

كل هذه العوامل أدت إلى تراجع مكانة إسرائيل العالمية بشكل حاد. فاستطلاعات الرأي العام العالمي التي تجريها BBC(GlobeScan) أظهرت في السنوات القليلة الماضية أن إسرائيل باتت تنافس كوريا الشمالية على موقع ثالث أسوأ دولة في العالم من حيث الشعبية! هذا سينعكس بلا أدنى شك على التجارة الإسرائيلية مع العالم.

التطبيع

تميز اللجنة الوطنية للمقاطعة بين التفاوض مع العدو والتطبيع مع أحزابه ومؤسساته الصهيونية المتواطئة في إدامة مشروعه الاستعماري والعنصري. فبغض النظر عن طبيعة ما يسمى بـ"مفاوضات"، فمن المؤكد أن اللقاء بالأحزاب الصهيونية والمؤسسات المتورطة في جرائم إسرائيل ضد شعبنا تصب في خانة التطبيع، أي إظهار علاقة الاضطهاد والاستعمار القائمة وكأنها علاقة طبيعية.

يعد التطبيع من أهم معيقات حركة المقاطعة. بغض النظر عن النوايا، فإن محاولة البعض "لاختراق" المجتمع الإسرائيلي من خلال اللقاءات والمشاريع التطبيعية أدت إلى اختراق مجتمعنا وتقويض القيم الوطنية والأخلاقية فيه وتوفير ورقة التوت للتغطية على الاستعمار الإسرائيلي الشرس لأرضنا والتطهير العرقي المستمر لشعبنا في النقب والقدس والأغوار وغيرها وعلى حصار غزة. إن اللجنة الوطنية للمقاطعة تسترشد بتعريف التطبيع الذي أقر بالإجماع في المؤتمر الوطني الأول لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها الذي عقد في تشرين ثاني/نوفمبر 2007، وشارك فيه ممثلو جميع القوى السياسية (وعلى رأسها حركة "فتح") وجميع الأطر النقابية والاتحادات الشعبية وممثلي شبكات المنظمات الأهلية وغيرهم.

بعد 20 عاماً من فشل فلسفة "أوسلو" وما صاحبها من موجات التطبيع النسوي والعمالي والأكاديمي والشبابي والسياسي والرياضي والبيئي، المدعومة من الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة، باتت الغالبية الساحقة من شعبنا غير مقتنعة بإمكانية التأثير في المجتمع الإسرائيلي لصالح حقوقنا الوطنية من خلال "الحوار" وما يسمى بـ"التعايش" و "التغلب على الحواجز النفسية". لنا الحق، إذن، في التساؤل: من اخترق من، بالضبط، خلال حقبة أوسلو؟

إن كانت معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع تقر من خلال حوارات وجدل مجتمعي واسع وعلى مدى زمني طويل نسبياً، فإنها قابلة للتطوير والتعديل حسب تطور الوضع السياسي والنضالي لشعبنا. ولكن المهم هو أن نحافظ على هذه المرجعية الجماعية، وإلا بات كلّ يتبع معاييرَه الخاصة للتطبيع، والتي بالضرورة تستثني ما يقوم به من مشاريع ولقاءات مع الإسرائيليين، بحجة أنه "مختلف" و"يصر على الأجندة الفلسطينية"!

لم نرَ في التاريخ مجتمعاً استعمارياً غارقاً في العنصرية يتنازل طوعاً عن استعماره واضطهاده لشعب مقهور دون مقاومة وضغط فعال من الداخل والخارج. إن كفاحنا الشعبي والمدني داخلياً مصحوب بمقاطعة عالمية متنامية وفعالة لقادر على إحداث أعمق اختراق للمجتمع الصهيوني.

رغم التفاف الأحزاب والأطر والاتحادات الممثلة لغالبية الشعب الفلسطيني حول حركة المقاطعة BDS، إلا إن غالبية الأطر المنضوية في إطار اللجنة الوطنية للمقاطعة لم تترجم هذا التأييد بالدرجة الكافية إلى برامج واستراتيجيات تتبنى المقاطعة عملياً وفي الميدان، وهذا يفسر، جزئياً، عدم نجاحنا حتى الآن في نشر ثقافة المقاطعة شعبياً واعتبارها من جديد جزءاً أصيلاً من ثقافة مقاومة دولة الاحتلال والاستعمار والتطهير والأبارتهايد. إن نجاح المقاطعة مؤخراً في إحداث إختراقات نوعية وإرباك إسرائيل ومؤسساتها لا بد أن يشكل حافزاً إضافياً للتحول من التأييد اللفظي للمقاطعة والمشاركة الرمزية في أطرها واجتماعاتها إلى التطبيق العملي، كلّ في مجاله وإطار تأثيره.

إن المقاطعة BDSتشكل أحد أشكال النضال الفلسطيني الرئيسية وأهم أشكال التضامن العالمي مع نضالنا. لقد أثبتت حركة المقاطعة أنها قادرة على إيصال إسرائيل إلى عزلة دولية في كافة المجالات، ولكن هذا يتطلب مزيداً من تفعيل المقاطعة محلياً وعربياً ومناهضة حازمة للتطبيع بأشكاله. ولكن، في النهاية، لكي ننتصر، أصبح جلياً أننا بحاجة لاستراتيجية نضالية عصرية ولقيادة مبدئية وديمقراطية وثورية تمثل شعبَنا الفلسطيني، كلَّ شعبنا.

----------------------------------------------------

* تعكس هذه المقالة آراء كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن مواقف حركة مقاطعة إسرائيل (BDS).

**عمر البرغوثي: ناشط حقوق إنسان وباحث مستقل.