بقلم: عبد المجيد حمدان*

عقب النكبة كتب ونشر عدد من القادة الفلسطينيين مذكراتهم. قارئ المذكرات يتفاجأ، ويندهش، من كم وحجم المآثر والبطولات التي تسرد وقائعها تلك المذكرات. وبعد الدهشة يقفز أمامه سؤال: إذن كيف ولماذا وقعت تلك الهزيمة الساحقة والتي توجت بالنكبة؟

قديما قيل: آفة الفلسطينيين في قياداتهم. كان هذا قولا صحيحا وما زال. فالمذكرات تريك حجم التمحور حول الذات. التركيز على ما هو فردي، وإهمال ما هو جمعي. حقيقة الأمر أن بطولات فردية كثيرة وقعت، لكنها عجزت عن تحويل المجرى العام. كانت الهزيمة، وكانت النكبة.

نعم آفة الفلسطينيين في قياداتهم. فمنذ نشأة القضية الفلسطينية، قبل مائة وثلاثين سنة، ثبتت القيادات على منهج رفض المراجعة وإعادة التقييم. وهكذا ظلت الأخطاء، وما تجره من مصائب، تقع مرة بعد مرة، وبعد عشرين ومائة مرة، وحتى بعد ألف مرة. لماذا؟ لأن الذات القيادية أكبر من القضية. والمراجعة وإعادة التقييم لا تكشف الأخطاء فحسب، ولا تضع القواعد لعدم تكرارها وحسب، ولكنها تكشف ضعف القادة، وتعري عجزهم، فتفرض استبدالهم، وهو الأمر ليس المحظور بل والمحرم.

مثلا رافقت سني عمرنا مقولة أن فلسطين قضية العرب الأولى والمركزية. ولم نتساءل عن أي عرب يجري الحديث: فقراؤهم؟ طبقاتهم الوسطى؟ مثقفوهم؟ أغنياؤهم؟ ملوكهم؟ قادتهم؟ ....الخ. اعتقدنا، وما زلنا، أن فلسطين قضيتهم  كلهم. ومع أن الحقائق عنيدة، فقد واصلنا القفز عنها.

في منتصف الأربعينات، أثناء النكبة وبعدها، أحاطت بفلسطين ست ممالك عربية وجمهوريتان. ثلاث من هذه الممالك، العراق والأردن والسعودية، كانت بريطانيا، صاحبة وعد بلفور، هي من وضع ملوكها على عروشهم. والثلاثة ظلت أحلامهم تتجاوز ما حصلوا عليه. والثلاثة الآخرون، مصر وليبيا واليمن، إما أنهم كانوا تحت حكم بريطانيا المباشر، أو كانت قواعدها تربض على أراضيهم. والثلاثة الأُوَل كانوا أكثر من مدينين بالعرفان لبريطانيا، بل وبها، وبالحركة الصهيونية، ارتبطت أحلام تحقيق طموحاتهم. ولأن الحداية لا تحدف الكتاكيت، كما يقول إخوتنا المصريون، ولأن فلسطين كانت مطمع الحركة الصهيونية، وموضوع وعد بلفور، كان التنازل فيها وعنها، هو ضمان تحقيق رغبات وطموحات أولئك الملوك. وإليكم المثال التالي:

طلب السير بيرسي كوكس، المعتمد البريطاني للعراق والخليج، في عشرينيات القرن الماضي، من الملك عبد العزيز آل سعود – كان وقتها سلطانا وليس ملكاأن يوقع له على جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود. رد عبد العزيز: " إذا كان لاعترافي هذه الأهمية عندكم فأنا أعترف ألف مرة بإعطاء اليهود وطنا في فلسطين، أو غير فلسطين، وهذا حق وواقعي ".

لم يكتف السلطان بهذا التعهد الشفوي، بل أخرج من جيبه ورقة وكتب بخط يده التالي – كان شبه أمي-: " أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود أقر وأعترف ألف مرة للسير بيرسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى لا مانع عندي من إعطاء فلسطين لليهود المساكين أو غيرهم كما ترى بريطانيا العظمى التي لا أخرج عن رأيها حتى تصيح الساعة". ثم وقعها بختمه الموجود دائما في جيبه.

 الحاج عبد الله فيلبي – جون فيلبي ضابط المخابرات المعين لرفقة السلطانسأله فيما بعد: "كيف تبصم يا عظمة السلطان بهذا الشكل؟ ألا تتوقع أن يغضب العرب على عظمتكم فيما لو عثروا على هذه الوريقة؟ ". رد السلطان: "العرب ؟ وين العرب؟ نحن سلاطين العرب يا حاج فيلبي. لورنس اسمه ملك العرب، وفيلبي اسمه شيخ العرب، ولو انتظرنا رأي العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى، وما دامت بريطانيا راضية فلا يهم غَضِبَ العرب أو رضوا، وما دامت هذه الورقة عند كوكس فهي في مأمن".

 

وواصل فيلبي حديثه للسلطان: "ربما يسبب هذا التوقيع تشريد شعب فلسطين بكامله من فلسطين؟". وعلى هذه الجملة رد السلطان وهو يضحك بصوت مرتفع: "تريد أن أغضب بريطانيا لأن عددا من أهل فلسطين سيشرد! أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحمني بريطانيا من الأعداء... ولتحرق فلسطين بعد هذا... من يعرف في نجد شيئا اسمه السلطان ابن سعود لو رفضت أو عارضت أوامر سيدنا كوكس؟ ". ويبدو أن السلطان انتبه لما قصده الحاج فيلبي فاستدار إليه يسأله:" أنت تمزح وإلا صادق يا فيلبي؟". رد فيلبي: " لا يا عظمة السلطان أنا أمزح لأرى ما تقول".[i]

ولم تكن مواقف الملوك الآخرين بأفضل من مواقف السلطان. فقط لا يتسع المجال هنا لإيراد مزيد من الأمثلة. فالقيادات العربية، ملوكا ورؤساء، كانت وما زالت بوجهين. وجه مزيف وكاذب تطل به على شعوبها، ووجه حقيقي تتعامل به مع أسيادها. فحين عرض مشروع التقسيم على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقف مندوبو الدول العربية، الأعضاء وقتها، ضده. وبعد التصويت لم يكتفوا بالشجب والاستنكار، بل وأسمع بعضهم هذه الهيئة الدولية ما يمكن وصفه بتهديدات ضد اليهود كيهود. ولأن جرائم النازية كانت طرية في الأذهان، فقد صبت التهديدات تلك في طاحونة الصهيونية، التي حولتها إلى دعم دولي فاق كل أحلامها.

وجاء التطبيق العملي لتلك التهديدات، وكالعادة، مناقضا لمحتواها. أرسلت بعض هذه الدول، كالأردن والعراق ومصر وسوريا، قطعات من جيوشها النظامية إلى فلسطين، فيما اكتفت أخرى بالسماح لمتطوعين من السعودية والسودان وليبيا، حسبوا عدديا على الجيوش النظامية. وجاءت المفاجأة في أن هذه الجيوش التزمت حرفيا بقرار التقسيم، الذي سبق ورفضته حكوماتها. فلم يتخط أي منها، ولو بسرية واحدة، أي خط من خطوط التقسيم. حتى جيش الإنقاذ الذي شكلته الجامعة العربية من متطوعين، التزم هو الآخر بخطوط التقسيم. ولم تدخل ولو فئة من هذا الجيش المناطق المخصصة للدولة اليهودية حسب ذلك القرار.

أكثر من ذلك التزمت هذه الجيوش، والتي كانت أقل عددا وتسليحاً بكثير من جيش الهاغاناة، بخطط دفاعية عن مناطق تواجدها. ومن دخل منها في معارك هجومية، لاسترداد ما احتله جيش الهاغاناة من مناطق تحت حمايتها، دخل بمبادرة فردية من ضباط أبت عليهم شهامتهم غض البصر. وكان أن حوكموا على تجاوزهم للأوامر. وآنذاك صدق حدس الناس البسطاء، حين قالوا بأن هذه الجيوش لم تأت للدفاع عن فلسطين، وإنما لتأمين قيام الدولة اليهودية وتسليمها أرض الدولة الفلسطينية.

لفت النظر أيضا شكل التعبئة المعنوية لتلك الجيوش. فقد أمرت قياداتها بعدم الاطمئنان لأهل البلاد، الذين لم يكتفوا ببيع أرضهم لليهود كما قيل لهم، بل وتحولوا إلى خونة يعملون جواسيس لصالح عصابات الهاغاناة. وكان جيش الإنقاذ، جيش الجامعة العربية، الأكثر تشبعا بهذه الفرية. وما زاد الأمر إيلاما أن بعض الأخوة العرب، عاملوا اللاجئين الذين عبروا إلى أرضهم، استنادا لتلك الفرية.

والسؤال الذي يخطر على البال: هل راجعت قياداتنا الفلسطينية تلك الفترة، وأي فترة أخرى؟ والجواب: لا لم تفعل، لأنها  ترفض مبدأ المراجعة من الأصل. ولذلك تكررت الأخطاء وما زالت، وعظمت المصائب. أما الجديد، وبعد أكثر من ستين سنة من تكرر الأخطاء والخيانات، فهو أن سلطتنا تدخل المفاوضات وظهرها إلى فراغ. بعد أن تبخرت الكذبة القائلة بأن فلسطين هي قضية العرب الأولى.

ولقد ظل الروائي المبدع نجيب محفوظ، وفي رائعته أولاد حارتنا، يختم كل فصل من فصولها بالعبارة التالية: ولكن آفة حارتنا النسيان. وعلى منواله قالوا وأكرر القول: ولكن آفة شعبنا قياداته.

-----------

*عبد المجدي حمدان (ابو وديدة): كاتب فلسطيني، الأمين العام السابق لحزب الشعب الفلسطيني.

 


[i]    عبد المجيد حمدان، إطلالة على القضية الفلسطينية، 2 ، ص 118 – 119 .