كما تدين تُدان: دعوة لتأسيس قاعدة بيانات حول تواطؤ القضاء الإسرائيلي في انتهاكات القانون الدولي*

بقلم: أليغرا باتشيكو**

عندما بدأتُبالترافع عن قضايا حقوق الإنسان الفلسطيني أمام المحكمة العليا الإسرائيلية،[1]  سنة 1995، كانت هنالك قرابة دزينة من المحامين الملتزمين بشكل دائم لهذا العمل. كانت هنالك استراتيجيات ثلاث، في تلك الأوقات، توظّف في القضايا المتعلقة بالضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. كانت الإستراتيجية الأولى هي اللعب لكسب الوقت- بهدف منع هدم البيوت، مصادرة الأراضي، الحرمان من الحق في السكن، وإيقاف التعذيب. الإستراتيجية الثانية التي استعملها بعضنا كانت الترافع كنوع من التوثيق، خاصة في قضايا التعويض المستقبلية أمام محاكم العدالة الانتقالية. أما الإستراتيجية الثالثة فقد كان مصدرها البراءة/السذاجة التي تملكتنا آنذاك: وهي أننا كنا نعتقد انه بالإمكان التوجه للمحكمة العليا لدفعها إلى إصدار أحكام في صالح العدالة والمساواة في سياساتها تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة. نظريا، كانت الإستراتيجية الثالثة مبنية على كون المحكمة قد قررت أن تأخذ مسؤولية قانونية عن أعمال قوات الاحتلال منذ بدايات السبعينيات.[2]

بالنظر إلى الخلف، وبعد مرور قرابة العشرين عاما، بإمكان المرء القول بأن الإستراتيجيتين الأولى والثانية (تأجيل الخروقات المرتكبة ضد حقوق الأفراد الفلسطينيين من الضحايا وتوثيق الانتهاكات) لا تزالان صالحتين في الوقت الراهن. لكن الإستراتيجية الثالثة، المعتمدة على تبني المحكمة لمبادئ أخلاقية وقانونية ترفع من شأن العدالة والمساواة، باتت اليوم مسألة بحاجة إلى إعادة تقييم.

فبدلا من قيامها بتوفير الحماية والإغاثة للفلسطينيين، قامت المحكمة، على مرّ السنوات، بلعب دور فعال في تقويض حقوق الإنسان الفلسطيني. وقد خلقت المحكمة أسبقيات قانونية تسببت في الأذى والمعاناة على المستويين الفردي والجماعي. وقد قامت المحكمة، بشكل خاص، بإصدار ومنع إصدار قوانين مما قاد، في نهاية المطاف، إلى انتهاك كافة حقوق الإنسان المقررة للمدنيين: بناء المستوطنات، المصادرات الجماعية والاستخدام غير القانوني للممتلكات العامة والخاصة، التعذيب، العقوبات الجماعية، التدمير غير المبرر للممتلكات المدنية، التهجير الجماعي القسري والإبعاد، ضم المناطق المحتلة، وحرمان المساجين والمعتقلين الإداريين من حقوقهم. إن بعضا من هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان ينحدر إلى مستوى الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي؛ أي إلى ما يعرف بجرائم الحرب.

بعد عقود من المرافعة، لم يعد في وسعنا أن نبقى ساذجين فيما يتعلق بالمحكمة العليا الإسرائيلية: إننا نتعامل مع قضاة شغلوا في السابق مواقع رسمية و/أو حكومية وهم لا يمتلكون وازعا قانونيا (وفي بعض الأحيان، وازعاً أخلاقيا) يدفعهم إلى الاعتراض على مقولات أجهزة الأمن والجيش الإسرائيليين. إن سجلّ المحكمة يظهر الانحياز إلى مصالح الدولة الإسرائيلية على حساب مصالح المدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، والذين تقع مسؤولية حمايتهم ضمن نطاق صلاحيات المحكمة.

لو قام أحد ما بتجميع جميع القضايا المشتملة على الالتماسات التي قدمها فلسطينيو الضفة الغربية في المحكمة الإسرائيلية على مرّ السنوات، سيتمكن المرء من العثور على المئات، إن لم يكن الآلاف، من القرارات والأمثلة من المشاركة القضائية في ارتكاب الخروقات الكبيرة في حقوق الإنسان. إنني، من جعبتي المتواضعة، أستطيع وحدي الإشارة إلى أمثلة قام فيها العدل الإسرائيلي بتشريع أوامر هدم جائرة واعتقالات إدارية طويلة الأمد؛ إضافة إلى جرائم حرب محظورة عبر رفض التدخل في قضايا التعذيب، أو وقف التهجير الجماعي القسري لبدو الجهالين إلى مكبّ نفايات القدس، أو في مسائل منع العقوبات الجماعية في حالات هدم بيوت أزواج وأطفال منفذي العمليات المسلحة. فإذا أضفنا إلى كل هذا المحاكم العسكرية الإسرائيلية، والمحاكم اللوائية والمحاكم الأدنى، والمحاكم الإدارية، وقضاة جلسات الاستجواب، فإن تعداد حالات التواطؤ القضائية في انتهاكات حقوق الإنسان سيصل إلى بضعة آلاف بسهولة شديدة.

قد يتمكن الفلسطينيون ومحاموهم من خلق حوافز لإجبار القضاة على الحكم على نحو أكثر ارتباطا بالمبادئ القانونية الدولية، يمكن تحقيق ذلك عن طريق تجميع قاعدة بيانات للتواطؤ القضائي [الإسرائيلي] في مسائل انتهاكات حقوق الإنسان. فبالاستناد على قضيتين كنتُ قد ترافعت فيهما يمكننا تسليط الضوء على العوامل الأخلاقية في سيرورة اتخاذ القرارات في المحكمة العليا الإسرائيلية وكيف يمكننا التأثير عليها.

 

الصورة في عيون الاخرين مهمّة: قضية 1999 المتعلقة بالتعذيب

في أيلول 1999، وبعد خمسة سنوات من الترافع، أصدر القاضي أهارون باراك وثمانية قضاة آخرون بالإجماع قرارا بحظر وسائل تعذيب معينة، والمعاملة القاسية الموجهة للفلسطينيين من قبل المحققين الإسرائيليين. وقد صدر القرار بعد رفع العشرات من الالتماسات لوقف حالات تعذيب الفلسطينيين الذين امتنعت المحكمة العليا عن التدخل فيها.

برغم كون حظر التعذيب يرقى إلى الحظر المطلق ولا يملك أدنى المبررات القانونية وفقا للقانون الدولي، فإن قرار المحكمة بمنع وسائل تعذيب معينة قد اعتبر قرارا تاريخيا وتصدّر العناوين الرئيسية لصحيفة النيويورك تايمز. ورغم أن القرار قد كان جريئا، في السياق الإسرائيلي، فإن المحكمة لم تحظر بشكل تام جميع أشكال التعذيب والمعاملة القاسية والعقوبات غير العادية: فقد حافظت بذريعة سيناريو "القنبلة الموقوتة" (وهو الوضع الذي يفترض احتفاظ الموقوف بمعلومات قد تمنع هجوما وشيكا) وقد امتنعت المحكمة من توفير المعيار القانوني وفقا للمؤتمر المتعلق بالتعذيب. الأكثر من ذلك، هو أن المحكمة قالت بأن على الحكومة تمرير قانون يشرعن، بشكل تفصيلي، بعض الوسائل بحيث يوفر حماية قانونية للمحققين الإسرائيليين أمام الملاحقات القضائية بسبب ممارستهم للتعذيب. وبعد أقل من سنتين من ذلك التاريخ، اندلعت الانتفاضة الثانية، وقد تم التعامل مع كل المعتقلين الفلسطينيين تقريبا وفقا لـِ السيناريو الاستثنائي المسمى بـ "القنبلة الموقوتة". وقد قام المحققون بالعودة إلى استخدام أساليب الشبح المؤلم ووثق المعتقلين بشكل شديد.

كان افتضاح عمليات التعذيب المقننة دوليا هو ما لعب أحد أكثر الأدوار أهمية في إقناع المحكمة بإصدار قرارها "التاريخي" سنة 1999، أكثر مما فعل التعاطف مع آلام ومعاناة آلاف الموقوفين الفلسطينيين وأكثر مما فعلت الالتماسات الأسبوعية من منظمات حقوق الإنسان التي تصف حالات التعذيب. فقبل إصدار الحكم ببضعة شهور، احتجّ الطلاب على قيام باراك بتشريع تعذيب الموقوفين الفلسطينيين أثناء حفل منحه شهادة الدكتوراه الفخرية في جامعة ميتشغان. إلى متى يستطيع رئيس المحكمة الإسرائيلية، القاضي باراك، والذي يحل بشكل سنوي كضيف ومحاضر على كلية القانون في جامعة ييل Yale، أن يخفي سرّه الأسود بعيدا عن زملائه من خريجي جامعة Yale ؟ لقد خرج الجني من القمقم ولم يرغب القضاة الإسرائيليون بأن ترتبط أسماؤهم بقرار يشرّع التعذيب، لان موقعهم وشرعيتهم يعتمدا بشكل كبير على إقرار وقبول زملائهم في الخارج. وباختصار، فإن ذكر الأسماء وفضحها قد بدأ يفعل فعله. وقد اعترف باراك بالأمر في قراره سنة 1999:

في حسباننا أن هذا القرار سيشوش القدرة على التعامل بشكل مناسب مع الإرهابيين والإرهاب، وهذا ما يزعجنا. لكننا قضاة، برغم هذا. إن زملاءنا يطالبوننا بالتعامل وفق القانون. وهذا، بالمثل، هو المعيار الذي نضعه لأنفسنا ونصب أعيننا. إننا، عندما نجلس لكي نقاضي، فإننا نتعرض للمقاضاة.

يظهر أن باراك والمحكمة في هذه القضية قد دُهموا من الخطر الذي يتهدد صورتهم، خلا المعايير القانونية والأخلاقية. وإلى ذلك، فإن القرار لم يمنع جميع أشكال التعذيب، لكنه قام، بدلا من هذا، بتحديد الجريمة بما يكفي لاستجلاب ردود فعل إيجابية داخل المجتمع اليهودي-الإسرائيلي وفي الغرب.

 

ضمير نادر الوجود: قضية عملية الهدم العقابي لأحد البيوت

لإجراء المقارنة، فإنه من المثير النظر إلى اللغة المستخدمة في حالة شديدة الندرة صدرت عن قاضٍ في المحكمة العليا الإسرائيلية، والذي رفض أن يكون شريكا في التواطؤ لانتهاك أبسط مبادئ العدالة وللتسبب في المعاناة الظالمة للمدنيين الفلسطينيين. لقد أطلق تصريحه هذا في رأي معارض لرأي طاقم قضاة المحكمة العليا في القضية التالية.

ففي العام 1997، أراد الجيش الإسرائيلي هدم منزل أرملة منفذ أحد العمليات التفجيرية من قرية صوريف قرب الخليل. وقد كانت الأرملة، ميسون محمد غنيمات، ابنة الـ24 عاما أماً لأربعة أطفال. لم يعتزم زوج ميسون الانتحار، لكن القنبلة انفجرت قبل أوانها في مقهى تل أبيبي فلاقى حتفه مع ثلاثة نساء إسرائيليات. قام الجيش الإسرائيلي باعتقال أبناء عائلة ميسون في أعقاب الانفجار. وقد عانت الأرملة من انهيار عصبي وتم نقلها إلى المشفى تاركة خلفها أطفالها المصدومين من دون أمهم. وقد ادعى الجيش الإسرائيلي بأن الهدم المشار إليه لم يكن عقابيا (لتفادي الاتهام بممارسة العقوبات الجماعية)، بيد أن الهدف من ورائه كان ردع منفذين مستقبليين لعمليات التفجير. وكما حدث في مئات الحالات على مر عقود خلت، فقد أقرّت محكمة العدل العليا برئاسة القاضي أهارون باراك هذا التسويغ رغم معرفتها بأن نظرية الردع العسكرية كانت موضع شك. قامت المحكمة بردّ الالتماس وتم تدمير البيت، وفي معرض تبريره الواهن، كتب باراك:

إننا نعلم بأن الهدم سيترك الملتمسة رقم 1 وأطفالها من دون سقف يؤويهم، لكن هذا ليس هو هدف الهدم. فهو ليس إجراء عقابيا. إنه يهدف إلى الردع. إن نتيجته ستشكّل صعوبات للعائلة، لكن المدعى عليه يعتقد بأن هذه الوسيلة هي ضرورية لمنع هجمات أخرى على الأبرياء. إنه يدفع بهذه العائلة إلى رفض تشجيع الإرهابيين. ما من ضمان بأن هذه الخطوة ستكون فعالة. ولكن، وبالنظر إلى البدائل الأخرى المتبقية أمام الدولة للدفاع عن نفسها أمام هذه الـ "قنابل البشرية"، فإننا لا يجب أن ننكر هذه الوسيلة. إنني أرفض، لهذه الأسباب، هذا الالتماس.[3]

أما القاضي ميشيل حيشنا، وهو القاضي الثالث على منصة القضاء، فقد رفض الضلوع في خطوة العقاب الجماعي هذه. وقد سجل اعتراضه على ترهات رئيس المحكمة والجيش، مسمّيا الأمر باعتباره ليس فعل ردع، وقد كتب بحزم:

قمتُ، في العديد من الحالات، بالإشارة إلى الصعوبات التي تعتري ممارسة الصلاحيات الممنوحة وفقا للمادة 119 من مرسوم الدفاع. ... في جميع هذه الأحكام القضائية قمت بالتجذّر في مبدأ قانوني أساسي، ولن أحيد عنه. إنه المبدأ الأساسي الذي طالما اعترف به أبناء شعبنا وكرروه: إن كل إنسان ينبغي أن يدفع ثمن جرائمه. ... إن المعترضة رقم 1 هي زوجة الانتحاري القاتل، وهي أم لأربعة أطفال صغار. تقيم المرأة وأطفالها في ذات الشقة التي عاش فيها القاتل، لكن لا أحد بإمكانه الادعاء بأنهم شركاء في خطته لإزهاق أرواح بريئة. وبالمثل، فلا أحد يستطيع الادعاء بأنهم كانوا يعلمون بأمر التخطيط للعملية. إن قمنا بتدمير منزل المفجّر فإننا سنقوم في ذات العملية بتدمير بيت هذه المرأة وأطفالها. وبذا فإننا نقوم بمعاقبة هذه المرأة وأطفالها على الرغم من أنهم لم يقوموا بأي سوء. إننا لا نقوم بهذه الأفعال هنا. ...  ما أقوله الآن هو أمر لم أقله قبلاً. لقد تأنيت طويلا وتفكّرت بصعوبة إلى أن توصلت الى هذا الاستنتاج. هذه هي التوراة التي تعلمتها من معلميّ، وهذه هي عقيدة القانون التي أمسك بها في يديّ. إنني لن أستطيع أن أصدر حكما مختلفا.[4]

أماط القاضي حيشنا اللثام عن الخطاب الأمني وكشف اللا قانونية والعواقب الإنسانية المترتبة على الهدم والمرتبطة بهذا الخطاب. لو تمسك قضاة آخرون بالبقاء مخلصين لمبادئ العدالة وتبنّوا سيرة حيشنا فيما يتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني في تاريخ المحكمة، لكان بالإمكان إحداث تحول عميق. لكن، وللأسف، فإن اعتراض حيشنا يبقى على ما هو عليه: اعتراضا وحيدا من دون أن يرقى حتّى إلى تشكيل سابقة.

 

إخضاع القضاة الإسرائيليين للمساءلة

رغم أن هنالك تناميا في حركة الدعوة لمساءلة المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين الذين يرتكبون انتهاكات ضد حقوق الفلسطينيين، إلا أن هنالك تركيزا ضئيلا على دور قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية رغم أن دورهم كان دورا محوريا في شرعنة الانتهاكات الإسرائيلية.

لقد كان واضحا بالنسبة إلي، كمحامية عاملة في مجال حقوق الإنسان بأن المحكمة العليا حين تعارض مخططا للجيش الإسرائيلي، أو الأجهزة الأمنية، أو الإدارة المدنية (وليكن مثلا الهدم، الاعتقال، التعذيب، إلخ)، فإن القوات الإسرائيلية غالبا ما ستتوقف عن تنفيذ الانتهاك المشار إليه. وبمعنى ما، فإننا، محامو حقوق الإنسان، قد قمنا بالمساعدة في تطوير دور وقوة هؤلاء القضاة عندما قمنا بالتوجه إليهم للالتماس فيما يتعلق بهذه الخروقات. إن التماساتنا قد منحتهم الشرعية بأن يكونوا أصحاب القرار النهائي فيما يتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال اللا شرعي.

إن القضاة، في النهاية، يتحملون المسؤولية الكبرى عن الخروقات التي تشرعنها المحكمة العليا، ولا مفرّ من هذه المسؤولية على ضوء حقيقة التحذيرات المتكررة التي صدرت عن محامي حقوق الإنسان فيما يختص بالتزامات المحكمة الإسرائيلية تجاه حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. وعلى مرّ العقود، لم يأخذ القضاة هذه القوانين والأعراف على محمل الجد، وبدلا من ذلك، فقد اتسموا بحصانة قليلة الحياء.

لقد تجاهل معظم القضاة دور القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان فيما يخص الاحتلال العسكري. ففي مؤتمر عقد سنة 2009 برر أهارون باراك، الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية عدم اكتراثه بقانون حقوق الإنسان في قراره بقلة فهمه للقانون الدولي. وقال:

كانت المسألة المطروحة أمامي هي نطاق القوة التي تمتلكها السلطات العسكرية [في المناطق]. وبلغ الأمر حد أن حقوق الإنسان كانت قادرة على تقييد هذه القوة، لقد كان هذا نتيجة، اشتقاق، من تركيز السلطة في الدولة...  أما الآن، وانطلاقا من فهمي الجديد والأفضل لدور القانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الإنساني الدولي، بدأت وجهة نظري بالتحول أقل فأقل من الحديث عن قوة الجيش، إلى الحديث أكثر فأكثر عن مسألة حقوق الإنسان والحقوق المدنية للناس الذين يعيشون هناك.[5]

اعترف باراك، في ذات المنتدى، بأن وضع حقوق الإنسان في الضفة الغربية كان حرجا وقد أشار إلى الضفة الغربية باعتبارها "المناطق المحتلة" بدلا من "يهودا والسامرة"- وهو التعبير اللطيف الذي طالما استخدمه في قرارات محكمته بهدف تفادي الاعتراف بانطباق القوانين المتعلقة بالاحتلال. وقد ردّت صحيفة هآرتس الإسرائيلية فورا:

نستغرب لِمَ يدلي باراك بتصريحاته الآن؟ فباعتباره إنسانا ترأس محكمة إسرائيل العليا لـ11 عاما، فقد كان يمتلك فرصا لا تعد ولا تحصى لإصدار تحذيراته وتحسين وضع حقوق الإنسان والديمقراطية في إسرائيل والمناطق المحتلة. إن المحكمة برئاسة باراك لم تقم بما يكفي في هذا المجال. وقد توقف نشاط باراك القضائي لعدة مرات عندما كان الأمر محل المداولة يخص حقوق الإنسان في المناطق، وقد رفضت المحكمة لسنوات طوال أن تأخذ موقفا في هذه المسائل المهمة.

إن توكيد باراك المخادع على كونه لم يعرف بما يكفي عن القانون الدولي، إضافة إلى التحول الاستثنائي في لغته هي أمر غير مناسب. ولا زالت الطريق طويلة أمام تحميل قضاة المحكمة العليا المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني.

لنأخذ، على سبيل المثال، أحد آخر تصريحات رئيسة المحكمة العليا، دوريت بينيش، ففي قضية من العام 2009 ضد شرعنة المحاجر الإسرائيلية في المنطقة Cحيث 90 بالمائة من المواد المستخرجة تصدّر إلى إسرائيل، قامت بينيش بإعادة تفسير تقييدات القانون الإنساني الدولي لقدرات القوة المحتلة على استغلال المصادر الطبيعية للأرض المحتلة، وقامت القاضية بتطوير توجه روائي لملاءمة ومساعدة عمليات التحجير الإسرائيلية. وحجة بينيش بأن الاحتلالات الطويلة والممتدة تمتلك امتيازات "الدور الحكومي" بحيث تمتد سلطة الاحتلال إلى استغلال المصادر الطبيعية للأرض المحتلة لمصالحها الاقتصادية. إن هذا التفسير للقانون الإنساني الدولي هو انحراف خطير عن التفاهمات المقبولة حول القوانين المتعلقة بالاحتلال وقد أغضبت سبعة من الأكاديميين القانونيين الإسرائيليين البارزين، ما دفعهم إلى إصدار انتقاد لاذع، واصفين القرار بكونه "متعارض مع التفسيرات المقبولة للبعد المحدود زمنيا للقوانين المتعلقة بالاحتلال" بالإضافة إلى كونه "غير متوافق مع مبدأ التزامات المحتل تجاه السكان المحميين."[6]

إن المساءلة ليست بعيدة المنال كما تبدو. فنتيجة لتطبيق الولاية القضائية العالمية على المسؤولين الحكوميين، فإن تواطؤ المحاكم الإسرائيلية قد بدأ يلفت انتباه دول طرف ثالث. ويضطر القضاة الإسرائيليون إلى توخي الحذر أثناء تسهيلهم مخالفات القانون الدولي.

مستعمرة هارحوما على جبل أبوغنيم، بيت لحم، كانون الثاني ٢٠١٤ (تصوير: عمر عواد)

الخطوات التالية لمحامي حقوق الإنسان الفلسطينيين

إحدى الردود على الهوة ما بين الأحكام الإسرائيلية والأعراف القانونية الدولية هي التوقف التام عن التقاضي أمام المحاكم الإسرائيلية. إن مثل هذا النوع من العمل سيعالج مسائل على شاكلة: هل يمكن تحكيم محكمة ترجّح مصالح الدولة الإسرائيلية من خلال إضفاء القانونية على أفعال جيشها ضد السكان الأجانب الواقعين تحت سيطرتها؟ هل ينبغي على محامي حقوق الإنسان والملتمسين الفلسطينيين إضفاء شرعية على سلطة المحكمة العليا عبر منحها حق الفصل في مسائل رئيسية تؤثر على تقرير مصير الفلسطينيين على شاكلة ضم القدس الشرقية، أملاك اللاجئين، عمليات المصادرة الجماعية للأراضي الخاصة والعامة، التوسع الاستيطاني وبناء الجدار في الضفة الغربية؟

يجب على المحامين والفلسطينيين تبني رؤية تكتيكية واضحة حول النشاطات القانونية البديلة بهدف التوصل إلى مقاطعة المحاكمة الإسرائيلية. إننا، كمحامين، ملزمون بالعثور على مساعدة لزبائننا حيثما استطعنا، وربما، وفي حالات فردية، فإن الدعاوى في المحاكم الإسرائيلية قد تتمكن من تحقيق ذلك برغم كل شيء. في هذه الحالات التي يقرر فيها الفلسطينيون مواصلة رفع دعاويهم أمام المحاكم الإسرائيلية، ينبغي على محامي حقوق الإنسان أن يضيفوا إلى قائمة مهامّهم اعتبار القضاء الإسرائيلي مسؤولا عن المشاركة في الجريمة. إن تسمية القضاة وفضح قراراتهم ينبغي أن يكونا جزءا لا يتجزأ من مرجعية كل محامي فلسطيني لحقوق الإنسان. ورغم ذلك، وفي كلتا الحالتين- المقاطعة أو مواصلة الترافع- فإن المسؤولية القضائية (في الماضي والحاضر) بما يتعلق بالخروقات السافرة لحقوق الإنسان ينبغي أن تكون مشمولة في الإستراتيجية. إحدى الطرائق التي يمكن البدء منها هي عملية بناء قاعدة معلومات لتوثيق عمليات اتخاذ القرار في المحاكم بما يندرج تحت بند انتهاك حقوق الإنسان.


بناء التصور المفاهيمي لقاعدة بيانات خاصة بمساءلة القضاء الإسرائيلي

إن مشاركة القضاة في انتهاكات حقوق الإنسان تتعلق بحقوق الأفراد الفلسطينيين، ولكن، وفي بعض الحالات، فإن المحاكم تضلع في جرائم دولية خطيرة (على سبيل المثال: الاضطهاد القائم على أساس القومية، الدين و/أو العرق؛ التهجير القسري و التمييز المدعوم من قبل الدولة). أحد الأمثلة التي يمكن سوقها على ذلك هو دور المحكمة العليا في مشروع الاستيطان: فتهرب المحكمة المتعمد والثابت من البت مباشرة في شرعية المستوطنات (لمعرفتها بأن هذا سيتيح للمشروع الاستيطاني أن يتواصل) جنبا إلى جنب مع تاريخها الطويل في شرعنة كل جانب تقريبا من المشروع (عمليات المصادرة، التخطيط، عمليات الهدم). وقد وصف ناحوم برنيع، وهو واحد من أبرز المعلقين في الصحيفة الأوسع انتشارا في إسرائيل وصف بوضوح هذا الدور في العام الماضي:

لقد تمثلت الخطيئة الأصلية في أن المحكمة [العليا]. في العقد الثاني بعد حرب الأيام الستة، عندما تحولت المستوطنات من ظاهرة هامشية إلى سياسة الدولة الرئيسية في المناطق. لقد طُلِبَ إلى المحكمة [العليا] أن تحدد موقفها من سلسلة من العرائض. وقرر القضاة على مر السنوات تجاهل القانون الدولي، الذي يمنع الاستيطان في الأراضي المحتلة، وقامت بدلا من هذا بالتركيز على مسألة الملكية... لقد كان هذا الخيار مريحا لجميع الأطراف: فقد أظهر محكمتنا أمام العالم باعتبارها بطلة حقوق الإنسان وبأن أبوابها مفتوحة حتى أمام الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال. وقد سمحت لليسار الإسرائيلي بالانتصار بين الفينة والأخرى في الصراع ضد المستوطنات. والأهم: سمحت للحكومات الإسرائيلية بالاستيطان في المناطق كأنه لن يكون هنالك يوم حساب...[7]

إن وجود قاعدة معلومات متعلقة بالمساءلة القضائية قد تحلل أدوار قضاة المحكمة العليا وقراراتهم المتعلقة بحقوق الإنسان الفلسطيني. إن التواطؤ الفردي والجماعي للقضاة يمكن أن يقاس بشكل منهجي بمعايير القانون الدولي. هذه المعلومات يمكنها أن تدعم المساءلة القانونية في المستقبل، خصوصا على المستوى الدولي على شاكلة محكمة العدل الدولية في شأن المستوطنات والفصل العنصري، وفي قضايا الولاية القضائية الدولية ضد القضاة. ويمكن استخدام قاعدة المعلومات هذه أيضا كأداة للدعوة لحقوق الإنسان.

إن نشر قاعدة البيانات هذه، محليا ودوليا – إلى قضاة محاكم العدل العليا في الدول الأخرى وإلى نقابات المحامين الوطنية أو إلى المؤسسات القانونية الأكاديمية والدولية والتي تقوم بدعوة القضاة الإسرائيليين بشكل منتظم إلى محاضراتها، مؤتمراتها، أو إلى كتابة مؤلفاتها- من شأنه أن يضاعف من التأثير. ويمكن أن يبدأ قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية بإعادة النظر في سوابقهم الماضية والبدء في الحكم بما يتماشى مع القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان مع علمهم بأنهم خاضعون للمراقبة والتعقب لدورهم في الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين. إن ’التسمية والفضح‘ قد يكون أيضا بمثابة أساس للمطالبة باستبعاد هؤلاء القضاة من المحافل الدولية التي تسبغ عليهم الشرعية التي يحتاجونها.

لا ينبغي أن تقتصر قاعدة البيانات على قضايا حقوق الإنسان في الأرض المحتلة –الضفة الغربية وقطاع غزة. هذا سيكون جانبا واحدا من الموضوع. بالتوازي، فإن قاعدة البيانات هذه ينبغي أن تشمل قضايا تؤثر على الفلسطينيين من مواطني إسرائيل واللاجئين الذين يؤثر عليهم تنفيذ القانون الإسرائيلي في مؤسسات إسرائيلية أخرى قد تمارس انتهاكات محتملة لحقوق الإنسان: المدعين العامين، الوزارات والوزراء، الجيش الإسرائيلي ومسؤولي الإدارة المدنية. إن مثل هذه الموارد تضحي مفيدة جدا في عمليات العدالة الانتقالية المقبلة كما هو الحال في مخططات التعويضات، لجان المصارحة والمصالحة والتخطيط لعودة اللاجئين الفلسطينيين.

فيما يتعلق بالقرار حول ما إذا كان ينبغي الاستمرار في استخدام المحكمة العليا الإسرائيلية لتحسين حقوق الفلسطينيين ينبغي أن نضيف مستوى آخر من التدقيق: مساءلة القضاة عن قراراتهم الماضية والحالية. إن قاعدة البيانات هي وسيلة للمباشرة في هذه العملية. والمعلومات التي تنتجها يمكن أن تقطع شوطا طويلا نحو دفع القضاة الإسرائيليين إلى تنفيذ القانون الدولي ووضع حد لعمليات فرض العقوبات ولشرعنة انتهاك الحقوق الفلسطينية، كما أنه سيكون مفيدا في إجراءات العدالة الانتقالية المستقبلية.

-------------------------------------

* هذا المقال ترجمة للنسخة الأصلية المنشورة بالانجليزية في مجلة المجدل على الرابط: www.badil.org/al-majdal

** أليغرا باتشيكو: محامية دولية تقطن في الضفة الغربية. وتحمل شهادة الدكتوراه من كلية الحقوق في جامعة كولومبيا، وهي محامية معترف بها من قبل البورد الإسرائيلي وبورد نيويورك. وقد قامت بالترافع في العديد من القضايا أمام المحكمة الإسرائيلية العليا دفاعا عن حقوق الإنسان الفلسطيني.

--------------------------------------

ملاحظة هامة: النص الأصلي للعنوان مقتبس من مقولة لرئيس المحكمة العليا، أهارون باراك :"إننا، عندما نجلس لكي نقاضي، فإننا نتعرض للمقاضاة". وهو أصلا تنويع على اقتباس  من "براشات مشباتيمفي الهالاخاة اليهودية.  بيد أن اللغة والثقافة العربية تحتوي على الحديث النبوي "كما تدين تدانالذي يحمل ذات المعنى بصيغة أقل ارتباكا وأكثر تكثيفا، لذا آثرت استخدام المثل العربي (وهو ترجمة أكثر اقترابا من معنى المقولة ومن كثافتها العقيديةللعنوان – المترجم.

------------------------------------

الهوامش:

[1]تلتئم المحكمة العليا الاسرائيلية مثلها مثل محكمة العدل العليا لدى تداول أعمال الحكومة و/أو المؤسسات الإدارية. تختلف الإجراءات  المعمول بها في الحالات المعروضة أمام المحكمة العليا، لكن الهيئة وفي كل الأحوال هي ذات الهيئة المتمثلة في محكمة العدل العليا، مع ذات القضاة.

[2]محكمة العدل العليا رقم 72/302، الشيخ سليمان حسين القضاة أبو حلو وآخرون ضد حكومة إسرائيل وآخرين.

[3]  ميسون محمد غنيمات ضد القائد العام، محكمة العدل العليا "باجاتس" 97/2006، الترجمة الإنجليزية مأخوذة من  Judgments of the Israel Supreme Court: Fighting Terrorism within the Law, p. 32 at http://www.jewishvirtuallibrary.org/jsource/Politics/terrorirm_law.pdf

[4] المصدر السابق، الترجمة الإنجليزية  ص. 33-34

[5]“Aharon Barak: W. Bank is Occupied Territory”, Dan Izenberg, The Jerusalem Post, 25 June 2009.

[6]الفقرة 3 من رأي الخبراء مقدمة لتدعيم DANGATZ 316/12، يمكن العثور على ترجمة إنجليزية للرأي القانوني على الرابط www.yesh-din.org.

[7]“Don’t Evict Migron”, Nahum Barnea, Yedioth Ahronoth, 27 Aug 2012, http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4273648,00.html