القانون العسكري الإسرائيلي: أداة لشرعنة الاضطهاد والظلم*

بقلم: عايد أبو قطيش**

يتشكل الإطار القانوني للقوانين العسكرية الإسرائيلية مما يزيد عن 1,700 أمر عسكري يطبق على الأرض الفلسطينية المحتلة (باستثناء القدس الشرقية)، وهو يستخدم لتكريس احتلال عسكري طويل وقمعي. القانون العسكري الإسرائيلي يقطع الصلة ما بين  الجندي الفرد، والمدعي العام الإسرائيلي، والقضاة وآخرين عن خيارهم بتطبيق الاحتلال وحرمان السكان الفلسطينيين من حقوقهم. ويحاول القائد العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية التهرب من المسؤولية عبر عزل نفسه عن النظام القانوني (الاوامر العسكرية)، وبذا تُظهر استقلاليتها، واثبات فكرة سيادة القانون من الناحية النظرية، غير أن  هذه المحاولات لا تنطلي علينا.

يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات، احد المبادئ الأساسية الديمقراطية، لكنه مغيب تماماً عن النظام القانوني العسكري الإسرائيلي. وبدلا من ذلك، يمتلك القائد العسكري الإسرائيلي سلطة تشريعية، قضائية، وتنفيذية على الأرض الفلسطينية المحتلة. ويصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي بشكل أحادي الجانب أوامر عسكرية، ويحدد كيفية تطبيقها، وينفذ كل منها بقوة الجيش العسكري الإسرائيلي والسلطات الحكومية. فيما لا يملك الفلسطينيون أي دور في [التأثير على] الأوامر العسكرية التي تتحكم في حياتهم اليومية. إن الاوامر العسكرية الإسرائيلية ليست قوانين، رغم أنها تعمل بهذه الطريقة، إذ انها تهدف إلى منح غطاء قانوني لمنظومة التمييز الممأسسة.

لا يطمح القانون العسكري الإسرائيلي إلى فرض العدالة. وبدلا من ذلك، يخدم الإطار القانوني العسكري الإسرائيلي باعتباره أداة لشرعنة الممارسات القمعية ومعاقبة السكان الفلسطينيين، بالتوافق مع تطبيق القوانين العسكرية التمييزية والظالمة  لا تعفي الفرد من مسؤوليته، ولا تضيف أية قيمة للقانون نفسه.

إن النظام القضائي العسكري الإسرائيلي مصمم لحماية "أمن إسرائيل"، وبالتحديد: أمن المواطنين اليهود-الإسرائيليين فوق كل من عداهم. فيما تحتفظ إسرائيل بحق الحفاظ على "النظام العام" والسيطرة على الأرض الفلسطينية المحتلة من خلال تجريم ومعاقبة كل أشكال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بغض النظر عن درجتها أو عنفها من عدمه.

وجد نظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية بهدف الملاحقة القضائية للفلسطينيين المعتقلين على يد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، والمتهمين بارتكاب الخروقات الـ "أمنيّة" وغيرها. ويتضمن القانون العسكري الإسرائيلي وقانون الطوارئ، وهما قانونان مطبقان في المحاكم العسكرية الإسرائيلية، تشكيلة من الاتهامات التي تحمل تعريفات تجريمية عامة تنسجم مع القانون المحلي، لكنها أيضا تشتمل على تجريم أفعال تتعلق بمقاومة الاحتلال وأخرى سياسية، بما يشمل العضوية في منظمات محظورة أو المشاركة في الاحتجاجات. وعلاوة على ذلك، يمنع القانون العسكري الإسرائيلي أبسط الحقوق في محاكمة عادلة ولا يحترم معايير القانون الدولي.

إن دائرة تأثير المنظومة القضائية العسكرية الإسرائيلية واسعة وتشمل كل مناحي الحياة اليومية الفلسطينية. ويتم إخضاع جميع الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة إلى القانون العسكري بطرق عديدة.

"الأمن":

يدعي المسؤولون الإسرائيليون والمنظمات المؤيدة لإسرائيل بأن إسرائيل هي "دولة ديمقراطية، يهودية" فيما يتم الاعتماد على سرديّة "الأمن" بشكل كبير لتخليد هذه الفكرة. فـسردية "الأمن"  تستخدم من أجل التشويش على، والتدخل في، وهدم حياة الفلسطينيين، مانعة إياهم من أي شعور بالحياة الطبيعية.

يتداخل موضوع "الأمن" مع العديد من السياسات الإسرائيلية، سواء كانت سياسية أم اقتصادية، وبالتحديد فيما يتعلق بعلاقتها بالدول الجارة والدول الأجنبية. ويظهر هذا العامل "الأمني" بشكل معتاد في تصريحات إسرائيل السياسية، سواء على المستوى المحلي، الإقليمي، أم الدولي. فعبر استخدام "الأمن" كتبرير، تمكنت إسرائيل من تمرير العديد من السياسات المحلية التي تشرعن الممارسات التي تنتهك مبادئ والتزامات قانون حقوق الإنسانأمني الدولي.

وتقوم إسرائيل بالدفع قدما بمفهوم "الأمن" باعتباره نظرية محايدة، لكن، وفي واقع الأمر، فإن حقوق المواطنين اليهود- الإسرائيليين، محمية من خلاله من دون أي اعتبار للانتهاكات التي يتم ارتكابها بهدف التوصل إلى هذا الهدف. حيث تدعي اسرائيل بشكل معتاد بأن البيئة المحيطة بها هي بيئة معادية، وبذا، فإنها تجبرها على ممارسة السيطرة المنهجية وإخضاع الحقوق الفلسطينية. فالقانون العسكري الإسرائيلي يستخدم كأداة تتحيز لـ "أمن" اليهود-الإسرائيليين على حساب الحقوق الفلسطينية.

السجن والإخضاع للسيطرة

تشكل نظام المحاكم الإسرائيلية العسكرية عندما قامت اسرائيل باحتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة في حزيران 1967. وهذه المنظومة القضائية العسكرية هي جزء من المنظومة الإدارية المخصصة لإخضاع الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة والسيطرة عليهم. لقد بدأت هذه المحاكم مع بداية الاحتلال وستستمر طالما واصلت اسرائيل احتلالها لهذه الأرض.

كان الشكل الأساسي لإخضاع الفلسطينيين القاطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة والسيطرة عليهم، وما زال، هو الاعتقالات الجماعية. فمنذ بدء الاحتلال الإسرائيلي في العام 1967، اعتقل الجيش الإسرائيلي مئات آلاف الفلسطينيين، وبضمنهم الرجال، النساء، والأطفال، وقام بملاحقتهم قضائيا بطريقة ممنهجة في المحاكم العسكرية الإسرائيلية.

ورغم أن الاعتقالات، المحاكمة، والاحتجاز هي مكونات فرض العدالة في جميع المنظومات القضائية في سائر أرجاء العالم، إلا أن نظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية غير معني بتحقيق العدالة. ففكرة الاحتلال العسكري الإسرائيلي تدور حول السيطرة، ونظام المحاكم العسكرية يستخدم من أجل فرض هذه السيطرة. إن معدل الاعتقالات في أوساط الفلسطينيين خلال فترة الاحتلال المستمر هو معدل عال بكل المقاييس، فخلال فترة التوتر السياسي في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها الانتفاضتين الأولى والثانية، كانت نسبة الاعتقالات في صفوف الفلسطينيين هي الأعلى في العالم بالنظر لنسبة السكان.

إن معدلات الاعتقال ليست دائما وليست بالضرورة مؤشرا على انتشار الجريمة، وهي ليست عقابا على انتهاك القوانين. ورغم ذلك، فإنها تظهر كيف أن القانون يستخدم للسيطرة على السكان. إن تحليل الحد الفاصل بين الفعل "القانوني" وذاك "غير القانوني" هو أمر مهم من أجل الوصول إلى هذا الفهم. فحيث يقوم القانون العسكري الاسرائيلي بتجريم العديد من الأفعال والتصرفات، وبضمنها تلك أفعال تندرج في قائمة الأعراف الدولية المحمية في قانون حقوق الإنسان، يشكل بحد ذاته تأكيد على أن القوانين هي قوانين ظالمة. وبينما يعتبر القانون العسكري الإسرائيلي الاعتقالات الجماعية للفلسطينيين "قانونية"، فإن هذا لا يستوي والعدالة بحكم أن القانون نفسه هو قانون مجحف ولا يضمن الحقوق الأساسية البسيطة. فهذه القوانين مصممة لكي تحرم الأفراد من حقهم في الاحتجاج السلمي.

تدمير عشرات المنازل في جباليا، غزة، ٢٩ كانون الثاني ٢٠٠٩ (المصدر: مركز الميزان).

القانون العسكري وحقوق الطفل:

خضع النظام العسكري القضائي العسكري الإسرائيلي لبضعة تعديلات تجميلية على مدى السنوات الثلاث الماضية، بيد أن هذه التعديلات لم تؤثر على طبيعة هذا النظام، المصمم في جوهره للسيطرة والإخضاع بدلا من السعي للعدالة. وتشمل التغييرات المحددة إجراءات تتعلق بالأطفال على شاكلة إنشاء محكمة عسكرية للأحداث، والتي رفعت سن الرشد من 16 إلى 18 عاما، وتخفيض فترة مثول الأطفال أمام القاضي للمرة الأولى، فيما لم تتح هذه التعديلات باستحداث أية حقوق للأطفال المحتجزين ولم توفر لهم حماية إضافية قد تتسبب في إنهاء الممارسة المنهجية وواسعة النطاق من سوء معاملة الأطفال الفلسطينيين وتعذيبهم خلال الاعتقال والاستجواب.

لم تخفض التعديلات الأخيرة على القانون العسكري من مدة فترة الاعتقال المفروضة على الأطفال. كما أنها لم تضمن الإفراج بكفالة عن الأطفال أثناء الإجراءات القانونية. حيث يتم عرض الأطفال الفلسطينيين على المحاكم العسكرية الإسرائيلية كخيار أول، ويتم التحفظ عليهم في الاعتقال الذي يسبق المحاكمة طيلة مدة الإجراءات القانونية المتخذة ضدهم.

خلاصة القول هي أن أي نظام قانوني يهدف للسيطرة وللإخضاع هو نظام غير قادر على إقامة العدل، وبذا، فإن التعديلات المذكورة على  القانون العسكري لا تغير من طبيعة الغرض أو من الإطار القانوني العسكري. فهي تهدف إلى قمع التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير. إن هذا التمييز المنهجي في القانون وإنفاذه هو سمة أساسية من سمات هذا النظام. إضافة إلى ذلك، فان كون هذا النظام القانوني تمييزيا، فانه لا يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الفضلى للطفل، نظرا لانصباب اهتمام اسرائيل على الحفاظ على "الأمن" والنظام العام بما ينطوي عليه الأمر من آثار وقيود مجحفة على ممارسة الأفراد لحرياتهم وحقوقهم الأساسية. وباختصار، وكما قال القديس أوغسطين: "إن القانون الظالم هو لا قانون". وبهذه الروح القانونية ينبغي أن نكسر ونواجه القوانين الظالمة.

------------

* هذا المقال ترجمة للنسخة الأصلية المنشورة بالانجليزية في مجلة المجدل على الرابط: www.badil.org/al-majdal

* *عايد أبو قطيش: مدير برنامج المساءلة في الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فرع فلسطين.