بقلم: الشاعر والروائي: إبراهيم نصر الله*

في القرن الثامن عشر، وعلى ضفاف بحيرة طبرية وفي جبال الجليل ومرج بني عامر، بدأ رجل من عامــة الناس رحلته، نحــو أكبر هدف يمكن أن يحلم به رجل في تلك الأيام: تحرير الأرض وانتزاع الاستقلال وإقامــة الدولــة العربية في فلســطين، متحديا بذلــك حكم أكبر دولة فــي العالم آنذاك (الدولة العثمانية) وسطوتها المنبسطة في ثلاث قارات: أوروبا، آسيا وأفريقيا. كان اسمه: ظاهر العَمر 1775-1689

***

عندمــا كنت منشغلاً بالبحث عن مصــادر لروايتي (زمن الخيول البيضــاءعثرت على عدد من الدراسات الصغيرة، المتفرقة، عن ظاهر العمر الزيداني، لكنها لم تكن كافية لتشكيل صورة وافية عن هذا الرجل ومشروعه التحرري العظيم. وفي يوم من أيام كانون أول ديسمبر من عام 1997، وفي افتتاح معرض فني في عمان، التقيت بالمهندس زياد أبو الســعود، الذي تفضل بإهدائي كتاب (ظاهــر العمــركتاب يتنــاول تاريخ الجليل خاصة، والبلاد الســورية عامة) لمؤلفه توفيق معمر المحامي؛ وحين قرأت الكتاب، قرأته وفي ذهني الإفادة منه في كتابتي لزمن الخيول..، فقد رسخت بعــض أحداثــه فــي داخلي بقوة؛ بل إننــي فكرت أن أســتند إلى بعض حوادثــه، ذات يوم، لأكتب مسرحية!

لكن ما حدث، أن أيا من أحداث هذا الكتاب، لم تستخدم في تلك الرواية! كما أن المسرحية لم تكتب! أما أفضل ما حدث، فهو أن ظاهر العَمر راح يتسلل إلى داخلي، وبدأ يأخذ صورته على مهل. كان الخوف الوحيد الذي يســكنني هو أنني إذا ما كتبت رواية عن شــخصية تاريخية حقيقية، فإنني سأكون مقيداً إلى حد كبير! لكنني حين قرأت ســيرتيه المقتضبتين اللتين كتبهما ميخائيل الصباغ وعبود الصباغ، بدأت أصبــح أكثر جرأة. وحينما أنهيت بحثي، حوله، والذي اســتغرق عاما كاملاً، وبدأت أشكل رؤيتي الخاصة لهذه الشخصية، قلت لنفسي: لم لا؟ فلتذهب إلى القرن الثامن عشر لتعيشه! إنها فرصة قد لا تتكرر! ولتتعلم اكثر كيف يمكن ان تكون حراً وانت تكتب عن شخصية تاريخية بهذا الوزن. وهذا ما كان!

مــا يحزننــي الآن، أنني لم أتعرف إلى هذه الشــخصية العظيمة مبكرا، ومــا يحزنني أكثر أنها شخصية شبه مجهولة لدى قطاع كبير من الناس، في فلسطين وخارجها؛ لقد كانت هذه الشخصية  الفريدة تســتحق أن تلتفت إليها الأعمال الروائية والســينمائية والتلفزيونية منذ زمن بعيد، لكي  تكون جزءا مضيئا لوجداننا الشــعبي والمسيرة النضالية لهذا الشعب الذي عمر هذه الأرض، أرض  فلسطين، ما بين البحرين (بحيرة طبرية: بحر الجليل)، و (البحر المتوسط: بحر عكا).

أنا على يقين أننا لو عرفناه بصورة وافية من قبل، لكنا الآن أجمل!

كما إنه لمن المحزن أن نكتشف أن أول محاولة لإقامة وطن عربي مستقل في الشرق العربي كله، كانت في فلســطين، وعلى يد ظاهر العمر، في الوقت الذي لا يعرف فيه الكثيرون هذا. كما إنها لمفارقة كبرى أيضا، أن يكون هذا الوطن نفســه فيما بعد، فريسة للهجمة الصهيونية التي انتزعته بالخرافة والدبابة والتواطؤ الخارجي والداخلي من بين أيدي أصحابه، مدعية أن (هذه الأرض كانت بلا شعب، لشعب بلا أرض!).

لا... إنها أرض مليئة بالحياة وتفيض بالحياة!

لقد كانت تجربة كتابة هذه الرواية، تجربة اســتثنائية، في صعوبتها، وفي حجم المســؤولية التي سيحس بها أي كاتب يمكن ان يِقبل على كتابة رواية عن ظاهر العمر، أو عن ملك الجليل كما كان يســمى. لكنني خرجت من هذه التجربة إنســانا مختلفا؛ إذ أحسست بأن حياتي مع ظاهر العمر، قد أعادت ترتيب روحي من جديد، ووضعت أساسا جديدا ومذهلا لهويتي، وأنا أتتبع تلك الجذور الذاهبة عميقا في أرض فلسطين: فلسطين العربية، وفلسطين الجمال والغنــى الثقافي والروحي والإنساني، فلســطين الطموح لكل ما هو حر وجميل وطيب. وإن كان لي من أمل، فهو أن تنتقل كل تلك الأحاسيس التي عشتها إلى قارئ هذه الرواية، لأنني على يقين من أنه، عند ذلك، سيحس كم أصبح أفضل!

----------------

*ابراهيم نصر الله: شاعر وأديب وروائي فلسطيني.