بقلم: عزيز العصا*

لا شك في أن الحديث عن "نكبة" الفلسطينيين وتشريدهم من أرضهم ومن ديارهم التي بنوا فيها حضارة متواصلة؛ غير منقطعة امتدت لمئات السنين، يعني الحديث عن كارثة باغتت شعباً آمناً مستقراً. الأمر الذي يتطلب التوقف عند أحداثها بالقراءة الدقيقة والمتمعنة؛ مما يساعدنا في فهم، بل إدراك، المرامي والأهداف الاستراتيجية التي حركت الصهيونيين نحو فلسطين حتى دخلوها واستقروا فيها، وشتتوا أهلها الأصليين؛ بين شهيد وطريد وشريد ومهجر، باستخدام القوة المفرطة.
نظراً لضخامة الحدث، وتعدد أبعاده، فان هذا المقال مخصص لاستعراض التعريفات المختلفة للنكبة، مع التركيز على الظروف والمقدمات التي سبقت العام 1948؛ عام النكبة.
فالنكبة مصطلح فلسطيني يبحث في المأساة الإنسانية المتعلقة بتشريد عدد كبير من الشعب الفلسطيني خارج دياره. وهو الاسم الذي يطلقه الفلسطينيون على تهجيرهم وهدم معظم معالم مجتمعهم السياسية والاقتصادية والحضارية عام 1948؛ وهي السنة التي طرد فيها الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه وخسر وطنه لصالح، إقامة الدولة اليهودية-إسرائيل1. وهي "الكارثة" التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948 إثر قيام القوات اليهودية بعملية تطهير عرقي واسعة ابتغت إخلاء فلسطين من سكانها الأصليين؛ في سبيل إقامة دولة قومية لليهود فيها.2

وقد كانت النكبة الفلسطينية عملية تطهير عرقي؛ حيث جاءت نتاجًا لمخططات عسكرية بفعل الإنسان وتواطؤ الدول. وعبرت أحداث نكبة فلسطين، وما تلاها من تهجير، عن مأساة كبرى للشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، والبالغ عدد سكانها أثناء النكبة حوالى (1.4) مليون نسمة، تتمثل في تشريد نحو (800) ألف نسمة،يشكلون 85% من فلسطين المحتلة عام 1948، 4 إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، وبقي من الفلسطينيين على أرضهم، إبان النكبة، حوالى (156,000) نسمة،حيث اقترفت القوات المحتلة أكثر من (70) مذبحة ومجزرة بحق الفلسطينيين، أدت إلى استشهاد ما يزيد عن (15,000) فلسطيني. كما سيطرت هذه القوات على (774) قرية ومدينة من أصل (1300)، دمرت (531) منها.6

أُتبع ذلك بأن تم إبعاد الفلسطينيين، اسماً وذكراً، من الفضاء الزمكاني، وفق المراحل التالية7: 1) تهجير ورفض العودة، 2) محو البيوت، 3) إحالة القرى إلى أكوام، 4) تسوية الأكوام بالأرض، 5) محو الأسماء من السجلات، 6) محو الاسم العربي من الخارطة، 7) إطلاق اسم توراتي أو عبري أو ذو لحن عبري، 8) ضمان تام لاستحالة معرفة وجود مشهد عربي سابق جرت إبادته، يرافق ذلك كله إطلاق "اللعنة" التي تحمل مناداة الرب لمحو اسم الفلسطينيين وذكرهم.

وقد استند القائمون على هذه الإجراءات إلى "أساطير مؤدلجة" تفيد بأنّ القرى والتّجمّعاتِ العربيّةَ في فلسطين ليست سوى قرى يهودية قديمة استوطنها العربُ لاحقًا؛ والدّليل لديهم أن أسماء القرى والمدن العربية هي تحريف للأسماء الجغرافية التوراتية الأصلية. كما أنهم ينطلقون من دعوى أن اليهود عاشوا على أرض فلسطين، دون انقطاع، منذ عهد إبراهيم الخليل عليه السلام وحتى يومِ النّاس هذا8.

أي أن "النكبة" انطوت على فقد المكان، لأغلبية ساكنيه، وتحطيم البنية الاجتماعية والسياسية والنفسية الفلسطينية وتشتيتها. كما استهدفت فك ارتباط وفصل تاريخي شامل بين الفلسطينيين وفلسطين, وبينهم وبين وعيهم، لينتهي الأمر إلى تحويل الجماعة الفلسطينية إلى "مجتمع تاريخي من العذاب".9
هنا؛ نجد أنفسنا أمام سؤال استراتيجي، وهو: هل أن النكبة حدث مفاجئ داهم المنطقة على حين غرة، أم أن هناك أحداثاً ومقدمات انتهت بما جرى في العام 1948 وفق ما هو موصوف أعلاه؟
ترى الباحثة "بيان الحوت" أن النكبة "نقطة ارتكازٍ في القضية الفلسطينية: قبلها كانت فلسطين وشعبها وتاريخها وحضارتها، وبعدها تحول الوطن إلى قضية، وبقيت قضيته هي القضية التحررية الوحيدة المعلقة من قرنٍ إلى قرنٍ، في العالم كله".10
لذلك؛ نجد أنه من الضروري العودة إلى الوراء، قليلاً، لدراسة الظروف "الموضوعية!" التي فرضت نفسها وأدت إلى نكبة العام 1948. ففي مقدمته لكتاب "نكبة 1948: أسبابها وسبل علاجها"،11 يرى وليد الخالدي بأنه "لا يضير العرب أن يعودوا إلى الخلف ليستذكروا وقع النكبة على الآباء والأجداد الذين عاشوها وعاصروها، وليستشفوا ما أدركه أنفذهم بصيرة منهم عن حقيقة الصهيونية، وما تحمله من أخطار لا على فلسطين فحسب، بل أيضاً على العرب أجمعين".

لقد تبين أن مصطلح "النكبة" ليس وليد أحداث العام 1948؛12 وإنما كان قد أطلقه الشاعر المصري أحمد محرم،13 في 13/11/1933، بقصيدة طويلة بعنوان (نكبة فلسطين)، وهي تبكي وجع فلسطين، وتستحثّ همم العرب على نصرتها، منها:14

هاجها للقومِ عَهْدٌ مُضطرِمْ                  يا فلسطينُ اصطليها نكبةً
ثم يقول:
نكبة تَطغَى، وأُخرى تَسْتَجِمْ               فكأَنَّا منهما في مُلتَقى
وقد تم نشر هذه القصيدة في صحيفة البلاغ المصرية التي قدمت للقصيدة بالقول: صيحةٌ عاليةٌ يرسلها الشعر الحيّ في ممالك الشرق وشعوبه، رحمةً بفلسطين الجريحة، وعظةً لها ولغيرها من هذه الأقطار الوالهة، والممالك الحزينة".
وعليه؛ فإن ما قام به قسطنطين زريق في العام 1949 من تسمية "النكبة" في كتابه الشهير "معنى النكبة"،15 تأتي في إطار التوثيق السياسي لمعنى النكبة.

أي أن فلسطين "منكوبة" وجرحها ينزف منذ زمن طويل قبل العام 1948، الأمر الذي يعني أن ما جرى في ذلك العام ما هو إلا "احتضار" الجريح؛ بعد أن أنهكه النزف الدائم والمستمر. إذ تشير المصادر والمراجع والوثائق إلى أن فلسطين قد وضعت تحت المطرقة الاستعمارية، مباشرة، منذ أن وطأت أقدام نابليون أرض مصر في أواخر القرن الثامن عشر؛ فعندما غزا فلسطين في عام 1798 كان عازماً أمره على “إعادة مدينة يروشلايم لليهود”، فوجه نداءً (لليهود): "أيها الإسرائيليون، أيها الأمة الفريدة فرنسا تقدم لكم ورثة آبائكم، استعيدوا ما اخذ منكم بالقوة ودافعوا عنها، بدعم فرنسا ومساعدتها".16 بذلك تكون فرنسا، في نفاقها لليهود وتزلفها منهم، قد سبقت بريطانيا ووزير خارجيتها "بلفور" بحوالى 120 عاماً.

ليس غريباً أن نلمس هذا من نابليون، وغيره من قادة الغرب الاستعماري؛ فأطماع الدول الغربية بفلسطين قديمة العهد، نظراً لما يمثله الموقع الجغرافي لفلسطين من أهمية اقتصادية وعسكرية ودينية؛17 فهي جسر بين ثلاث قارات؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي محطة الشرق، والغرب؛ تتنازع عليها الأمم القديمة والحديثة كي تسيطر على طرق التجارة، الأمر الذي جعل منها (على الدوام) ساحة حرب وقتال؛ يتبارز عليها القواد العظام القادمين من مختلف بقاع الأرض.18

في القرن التاسع عشر؛ وعندما أصبحت الإمبراطورية العثمانية في حالة شبه عجز عن السيطرة على أقاليمها في المنطقة العربية، بشكل خاص، سنحت الفرصة للغرب بالتغلغل في فلسطين وتنفيذ "أجنداتهم" الهادفة إلى إقامة كيان سياسي-أمني-اقتصادي يضمن لهم السيطرة على فلسطين وفق ما هي موصوفة أعلاه.
ونظراً لأن الفتن الداخلية أخذت تفعل فعلها في هذه الإمبراطورية، وعلى رأسها احتلال بلاد الشام من قبل ابراهيم باشا؛ الذي قاد في أواخر عام 1831 حملة وضعت حلاً (ولو مؤقتاً) لحكم الدولة العثمانية في بلاد الشام،19 فإن الأيدي الأوروبية، المخفية والعلنية، أخذت تعبث فيها موجهة جل اهتمامها نحو فلسطين، منها:

1. 20تمكنت بريطانيا في العام 1839، من إقامة أول قنصلية لها في القدس؛ وجّهت معظم جهودها ونشاطها لحماية الجالية اليهودية في فلسطين التي كان عدد أفرادها (9700) يتوزعون بين القدس والجليل وصفد وطبرية.

2. في العام (1845) تقدم الضابط البريطاني "إدوارد ميتفورد" بـ "نداء لمصلحة الشعب اليهودي، مما جاء فيه: "إعادة إنشاء كيان للشعب اليهودي في فلسطين كدولة محمية، تحت وصاية بريطانيا، وخلال مرحلة تقاس مدتها بمدى تقدم اليهود نحو بناء دولة معاصرة في المعرفة وفي الحضارة المستنيرة".21
3. لقد تضافرت التوجهات السياسية للقوى الأوروبية "نحو تغلغل حضاري ديني مع الإصلاحات العثمانية المتعلقة بالأراضي في سنتي 1839 و1856, التي سمحت للمواطنين من غير العثمانيين بتملك الأراضي. وجعلت القدس والأراضي المقدسة بأسرها "حلبة صراع للمنافسات الأوروبية"؛22 ففي العام 1849 "سمح" الحكام العثمانيين بعقد صفقات شراء من قبل اليهود الغربيين للأراضي في فلسطين، والذي توج في الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن التاسع عشر ببناء مستوطنات يهودية تجريبية في القدس ويافا.23 وفي العام 1878 تم إنشاء أول مستعمرة سياسية صهيونية رسمية بالقرب من مدينة يافا، وخلال الفترة 1880-1882 أقيمت مستعمرة بالقرب من مدينة حيفا، وكانت هذه المستعمرات بداية لما يُعرف بالموجة الأولى من المهاجرين الصهاينة.24

4. في العام 1891 تم تأسيس جمعية الاستعمار اليهودي؛ لمساعدة المستوطنين في فلسطين،25 ثم قام هيرتزل بنشر كتاب يدعو فيه إلى إقامة دولة يهودية، لينتهي الأمر في العام 1897 بانعقاد المؤتمر الصهيوني، الذي انبثق عنه برنامج الحركة الصهيونية العالمية الذي يعرف اختصارا ببرنامج بازل26: "تسعى الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين معترف به وفقا للقانون العام ولتحقيق هذا الهدف يتخذ المؤتمر الوسائل التالية:

• تعزيز الاستيطان في فلسطين باليهود المزارعين والحرفيين والمهنيين بناء على قواعد صالحة.
• تنظيم اليهود كافة وتوحيدهم بواسطة إنشاء المؤسسات المحلية والعامة الملائمة وفقا للقوانين السارية في كل بلد.
• تقوية الشعور اليهودي القومي والضمير القومي.
• اتخاذ الخطوات التحضيرية للحصول على موافقة الحكومات التي يجب الحصول عليها لتحقيق هدف الصهيونية27.

5. تبع هذا المؤتمر إجراءات وأحداث جسام، كان أبرزها:
• إنشاء الصندوق القومي اليهودي، في العام 1901، من أجل شراء أراضٍ في فلسطين، وتتابع هجرات اليهود إليها28.

• إعلان بلفور في العام 1917 الذي تعهد فيه بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين". هذا الوعد الذي قطعته الحكومة البريطانية عندما كانت غارقة في خضم الحرب العالمية الأولى؛ فكانت بحاجة إلى دعم اليهود على المدى القريب من أجل تأمين دخول الولايات المتحد وروسيا المواجهة ضد ألمانيا، وعلى المدى البعيد؛ من أجل الحصول على ورقة إضافيةٍ استعداداً لتفكيك الإمبراطورية العثمانية29.

• انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، فاحتل الحلفاء فلسطين في العام 1918، وانتداب بريطانيا على فلسطين (رسمياً) في العام 1923، حيث سمحت لمئات الآلاف من اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وسلموهم آلاف الدونمات من أراضيها.
6. لقد نشطت الجمعيات اليهودية، داخل فلسطين وفي روسيا وأوروبا، كما قدم أصحاب رؤوس الأموال (مثل: روتشلد وهيرش ومونتفيوري وغيرهم). الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام اليهود فقاموا بامتلاك الأراضي بأكثر من أسلوب، ويمكن تحديدها في أربعة طرق رئيسية30: 1) الاستملاكات الفردية لليهود. 2) الجمعيات اليهودية. 3) مكتب فلسطين. 4) شراء الأجانب. وتشير البيانات أن "اليهود" كانوا يتبعون أساليب المراوغة والخداع في تسجيل الأراضي لدى السلطات العثمانية المختصة،31 مثل "عينتيبي" الذي كان يتبع أساليب شيطانية في شراء الأراضي؛ باستعمال أسماء مستعارة32.

7. خلاصة القول، ونتيجة لخطط وآليات العمل المذكورة؛ تنامت أعداد اليهود في فلسطين منذ القرن التاسع عشر حتى النكبة، وفق خطط، متعددة، وضعت اعتباراً من العام 1870 لإعادة تسمية الأماكن والمواقع التاريخية بأسماء عبرية، ومحو الاسم العربي منها؛ والغاية هي نزع الهوية العربية عن خريطة فلسطين، وطمس الجغرافيا الفلسطينية وإخفائها وتزويرها، من أجل إضفاء هوية جديدة على مواقعها، وتسميتها بأسماء تنفي تاريخها وهويتها معاً.33 وقد تطورت أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين كما يلي:

1) في القرن التاسع عشر كانت نسبتهم أقل من (3%) من السكان، في حين أن نسبة المسيحيين (15%).34 وفي أواخر القرن نفسه، وأوائل القرن العشرين، أصبح عددهم، في أبعد تقدير، (34,000) نسمة؛ تشكل (5.7%) من مجموع السكان، وفي سنة 1900 ، كان مجموع الملكية اليهودية للأراضي 0.8% من مساحة البلد وكان هناك في ذلك الوقت (22) مستعمرة عدد سكانها 4950 قروياً، يعيش معظمهم على المساعدات الخيرية الآتية من فرد واحد، هو البارون إدموند دو روتشيلد35.

2) في العام 1914 كان اليهود يشكلون أقلية تتألف من نحو 60 إلى 80 ألف.36 وفي العام 1917 أصبحت نسبتهم (7%)، معظمهم من غير الصهاينة ويملكون أقل من (2%) من الأراضي،37 وخلال الفترة 1919-1933 ارتفعت نسبة اليهود إلى 12% وكانوا يملكون 3% من الأراضي.

انتدِبت بريطانيا على فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني (1923-1948)، إلا أنها، من الناحية العملية، أحكمت قبضتها على فلسطين وشرق الأردن منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، فقد قامت الاستراتيجية البريطانية على "تجهيز" فلسطين وإعدادها؛ تمهيداً للحظة المناسبة التي تعلن فيها الدولة "اليهودية" على أرض فلسطين، ونظراً لأن هذه الاستراتيجية متعددة الأبعاد والعناصر والأنشطة، فسنكتفي بذكر أهم ما ورد فيها من إجراءات على الأرض من قبل المنتدِب البريطاني لصالح "الدولة الموعودة"، رافقها أحداث جسام، يمكن تلخيصها بما يلي:
أولاً: على المستوى الديمغرافي: تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين؛ لمضاعفة أعداد اليهود فيها. ولتعزيز ذلك أُغلقت أبواب أوروبا وأمريكا في وجه اليهود، وأبقت باب فلسطين مفتوحًا أمامهم. وكانت نتيجة ذلك أنه بين العام 1922 ونهاية العام 1946 ارتفعت نسبة اليهود من العشر إلى الثلث من إجمالي السكان (من 84,000 إلى 608,000)، كما بلغت مساحة الأراضي المملوكة من اليهود في العام 1947 180,000 هكتاراً (كانت من 20,000 هكتاراً في العام 1897)، كما بلغ عدد المستعمرات اليهودية 300 مستعمرة (كانت 27 مستعمرة في العام 1897)، كانت تؤمن 28% من الإنتاج الزراعي في فلسطين.38
ثانياً: على المستوى الإداري: قامت بريطانيا بتوظيف الضباط العسكريين والإداريين البريطانيين الذين يؤيدون الصهيونية؛ من أجل تقديم الدعم لليهود في فلسطين. وتُوِّج ذلك بتعيين "هربرت صموئيل" البريطاني الصهيوني مندوبًا ساميًا في فلسطين، حيث قال قبل ذهابه إلى فلسطين: "أنا ذاهب إلى فلسطين لتنفيذ الأوامر المتعلقة بتحقيق مشروع دولتي، بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين"39.

ثالثاً: على المستوى السياسي والاقتصادي: قامت بعزل اليهود من سكان فلسطين عن الفلسطينيين المسلمين، وإيجاد قيادة سياسية صهيونية؛ حتى تصبح نواة للحكومة المعلنة.40 أما بالنسبة للفلسطينيين فقد قام البريطانيون في العام 1937 بحل جميع المنظمات السياسية الفلسطينية، ورحلوا خمسة من الزعماء، وشكلوا محاكم عسكرية؛ وكل ذلك إجراءات ضد الثورة الفلسطينية41.

رابعاً: على المستوى الأمني: قامت بطرد العرب من أرضهم، ويكون ذلك بوضعهم فى ظروف سياسية واقتصادية وتعليمية وعسكرية صعبة، ثم وضع المهاجرين اليهود في أماكنهم. وعززت ذلك بالعمل على خلق اضطرابات بين العرب واليهود؛ حتى تسهل عملية الهجرة.42
خامساً: مواجهة الفلسطينيين للإجراءات البريطانية: لقد شهدت الفترة 1917-1948 احتداما للصراع على الأرض، الفلسطينيين العزل من جانب وبريطانيا العظمى ذات السطوة والقوة، واليهود المسلحين بالدعم الأوروبي المطلق والتمويل والتدريب والتأهيل والإعداد للدولة الموعودة. ونظراً لاتساع مدى تلك الأحداث فسنشير إليها بما يلي:
1) شهدت فترة العشرينيات حتى منتصف الثلاثينيات مجموعة من الأحداث التي قدمت للإضراب والثورة الكبرى، منها43: انتفاضة عام 1920، ثورة يافا عام 1921، ثورة البراق عام 1929، انتفاضة عام 1933، ثورة القسام عام 1935.

2) الإضراب والثورة الفلسطينية الكبرى خلال الفترة 1936-1939: وهي الفترة التي شهدت إضراباً أربك بريطانيا وجعلها تطالب الزعماء العرب بالتدخل لدى الفلسطينيين لإيقافه. كما شهدت هذه الفترة ثورة فلسطينية عارمة وصلت أوجها في العام 1938؛ مما دفع بريطانيا إلى زيادة عدد جنودها من 2000 جندي إلى 25,000 جندي.44
3) فترة الدمار حتى النكبة (1939-1948): تقع هذه الفترة ضمن الحرب العالمية الثانية، حيث شهدت المزيد من الاعتقالات والترهيب والقتل في أوساط الفلسطينيين، إلى جانب المزيد من التهجير لليهود، وفق قرار مجلس العموم البريطاني، في العام 1939، القاضي بالسماح بهجرة 15,000 يهودي سنوياً إلى فلسطين خلال السنوات الخمس القادمة. كما شهدت قرار الأمم المتحدة رقم -181- بتقسيم فلسطين، الذي أُتبع بقيام الصهاينة بعملية "طرد جماعي على نطاقٍ واسعٍ للسكان الفلسطينيين العرب الأصليين"45.

4) فترة النكبة: فمنذ قرار التقسيم في تشرين الثاني من العام 1947 وحتى آخر هدنة بين "إسرائيل وسوريا في تموز من العام 1949 دُمّرت فلسطين العربية ونشأت دولة إسرائيل الجديدة46.

ويبقى السؤال الاستراتيجي الذي لا بد من التوقف عنده، معمقاً، وهو: هل النكبة مستمرة؟ في صدد الإجابة على هذا السؤال حدثني صديقي السياسي الفلسطيني صالح أبو لبن: أن الصهيونيين "يمتعضون" عندما يقول الفلسطينيون بأن النكبة مستمرة؛ وإنما "يطالبوننا" بالتوقف عن سرد هذا المصطلح، باعتبار أن "النكبة" مجرد "حرب!" عادية انتهت كما انتهت غيرها من الحروب، كالحربين العالميتين وغيرهما.
ويعزز ذلك ما يقوله إيلان بابه47: "إن هناك جريمة كهذه جرى محوها كلياً تقريباً من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948. إن هذا الحدث المصيري، الأكثر أهمية في تاريخ فلسطين الحديث، جرى إنكاره بصورة منهجية منذ وقوعه، ولا يزال حتى الآن غير معترف به كحقيقة تاريخية، ناهيك عن الاعتراف به كجريمة يجب مواجهتها سياسياً وأخلاقياً".

هنا؛ نجد أنفسنا أمام مسؤولية تاريخية نحو شهدائنا ومشردي شعبنا وأسرانا، وجميع من اكتوى بالاحتلال، بشكل مباشر أو غير مباشر، بضرورة التعامل مع النكبة المستمرة والتي تتجلى في العديد من الممارسات الاحتلالية-الإحلالية أبرزها ما يجري بحق أهلنا في النقب من تهجير، وأولئك الذين يرفض الاحتلال الاعتراف بقراهم وتجمعاتهم البشرية، وما يجري من تغيير وجه الأرض وباطنها في فلسطين التاريخية. إن في هذا، وغيره، مظهر صارخ من مظاهر النكبة المستمرة إلى أن يُحسم الصراع على هذه الأرض لصالح أصحاب الحق الشرعيين.
كما أن الوجه الآخر لاستمرار النكبة يكمن في "عقلية الاستشراق" الكامنة في وعي الفرد الإسرائيلي، بشكل نمطي ومؤدلج، والمتمثلة في أن الآثار في فلسطين (بخاصة الإسلامية) "ما هي إلا محاولاتٌ لطمس الماضي ومحو بقايا بني إسرائيل وآثار الأرض التي وهبها الرب لبني إسرائيل وحدهم دون غيرهم من الأمم حتى أبد الآبدين"، وأن هذه "الأيديولوجيا" جزء لا يتجزأ من مؤسسات الدولة الصهيونية، مثل: مناهج التعليم، وسائل الإعلام، الآثار والسياحة، الأجهزة الأمنية، المنظومة السياسية... الخ48.

لذا؛ فقد توجه "مركز العودة" إلى المجتمعات الغربية من خلال كتاب "فهم النكبة"، والذي صدر باللغة الإنجليزية؛ كي يجيب على كل التساؤلات المتعلقة بالنكبة وتداعياتها المختلفة على القضية الفلسطينية. وأن هذا الكتاب سيكون في متناول الجمهور الغربي الذي "لا يعرف الكثير عن تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي سوى ما هو متوفر في الكتابات الغربية والتي تعبر، في معظمها، عن وجهة النظر الصهيونية49.

ونختم بما يقوله شاعرنا محمود درويش:

أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!

------------------
* عزيز العصا: كاتب وباحث فلسطيني.

الهوامش:----------------

 1. انظر مصطلح "النكبة" على الموقع الالكتروني لموسوعة ويكيبيديا: http://ar.wikipedia.org/wiki/

 2. غانم، هويدة (2011). "النكبة". في "اﻟﻔﻠسطﻴﻨﻴﻮن في إسراﺋﻴﻞ: ﻗﺮاءات في اﻟﺘﺎرﻳﺦ، واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، والمجتمع–المجلد الثاني (تحرير نديم روﺣﺎﻧﺎ وأرﻳﺞ ﺻﺒﺎغ-ﺧﻮري), ﻣﺪى اﻟﻜﺮﻣﻞ-المركز اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻟﻠﺪراﺳﺎت اﻹﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟتطﺒﻴﻘﻴﺔ, حيفا. ص ص: 16-25.
 3. الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2013). نشرة إحصائية خاصة بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والستين لنكبة فلسطين، بتاريخ: 14/5/2013م.
 4. غانم (2011)، مرجع سابق.
 5. مركز الدراسات المعاصرة (2006). المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني. أم الفحم. فلسطين. ص: 9.
 6. الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2013)، مرجع سابق.
 7. غانم، هويدة (2013). المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني. مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 24، عدد 96، ص ص: 118-139.
 8. أبو خضير، ناصر الدين (2012). مواقف الاستشراق الإسرائيليّ تُجاه إسلامية بيت المقدس. حوليات القدس. مجلد (13)، العدد (14). ص: 71-76.
 9. فرحات، محمد (2014). أوراق متطايرة (1): الفلسطينيون والمنفى. منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية. ط1. ص: 34.
 10. الحوت، بيان (2012). المؤرخون الفلسطينيون والنكبة. مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 23، عدد 89. ص ص: 51-71.
 11. زريق وآخرون (2009). نكبة 1948: أسبابها وسبل علاجها. مؤسسة الدراسات العربية. لبنان، بيروت. ط1.
 12. في 26/3/1933 اجتمع الزعماء الفلسطينيون ويقدر عددهم بألف شخص في مدينة يافا وقرروا في اجتماعهم تطبيق مبدأ اللاتعاون مع الحكومة باعتبارها مسؤولة عن "نكبة" فلسطين. انظر: جبارة، تيسير (2002). دراسة سياسية: إضراب عام 1936 في فلسطين. منشورات مركز الدراسات والتطبيقات التربوية (CARE). رام الله-فلسطين. ص: 16.
 13. هو الشاعر أحمد بن حسن بن عبد الله محرّم، ولد في (أبيا الحمراء) في الوجه البحري بمصر عام 1877، من أبوين شركسيّين، وتوفي في مدينة دمنهور عام 1945.
 14. عطية، سمير (2013). الشَّاعر المصري أحمد محرّم كتبَ قصيدة (نكبة فلسطين) عام 1933. مجلة العودة، العدد (72)، السنة السادسة. انظر الموقع الالكتروني: http://www.alawda-mag.com/Default.asp?ContentID=176&menuID=19
 15. ألقى بن غوريون في 17 كانون الثاني/يناير 1955 خطاباً بعنوان ”معنى النقب’ (يبدو وكأنه رد على هذا عنوان كتاب زريق)، مما قاله فيه: ‘لن تتسامح دولة اسرائيل مع وجود صحراء في داخلها – فإذا لم تلغ الدولة تلك الصحراء، فستلغي الصحراء الدولة’. نقلاً عن: (مخول، مكرم خوري (2013)ـ معنى النكبة ومعنى النقب. صحيفة القدس العربي، بتاريخ: 19/7/2013م. الرابط: http://www.alquds.co.uk/?p=64693)
 16. http://www.israelinarabic.com/?s=%D9%86%D8%A7%D8%A8%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86
 17. الكيالي، عبد الوهاب (1990). تاريخ فلسطين الحديث. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. لبنان. ط10. ص: 22.
 18. البرغوثي، صالح وطوطح، خليل (2001). تاريخ فلسطين. مكتبة الثقافة الدينية. بور سعيد، مصر. ص: 12.
 19. مناع، عادل (2008). لواء القدس في أواسط العهد العثماني. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط1. ص: 44.
 20. الكيالي (1990)، مرجع سابق، ص: 23.
 21. الحوت، بيان (1991). فلسطين (القضية-الشعب-الحضارة): التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن العشرين. دار الاستقلال للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ط1. ص: 297-298.
 22. ديفيس, روشيل (2003). "القدس العثمانية: نمو المدينة خارج الأسوار". في " القدس 1948: الأحياء العربية ومصيرها في حرب 1948، الطبعة الثانية (تحرير: سليم تماري. ترجمة: أحمد خليفة، وسام عبد الله، خليل نصار), مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت، لبنان) وبديل (المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين (القدس، فلسطين). ص: 18.
 23. قمصية، مازن (2011). المقاومة الشعبية في فلسطين: تاريخ حافل بالأمل والإنجاز. المؤسسة الفلسطينية لدراسات الديمقراطية (مواطن). رام الله. فلسطين. ص: 48.
 24. قمصية (2011)، مرجع سابق، ص: 50.
 25. هنا؛ كان العرب قد تنبهوا لما يجري؛ فبدأت نشاطات القومية العربية ومقاومة الصهيونية منذ العام 1868؛ مع تأسيس جمعية سرية سميت "الجمعية السورية"، مقرها دمشق وتضم أعضاء من جميع بلاد الشام (فلسطين جزء منها)، تحت شعار: "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب"(قمصية، 2011: 47). 
 26. الحوت، بيان (1991). فلسطين (القضية-الشعب-الحضارة): التاريخ السياسي من عهد الكنعانيين حتى القرن العشرين. دار الاستقلال للدراسات والنشر. بيروت، لبنان. ط1. ص: 348.
 27. عقب انتهاء المؤتمر؛ كتب هيرتسل في يومياته: لو شئت اختصار برنامج بازل بكلمة واحدة، لكانت: في بازل، أنشأتُ الدولة اليهودية.
 28. بابه، إيلان (2007). ترجمة: أحمد خليفة. التطهير العرقي في فلسطين. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط1. ص: 297.
 29. فيدال، دمومينيك (2002). خطيئة إسرائيل الأصلية: المؤرخون الجدد الاسرائيليون يعيدون النّظر في طرد الفلسطينيين. ترجمة: جبور الدويهي. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط1. ص: 2.
 30. الشناق، محمود (2005). العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين: 1867-1914.مطبعة بابل الفنية. حلحول. فلسطين. ط1. ص: 249.
 31. الشناق (2005)، مرجع سابق، ص: 248-428.
 32. الشناق (2005)، مرجع سابق، ص: 267.
 33. الشيخ، عبد الرحيم (2010). متلازمة كولومبوس وتنقيب فلسطين: جينيالوجيا سياسات التسمية الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني. مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 21، عدد 83، صفحة 78.
 34. قمصية (2011)، مرجع سابق، ص: 47.
 35. خليفة، أحمد (2013). الشركة اليهودية العثمانية للأراضي: مخطط هيرتسل لاستعمار فلسطين. مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 24، عدد 96، ص ص: 283-302. مترجم عن: “The Jewish-Ottoman Land Company: Herzl’s Blueprint for the Colonization of Palestine”, Journal of Palestine Studies, vol. XXII, no. 2 (Winter 1993), pp. 30-47.
 36. موريس، بني (2004). "عودة إلى النزوح الفلسطيني سنة 1948". في "الحرب من أجل فلسطين-إعادة كتابة تاريخ 1948م/ ترجمة أسعد كامل إلياس (إشراف يوجين روغان وآفي شلايم، تعقيب إدوارد سعيد), مكتبة العبيكان, الرياض، المملكة العربية السعودية. ص: 71-105.
 37. قمصية (2011)، مرجع سابق، ص: 63.
 38. فيدال، دمومينيك (2002). خطيئة إسرائيل الأصلية: المؤرخون الجدد الاسرائيليون يعيدون النّظر في طرد الفلسطينيين. ترجمة: جبور الدويهي. مؤسسة الدراسات الفلسطينية. بيروت، لبنان. ط1. ص: 2-3.
 39. الفرا، عبد الناصر. البُعد السياسي لفلسطين من عام 1914-1948. جامعة القدس المفتوحة – غزة – فلسطين انظر: http://www.qou.edu/arabic/researchProgram/researchersPages/abdulNasserFarra/PalestinePoliticalDimension.pdf
 40. الفرا، مرجع سابق.
 41. بابه (2007)، مرجع سابق، ص: 321.
 42. الفرا، مرجع سابق.
 43. جبارة، تيسير (2002). دراسة سياسية: إضراب عام 1936 في فلسطين. منشورات مركز الدراسات والتطبيقات التربوية (CARE). رام الله-فلسطين. ص: 8-20.
 44. قمصية (2011)، مرجع سابق، ص: 125-134.
 45. بابه (2007)، مرجع سابق، ص: 321-322.
 46. روغان، يوجين، وشلايم، آفي (2004). الحرب من أجل فلسطين-إعادة كتابة تاريخ 1948م. ترجمة أسعد كامل إلياس (تعقيب إدوارد سعيد), مكتبة العبيكان, الرياض، المملكة العربية السعودية. ص: 17.
 47. بابه (2007)، مرجع سابق، ص: 3.
 48. أبو خضير، ناصر الدين (2012). مواقف الاستشراق الإسرائيليّ تُجاه إسلامية بيت المقدس. حوليات القدس. مجلد (13)، العدد (14). ص ص: 71-76.
 49. صحيفة القدس المقدسية، بتاريخ: 14/4/2014م. انظر الرابط: http://www.alquds.com/news/article/view/id/348026