بقلم: عبد الفتاح القلقيلي (ابو نائل)*

شكّلت الحربُ العالميةُ الثانيةُ، رغم مآسيها، وقفَ الاستعمار المباشر، وإشارةً لبداية نهاية القائم منه، فصارت الشعوبُ المستعمرة تستقل شعبا إثر آخر. وكانت فلسطين هي الاستثناء الوحيد، حيث استلمها الاستعمارُ البريطاني من الاستعمار التركي، وسلمها للاستعمار الصهيوني متعدد الجنسيات.
ونظرا لتوقّف الاستعمار المباشر، لم تعد الأرض من أهداف الحروب إلا إذا كانت الحربُ حربَ حدود (توسع هنا او هناكأي صارت الأرض هي مجال الحرب والصراع وليست هدفهما؛ وكانت فلسطين أيضا هي الاستثناء. فالأرض هنا هي أساس الصراع، وهي هدفه ومجاله منذ انطلقت الحركة الصهيونية، بل منذ إرهاصاتها الأولى (في ذروة الاستعمار العالمي في بداية القرن التاسع عشر) وحتى يوم أمس. فالقضية الفلسطينية هي قضية الأرض، فالعدوان هو لاغتصاب الأرض، والدفاع هو للاحتفاظ بها؛ وعندما وقع الاحتلال كانت المقاومة لاستردادها.

الأرض في اللغة العربية وفي ثقافة الفلسطينيين

الأرض في اللغة العربية هي الكوكب الذي نعيش عليه، وهي عكس السماء. ولم تُستعمل في الأدب العربي القديم ولا في القرآن الكريم إلا بهذا المعنى. "والأرض بعد ذلك دحاها" (النازعات 30)، "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." (البقرة30أو بمعنى اسم جنس "قال أنه يقول بقرة لا ذلول تثير الأرض..." (البقرة71)، "كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها..." (الروم9)، "...ولا تعثوا في الأرض مفسدين" (البقرة 60)، "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها. ..." (البقرة 205)، "ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغَما كثيراً وسعة. .." (النساء 010).
ومن الجدير بالإشارة إليه هنا أن الآلهة في الديانات الوثنية ترتبط بأرض محددة لا تبارحها حيث لا تُعبد إلا هناك. أما رب العالمين في الإسلام فهو رب الكون ومنه الأرض بعامتها، وهو في كل مكان ويُـعبد في كل مكان.
والأرض بمعنى الوطن، في الأدب العربي، يحل محلها مفهومان وهما: "الديار" أو "الحياض". والديار هي جمع دار وهي محل السكن، أما الحياض فهي جمع حوض وهو مجتمع الماء سواء كان سطحياً أو عميقاً. وهذا أمر طبيعي، فرغم أن الإسلام منذ فجر الدعوة انتصر للقوى الحضرية التي كانت تقاوم النمط الرعوي في المعيشة والإنتاج، وسعى (توجيها وتشريعاً) لتحضير القوى البدوية (الأعرابية) التي لم يرها مؤهلة (أن بقيت على حالتها تلك) لتمثل قيم الرسالة الإسلامية، إلا أن الأعرابي بقي لا يهمه من الأرض (باعتباره غير مزارع) إلا الدار التي يسكنها، وحوض الماء الذي يرده فيشرب منه ويسقي أغنامه. وقد وردت الحياض بمعنى الوطن وافتخر الشعراء القدامى بـ"الذود عن الحياض". وتأثير هذه السيكلوجيا الرعوية ما زال ماثلاً حتى اليوم في شعراء العربية بإشهارهم سيوفهم للذود عن الحياض.
ومصطلح وطن لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة وبصيغة الجمع لتعني مواقع أو مجالات في قوله تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. ..." (التوبة 25). ولم نعثر بمصطلح وطن بالمعنى الدارج حالياً عند أحد قبل الجاحظ (775-868) في كتابه البيان والتبيين حيث أشار إلى أهمية الأوطان، وفضيلة محبتها والتمسك بها مهما كان وضعها، وقدسية الدفاع عنها.
وفي اللهجة الفلسطينية يأتي مصطلح الأرض أو "الوطاة" ليعني المعنى العام والخاص، أي الأرض كاسم جنس وكملكية، سواء كانت خاصة أو مشاع للأسرة أو القبيلة أو القرية.
وكان العديد من الفلسطينيين، كأخوتهم في سوريا الكبرى، يتهرّبون من تسجيل الأرض باسمهم في الطابو العثماني ليتفادوا دفع الضرائب الباهظة التي لا قبل لهم بها. ولذلك بقيت مساحات شاسعة في فلسطين مشاعاً أو مسجلة باسم "مقطعجية" أو"ملتزمين" يقيمون في المدن الفلسطينية أو في بيروت أو دمشق، واكتفى أصحابها بحق الاستعمال.
ورغم ضعف السيكلوجيا الفردية بتملك الأرض آنذاك، فإن الذاكرة الشعبية الفلسطينية تحمل قداسة خاصة للأرض، فهم يعتقدون أن أرض فلسطين مقدسة لسببين: الأول لأن الله باركها دون غيرها فجعلها مهبط الرسل جميعاً ومسرى آخرهم (محمد صلى الله عليه وسلم) ومعراجه، فهي بوابة الأرض إلى السماء. والثاني لأنها مجبولة التربة بدم الشهداء المدافعين عنها (تاريخياً) ضد الغزاة منذ العبرانيين قبل الميلاد وحتى الإسرائيليين قبل أيام، ويعتقد الريفيون منهم أن ذلك هو سبب احمرار تربتها المسمّاة "سَمَكَة".
ومنذ بداية الهجرة الاستيطانية اليهودية في فلسطين تطور لدى الفلسطينيين مفهوم الأرض فصارت ثلاثية الأبعاد: جغرافي واقتصادي واجتماعي، كما لاحظ عادل يحيى.
ونما التمسك بأرضهم الخاصة وتقديسها، وشيئا فشيئا صاروا ينظرون لها كجزء من شرفهم، وأصبح التخلي عنه معيبا، وتداولوا مقولة، سرعان ما أصبحت من المقولات العامة جدا "الأرض كالعرض، تدنيسهما عار، والتخلي عنهما مذلة".

النشاط الصهيوني للاستيلاء على الأرض قبل الحرب
الحركة الصهيونية، إضافة إلى أنها حركة استعمارية احلالية عنصرية، هي أيضاً حركة شاذة. ووصفُها بالشاذة ليس إلا توصيفاً دقيقاً لواقعها. فالحركة الطبيعية (مهما كانت أيدلوجيتها وسياستها) هي حركة تنمو بين شعب يعيش على أرضه. أما الحركة الصهيونية فأنشئت لتحصل على أرض بوسائل مختلفة، لتهجّر إليها شعباً من بلاد مختلفة بطرق مختلفة. أي أن المسار الطبيعي هو أرض فشعب فحركة، أما المسار الصهيوني الشاذ فكان حركة فأرضاً فشعبا. والانقسام الطبقي كان شاذاً أيضاً، فالطبقة العاملة اليهودية الإسرائيلية (الصهيونية) كانت وليدة الفكرة، ففكرة الخلق سبقت الوجود بعكس نشوء الطبقات في أي بلد آخر حيث ظهرت الطبقة العاملة قبل الفكرة أو الإيدلوجيا.
تعلقت الطبقة العاملة في إسرائيل بفكرة الصهيونية والاستيطان، ولذلك كان حزب العمل الإسرائيلي هو قائد العدوان والاستيطان والتوسع، وكان الكيبوتس لا يقل عن الموشاف أو الموشافا تشدداً ضد العرب وتمسكاً بالصهيونية والعنصرية. فقد قامت الطبقة البرجوازية اليهودية بسلب الأرض، وقامت الطبقة العاملة اليهودية بسلب العمل، وتشعر الطبقتان معاً أن مصلحتهما مع الاحتلال.
وقد شدد دافيد بن غوريون على حصر العمل في المستوطنات اليهودية بالأيدي اليهودية، ويقول: "أن عملية امتلاك الأرض بالأموال لا تعتبر إنقاذاً بالمعنى القومي طالما الأرض لا تُستغل بأيدي اليهود، كما وأن انبعاث الشعب لا يمكن تصوره بدون عمل في الأرض..."؛ وقد ابتدع بن غوريون ما أسماه "دين العمل" لتحويل اليهود الى امة كغيرها من الأمم، وكما يقول "ارسكين شليدر" في كتابه "تهويد فلسطين" فإن "الاستيلاء على الأرض وطرد السكان ليس ناجماً عن طبع شرير عند اليهود، بل هو من مقتضيات إقامة الكيان الصهيوني الذي ما كان ليقوم إلا بأرض أكثر، وعرب أقل".
لقد كتب الزعيم الصهيوني "اوسيشكين" في عام 1904 "بدون حق ملكية الأرض لا تكون فلسطين يهودية أبداً، مهما كان عدد اليهود في المدن والقرى". ودستور الوكالة اليهودية ينص على أن "تُمتلك الأراضي كملك للشعب اليهودي، وتُسجل الأراضي المشتراة على اسم الصندوق القومي اليهودي، وتبقى مسجلة باسمه إلى الأبد كي تظل الأملاك ملكاً للأمة اليهودية غير قابلة للانتقال، ويؤجر الصندوق هذه الأرض إلى أمد طويل للأفراد اليهود. وإذا توفي المستأجر اليهودي ولم يكن وريثه يهوديا، فعلى الوارث أن ينقل حقوقه ليهودي، وإلا فيسترد الصندوق الأرض دون أن يكون للوارث حق الاعتراض". والحركة الصهيونية كما عرّفها بن غوريون "هي الاستيطان". ويقول فيصل الحسيني الأرض والسكان هما الهدفان التوأمان للحركة الصهيونية لخلق "حقائق" يهودية على الأرض الفلسطينية، ويرتكزان مباشرة على التهجير والاستيطان. والسياسة الصهيونية ما زالت تتصاعد حدتها حتى اليوم.
ولم تتغير طبيعة الصهيونية لا بعد قيام دولة إسرائيل (1948) ولا بعد توسعها (1967)، فهذا شمعون بيريز (حينما كان وزيرا للدفاع) يقول: "إن الحكومة الإسرائيلية ليست حكومة قانون فقط، بل هي حكومة استيطان أيضاً" (جريدة دافار الإسرائيلية 12/12/1975). أما الحاخام يوحنان فريد فيقول أن: "الاستيطان يعلو فوق القانون لأنه روح إسرائيل" (جريدة هآرتس الإسرائيلية 15/10/1974).
ورغم أن وعد بلفور وصك الانتداب كلفا بريطانيا بتوفير الظروف الملائمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وقانونياً لإقامة الوطن القومي اليهودي، ورغم تعهد بريطانيا ببذل قصارى جهدها والتزامها بالتعاون مع الوكالة اليهودية في هذا المجال، إلا أن رئيس الأخيرة يقول عام 1919: "أنني أومن أن الدولة اليهودية ستقوم في فلسطين، ولكن ليس عبر التصاريح والمواقف السياسية بل عبر عرق ودماء الشعب اليهودي، وما القوانين والمواقف والتصاريح إلا مفاتيح ذهبية تسمح بتدفق ذلك العرق والدم إلى هذه الأرض". وأجمعت المنظمات الصهيونية المسلحة الثلاث (هاجاناه وإتسل وليحي) على "أن دولة إسرائيل ستقوم على ثلاث