بقلم: عيسى قراقع*

رجل في السبعينيات من العمر، مشلول اليد، يرتجف دائما، مألوف في المكان والزمان، متوحد في كل الحالات، لاجئ ومنكوب ومريض ورائع وحبوب، ينقذ ذاكرتك من النسيان، أو يذكرك بالقادم بصوته المتهدج، وكلماته المتلعثمة حول لسانه الجريح.

هو أبوك وأخوك وأمك ونفسك وتاريخك، ضعفك وقوتك، حياتك ومماتك. وهو ثالث ظلين يندلعان منك إليك إذا مشيت من البعيد إلى البعيد، وحّدقت في ما وراء المكان: عمرك المقتول، حصانك خلف السياج، بيت وبئر ولغة لها وقع الغزال.

أبو السعدي، ملك المسيرات والاعتصامات والمواجهات السلمية والشعبية لقوات الاحتلال، ملك الحضور في كل خيمة وشارع وتجمع وحفل وجنازة، وفي كل فرح وعزاء، الموجود قربك وبعدك، يحمل همّك وينادي، ويحمل دمعك ويصرخ، يأخذك إلى حيث كنت تنوي أن تذهب، أو يداهمك بقصيدته المقطوعة اليد بلا قافية ولا ثياب.


أبو السعدي، العجوز المريض ابن قرية ديربان المنكوبة، الجالس كالراية في خيمة اعتصام أهالي الاسرى في ساحة الصليب الأحمر الدولي، يرفع صورة أسير، ويتحرك بين الأمهات المتضامنات، كأنه قطعة من الحياة التي تمنح دلالاتها للصدى، القادر أن يفتح أبواب النهار دون أن يرى الظلام خلف المدى.

يخترق أبو السعدي هذا الصمت، يمهر ويصهل ويتفحص الوقت الأسود في الزنزانة، ويقول للأسير المضرب عن الطعام لا تحترق أكثر لتضيء روحك، ولا تذب ريثما تثقب الشمس فضاء الدنيا، وترى أمَّك وأباك وابنك، فالعناوين لم تتغير: اسمك وتاريخ ميلادك ورائحتك، وقد امتلأ بها جسمك لكي تصعد ثم تصعد إلى حيث تريد خطاك.


أبو السعدي يحرك يديه، يهتف من قاع قلبه في دوار الساعة، يرفع الماضي في الكلام، ويجلب المستقبل ابيض من لسعة الملح في حلق أسير قرر أن يغسل الحرية بالجوع ليكسر فراغ الزمن العبري وخرافة السجان، وينتبه وهو يحلق حول صورة مروان البرغوثي وأحمد سعدات، ويبكي وهو ينتظر خروج القمر من عينين لا تنامان هناك في سجن النساء.


هذا الرجل السبعيني الذي تعرفه أو لا تعرفه، تراه ولا تراه، هو شهيدك وجريحك وأسيرك وفقيدك، هو رثاؤك المذبوح وأغنيتك المحطمة بقنبلة غاز في بلعين أو أمام سجن عوفر، وهو قدماك عندما يقودك إلى حاجز قلندية لتبحث عن رصيفك خلف الجدار، أو عن زيتونك في رائحة التراب.


أبو السعدي، حالنا وحلمنا، وقت صلاتنا وصوت أجراسنا، يتسع لك إن ضاقت بك السبل، ويضيق عليك إن تركت المدينة تتبدل وتتهجن، وانشغلت بأصنامك عن غرباء ينامون في خبزك ومعبدك وراء المساء. 
رجل من فلسطين اسمه أبو السعدي، عرف بوابات السجون وأسماء المأسورين فابتكر جهة أخرى للبقاء حيا دون أن يسقط تحت مجنزرة أو يتشظى بقذيفة بعد ان تحول إلى صوت يحمله حلم كما تحمل النجمة دهشة السماء.

يمضي معك في مظاهرة أو اعتصام أو زيارة لامرأة قضت عمرها تحاول أن تعيد الشباب لمحارب خلف القضبان قضى عمره بين الليل والحديد، ويمضي معك اليوم وغدا، إلى الحرب إن وقعت، والى السلام إن شفي المحتل من عقدة المذبحة وفتنة الأساطير.

عند إنشاء السلطة عام 1995 وقبل تشكيل الشرطة الفلسطينية كان أبو السعدي يقف في وسط دوار المنارة برام الله بصافرته ينظم السير للمركبات والمشاة؛ صافرته العالية أعلنت حينها ان عهداً جديداً قد بدأ، وان الفلسطيني استعاد صوته في المكان.

صافرة أبو السعدي تزعق في وجه آلاف المستوطنين الذين جرفوا الجغرافيا وشطبوا الأسماء، معلناً ان هذا العدو ليس مؤهلاً لان يكون شريكاً في مواصلة السير معنا إلى السلام. صافرة أبو السعدي لا تتوقف ولا تموت، تدلك على الطريق إلى حيفا وليس إلى تل أبيب، تزمجر في وجه دولة عنصرية تطلب من ضحاياها الاعتراف بعنصريتهم كدولة يهودية احتلت هوية المكان وهوية الكائن وشوهت الحكاية.

صافرة أبو السعدي تصرخ، تنتفض الأرض في يومها ليقول لكم: لا زال اللاجئون في بلادهم لاجئين، انا ابن هذه الأرض وابن تاريخها، ابن بلوطها وتينها وصبارها، كل شيء يدل عليّ، وكلما كبر القمر على أغصان الأشجار كلما رأيت برج حمام وبئراً ونحلاً ودرباً إلى جامع أو كنيسة واكتشفت لغتي.

صافرة أبو السعدي تقول لا حوار ولا مفاوضات عبر باب الزنزانة أو على مدخل حاجز عسكري مع سجان لا يكف عن الإيمان باني غائب. صافرة أبو السعدي تقول لا أريد ان أموت كما مات جدي في سقيفته مقتولا عام 1948، لا أريد ان أطلّ على حياتي التي احتلها الآخرون، ولا على ارضي التي سقيتها بدموعي ليورثها الآخرون.

صافرة أبو السعدي تعلن ان حق العودة هو من رصيف الشارع إلى الرصيف الآخر، من روح المقتول بين سنابله وكرومه إلى روج كل مولود يولد منا في العالم، لن نكون شعباً يغني للأطلال ويطرد في الشاحنات أو يزج بالسجون، حق العودة هو مواصلة العمر نحو الكرامة والحياة والحرية باقتدار دون خوف من أضواء المستوطنات.


أبو السعدي يقع على الأرض، يدعسه الجنود ببساطيرهم، يقتحمون عفويته وبراءته وشيبه، وهو ينجو من الموت وصيد الطائرات الجائعة، وينسحبون عندما يفتح عليهم أبواب قريته المخطوفة وأشباح التين والزيتون وأناشيد الأسرى، بكبرياء الموج وهبوب الرياح وضحكة الضوء في فيضان الجسد.


رجل من فلسطين اسمه أبو السعدي، يعيش على بركة الله، تحته الأرض وفوقه السماء، له حدود ودستور وغلاية قهوة وسقف غرفة، وما هو ضروري لحوض النعنع وصلاة العشاء، وهو المنتشر المتعدد، النداء الذي يغمرنا بالتفاصيل، المفتوح على كل الجهات، الكثيف الكثيف كالحب، الدافئ كبطن الأرض تمتصك بنهم، فيستمر العناق إلى الأبد.


أبو السعدي يتبعك حتى القدس والجليل، لا يشيخ في السفر، فهو دائما أول النشيد، يشد يديك لتعرف أين أنت، يطل على العالم بوجه دولة حرة بالغة متكاملة، لا ببقايا ضحية تقاسمها المستوطن والجندي على حاجز في الطريق.

---------------------
* عيسى قراقع: وزير شؤون السري والمحررين، عضو الجمعية العامة لبديل