في القرار 194 حقوق أكثر من العودة والتعويض

بقلم: نضال العزة*

درج ربط حقي العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين بقرار الجمعية العامة رقم 194، حتى صار استخدامهما متلازما أو مترادفا. فيأتي التأكيد على العودة من خلال الإشارة إلى القرار الذي لم ينفذ، ويأتي التأكيد على القرار باعتباره كاشفا – لا منشئا - للحق ومعبرا عن الإرادة الدولية الغائبة فعليا. ليس في هذا التداول أي خطأ أو انتقاص لا من العودة ولا التعويض، ولكن للحقيقة، فيه انتقاص من القرار 194 نفسه؛ لان هذا التداول لا يعكس سوى الفقرة 11 من القرار ويهمل ما احتوته الفقرات الأخرى. الفقرات الأربعة عشر الأخرى، ليست مجرد ديباجة. فما تتضمنه من حقوق والتزامات، واليات للوفاء بها، لا زالت تشكل الأساس والمدخل الواجب الإتباع من اجل التوصل إلى تطبيق الفقرة 11، وتحقيق الحل السلمي العادل والدائم. في الوقت الراهن، وبعد مضي أكثر من 65 عاما على النكبة، وفي ظل ما تشهده المنطقة والعالم من تغييرات وتغيرات لا يمكن للفلسطيني النأي بنفسه عنها، يصبح استدعاء الفقرات الأخرى من القرار 194 أكثر إلحاحا بالنسبة لنا نحن كشعب وكلاجئين فلسطينيين. هذا "الاستدعاء" لا يغفل المتغيرات والمعطيات والتي تتطلب التعامل معها، لكنه يأتي فقط للتأكيد ان الحماية كما أقرت للشعب الفلسطيني ما زالت ملحة ومطلوبة لتمكينه من ممارسة حقوقه.

أهم ما تضمنه القرار 194:

بالإضافة إلى الفقرات الإجرائية - التنفيذية والتعليمات التنظيمية، وبالإضافة إلى الفقرة 11 المتعلقة بحقوق اللاجئين في العودة واستعادة الممتلكات والتعويض وإعادة التأهيل، تضمن القرار 194 الحقوق، والحريات، والالتزامات التالية:

1-    إنشاء لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين وتكليفها بتوفير الحماية الدولية بمفهومها الشامل واتخاذ كافة التدابير من اجل إيجاد تسوية نهائية على أساس القرارات ذات الصلة؛

2-    حماية الأماكن المقدسة في كل أرجاء فلسطين التاريخية وضمان حرية وصول الفلسطينيين إليها على أن تكون الترتيبات اللازمة لذلك خاضعة للإشراف الفعلي للأمم المتحدة؛

3-    نزع السلاح بتدابير يتخذها مجلس الأمن الدولي لفرض سيطرة الأمم المتحدة على القدس وإدارتها؛

4-    ضمان أقصى حد من حرية الوصول إلى مدينة القدس للجميع برا وبالسكك الحديدية وجوا، على أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة في مواجهة عرقلة ذلك؛

5-    اتخاذ التدابير اللازمة لتنمية المنطقة اقتصاديا.

في العام 1948، كانت الجمعية العامة قد نقلت معظم صلاحيات لجنة الهدنة إلى الوسيط الأممي الكونت فولك برنادوت، الذي تم اغتياله على يد عصابات "ليحي" الصهيونية بسبب توصياته التي أدت إلى إصدار القرار 194. وفي هذا القرار تم نقل صلاحيات الوسيط الدولي المكلف من قبل الأمم المتحدة إلى لجنة التوفيق الدولية. وفي القرار 194، الذي انشئت بموجبه لجنة التوفيق، تم توسيع تلك الصلاحيات وتقنينها. وبالنظر إلى مضمون القرار، والملاحق التفصيلية الصادرة عن لجنة الهدنة، واللجنة الفنية، ولجنة المسح الاقتصادي، وفيما بعد اللجنة السياسية، يتضح أن هذه اللجنة كانت مكلفة بتوفير مهمات الحماية الدولية بمفهومها الشامل للشعب الفلسطيني واللاجئين تحديدا، ومسندة بصلاحية التوجه للجمعية العامة ولمجلس الأمن طلبا لاتخاذ التدابير اللازمة لذلك.

صحيح أن المهمات الواسعة المكلفة بها اللجنة، والتناقضات الداخلية بين أعضائها، بالإضافة إلى غياب الإرادة السياسية لدى الدول المتنفذة وقلة المصادر أدت إلى فشلها، ولكن هذا لا يلغي أن القرار احتوى على جملة من الحقوق والآليات التي لم تتوافر في عشرات، بل مئات القرارات الدولية الصادرة فيما بعد. ورغم أن اللجنة لم تعد فاعلة منذ بداية الخمسينيات، بسبب عدم تعاون الأطراف وتحديدا إسرائيل، إلا أنها ما زالت من حيث الشكل قائمة وملحقة بمكتب الأمين العام للأمم المتحدة. وعليه، ربما يكون من المجدي النظر مرة أخرى في القرار، لعل في ذلك فائدة ترجى في ظل ما نشهده في الوقت الراهن من انحدار على كل المستويات.

نقص الحماية وغياب الإستراتيجية:

اليوم، لا يكاد يختلف اثنان على أن الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين وفي الشتات، وبالذات اللاجئين، يفتقد الحماية الدولية الواجبة. أكثر من ذلك يمكن القول إننا لا نملك رؤية فلسطينية شاملة، بل حتى إننا نفتقر إلى رؤية فلسطينية ولو جزئية - مهما كان شكلها ومضمونها- للتعامل مع الهيئات الدولية وليس مع كل قضايا الصراع والأطراف ذات الصلة. فمطلب الحماية الدولية، حتى عندما يرد في تصريحات المسؤولين الفلسطينيين يبدو فارغا من أي معنى أو تصور، وكأنه استكمال ديباجة الخطاب لا أكثر ولا اقل. فإذا أردنا رصد مطلب الحماية الدولية المطلوبة في التصريحات الفلسطينية الرسمية سنجدها كثيرة، ولكنها مبعثرة، ومشوشة، ولا تستند إلى رؤية أو إستراتيجية عمل. ومن الطريف القول انه يجري استخدام الاصطلاح عادة في سياق استجداء المجتمع الدولي، أو في سياق تهديد إسرائيل، وكأن توفير الحماية ليس التزاما دوليا، أو كأن الحماية ورقة ضغط وليست حاجة ملحة وحق للشعب الفلسطيني أينما وجد.   

قبل أعوام، توجهنا بقضية الجدار إلى محكمة العدل الدولية، فجاء الرأي من القوة ما لم نتوقعه، ومن ثم تركنا الرأي الاستشاري للزمن، وكأن المطلوب الركون إلى رغبة إسرائيل في الالتزام به، او ان المطلوب الاعتماد على وسن نوايا حلفائها في دعمنا!

وقبل أربعة أعوام تقريبا، حصلنا على تقرير لجنة تقصي الحقائق الأممية (غولد ستون)،  والذي لا يقل في قيمته وأهميته عن توصيات الكونت فولك برنادوت والقرار 194، فأسقطناه عن "غير قصد" كما قيل، وأسهمنا في إماتته بالإهمال المقصود لاعتبارات تفعيل عملية التفاوض ووعود وهمية!

وقبل عام ذهبنا قدما باتجاه طلب عضوية فلسطين الكاملة، وعدنا فاكتفينا بمطلب عضوية دولة مراقب، ولوحنا بالمحكمة الجنائية... وانتهينا بتعليق كل شيئ مقابل العودة إلى مفاوضات بلا وقف للاستيطان، وبلا مرجعية دولية حقيقية!

والآن، كما في كل السنوات السابقة، لا زلنا نصدر التقارير المثقلة بالانتهاكات، ونطلق النداءات والتصريحات الحذرة والمحذرة، الواضح منها وغير الواضح، كل ذلك وغيره ولا زلنا نفاوض ونحن نعلم النتيجة سلفا!

لماذا ذهبنا لمحكمة العدل الدولية؟ لماذا نسهم في جعل مصير تقرير غولدستون مماثلا لتقرير فولك ورأي المحكمة الدولية بشأن الجدار؟ لماذا لا نذهب لمحكمة الجنايات الدولية؟ ماذا بعد عضوية المراقب؟ ماذا نريد من تجديد جولات المفاوضات؟ الجواب، كل ذلك لأننا فقدنا القرار، والرؤية، وليس لدينا إستراتيجية. فالأمر، لا يعدو كونه "استجابات" آنية لا تتعدى في أحسن الأحوال حاجة تأمين المعاشات، وتجنب إغضاب الأطراف!

الدوران في حلقة الاستجابة هذه بمنطق إدارة الوقت إلى أن يصلح الله الحال، أو تعتدل الموازين قليلا جراء الانتخابات الإسرائيلية أو الأمريكية القادمة أو التي تليها، أو التي تلي التي تليها...الخ هي حلقة طحن للحقوق في جاروش سالبيها ومنتهكيها. كل ذلك يؤكد غياب الرؤية والإستراتيجية ليس الشاملة وحسب، بل والخصاة بالتعامل مع الشرعية الدولية. فإذا كانت الشرعية الدولية هي إطار ومنهج تحقيق الحقوق، كما دائما يؤكد القادة الفلسطينيون، فانه من البداهة القول ان آليات الشرعية لا تعمل بدون إرادة سياسية. وعليه يكون السؤال: هل لدينا إرادة سياسية للتأثير في الإرادة السياسية للدول المتنفذة على نحو يخدم حقوقنا، أم أن إرادتنا السياسية تنتهي عند حد تجنب مواجهة (ان لم نقل التماهي مع) إرادة الدول المتنفذة المخالفة للشرعية الدولية، والماسة بحقوقنا؟   

عودة إلى القرار 194:

الحماية الدولية كمفهوم قانوني تعني اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان تمتع الفرد/الشعب بالحقوق التي تصون له إنسانيته وكرامته. وهي بهذا المعنى تقوم على أركان ثلاثة: الحماية الفيزيائية، والحماية/المساعدة الإنسانية، والحماية القانونية. الحماية الفيزيائية أو الجسدية تعني ضمان امن وأمان الإنسان/الشعب بما يمنع المساس بحايته وجسده/كينونته. والمساعدة الإنسانية (الإغاثة) تعني ضمان توفير الحقوق الإنسانية الأساسية، واقلها الحقوق المعيشية (المأكل والمشرب، والمأوى، والملبس)، والرعاية الصحية، والتعليم. أما الحماية القانونية فتشمل صون الحقوق المعترف بها لمحتاج الحماية بموجب القوانين والأعراف الدولية، وهذا يشمل - فيما يشمل - الحق في الجنسية/المواطنة، حرية الحركة والتنقل، حقوق الملكية، الحق في المساواة، والتقاضي، وغيرها.

بهذا المعنى، تعتبر الحماية الدولية ترتيبا مؤقتا يلزم القيام به عند غياب الحماية الواجب على الدولة/الحكومة توفيرها للمواطنين/الشعب، وذلك في حال عجزها عن توفيرها، أو لعدم رغبتها في ذلك. ومما لا شك فيه، أن أهم ما جاء به القرار 194 هو إقرار الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وعلى الأخص تلك الواجبة للاجئين. ومما لا شك فيه أيضا، إن أكثر ما يلزم الشعب الفلسطيني وعلى الأخص اللاجئين الآن، هو توفير الحماية. لا يفهم من هذا أن الحماية الدولية بديل عن الحقوق الأصيلة، مثل العودة وتقرير المصير وغيرها من الحقوق، إنما هي لازمة لحفظ الكرامة الإنسانية إلى أن يتمكن الشعب واللاجئون من ممارسة ونيل حقوقهم والتي منها استظلالهم بحماية دولتهم.  

غياب الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني يتجلي في مظاهر عدة أبرزها انعدام الأمن والأمان، واستمرار انتهاك حقوقه الإنسانية والتنكر لحقوقه الوطنية المشروعة. يندرج ضمن هذا عدم محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها المستمرة والمنهجية. ويعاني، أكثر ما يعاني اللاجئون والمهجرون الفلسطينيون من انعدام و/أو نقص الحماية الدولية.

بالنظر إلى ما كلفت به لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين وما أنيط بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين يتبين أن لجنة التوفيق أريد لها أن تكون المفوضية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، ولهذا السبب تم استثناءهم من نطاق عمل المفوضية. ولان حجم قضية اللاجئين الفلسطينيين كان من الضخامة بحيث استلزم توزيع المهمات، قامت الأمم المتحدة بتأسيس الانروا، التي كلفت بتولي مهمة تقديم المساعدة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين في حين كان من المفهوم حكما أن الحماية الفيزيائية والقانونية ستبقيان من مسؤولية لجنة التوفيق. فمهمات لجنة التوفيق، كانت أوسع واشمل من حيث المحتوى والنطاق الجغرافي والزمني أيضا. 

مطلب توفير الحماية الدولية ليس قفزا على الواقع:

قد يقال أن استدعاء القرار 194 على هذا النحو لا يشكل أكثر من إسقاط لما كان على ما يجري الآن، وهو إسقاط غير مبرر لا منطقيا ولا واقعا. وقد يقال أيضا أن هذا الاستدعاء لا يعدو كونه أضغاث أحلام، أو جلد للذات على نحو مرضي. وهنا لا بد من توضيح أمرين: الأول إن هذا الاستدعاء لا يأتي من باب الدعوة إلى العودة إلى الوراء من خلال تبني الحيثيات التفصيلية الواردة في القرار. والأمر الثاني، المبني على والمسند بالأمر الأول، هو أن هذا الاستدعاء أصبح ضروريا للتأكيد على أن أكثر ما يحتاجه الشعب الفلسطيني الآن، برغم المفاوضات وكل التغيرات الواقعية وفي موازين القوى، هو الحماية الدولية بمعناها الشامل المبين أعلاه. فإذا جعلت الحماية الشاملة منطلقا للتفكير في بناء إستراتيجية وطنية، للتعامل مع هيئات ووكالات الأمم المتحدة، والياتها، مع الدول المعنية بما فيها إسرائيل، ومع الدول العربية وبالذات حيث يتواجد كثافة من اللاجئين، فان اللجوء إلى الشرعية الدولية واستخدام آلياتها يصبح ذا معنى وجدوى. أما الاستمرار في التباهي بتمسكنا بالشرعية الدولية من باب إثبات حسن النوايا وحسن التصرف والتقرب من الآخرين، أو من باب الانتفاع بمدائح وعطايا المانحين، فإننا سنظل نحوم في دائرة المفاوضات، نقدم حقوقنا وشعبنا حبا أو كراهية لطالحون منتهكيها.   

-----------------------------------------

* نضال العزة منسق وحدة المصادر والبحث والمناصرة القانونية في مركز بديل، مدرس مساق القانون الدولي للاجئين في جامعة القدس.