بقلم: سلمان أبو سته*

يمر الشعب الفلسطيني الآن بمرحلة من أصعب أحواله الوطنية منذ النكبة عام 1948. فبعد الإنجاز الكبير عام 1964 بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، التي جمعت شمل الشعب الفلسطيني في الشتات، وبعد صعود نجم القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة بعد ذلك بعشر سنوات، بدأت مرحلة الإنحدار التي وصلت إلى حدها الأدنى بعد كارثة أوسلو.

اليوم تشرذم الشعب الفلسطيني، وأصبح بجانب كونه يعيش تحت ظل حكومات مختلفة في فلسطين 48 وفي الضفة وغزة وسائر بلاد الشتات، تعرضت هويته الوطنية الفلسطينية لضربات موجعة من الإحباط والتنازلات والتعاون السافر مع نفس العدو الذي سبب كل هذه الكوارث.

أما أوسلو فهى كارثة يتجاوز تأثيرها وعد بلفور، حيث أن وعد بلفور أُقر بين جهتين إستعماريتين في غياب صاحب الحق والأرض. أما أوسلو فقد أشركت العدو المحتل مع صاحب الأرض في حقه في الأرض المحتلة. كما أن إتفاق أوسلو لا يعتمد على أي مرجع قانوني دولي ولا توجد فيه ضوابط لتنفيذه أوعقوبات على المخالف ولا آلية مستقلة لتطبيق العقوبات على المخالف.

وفيما يتعلق بالإقتصاد فقد تحول الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة إلى أسير للمعونات الدولية، التي تدفعها الدول الغربية أساساً لإعفاء إسرائيل من عبء الإحتلال، ولترويض الشعب الفلسطيني على قبوله. كما أن الإقتصاد الفلسطيني أصبح رهينة لإسرائيل حيث أن 94% من صادراته ووارداته تأتي من إسرائيل. وقد كرس هذا الوضع بروتوكول باريس الإقتصادي المملوء بالثغرات. ومن سخرية القدر أنه في عام 1941 تم توقيع بروتوكول باريس بين حكومة الإحتلال النازي لفرنسا وحكومة فيتشي الفرنسية المتعاونة مع الإحتلال لتؤدي نفس الغرض.

أوسلو واحدة من أهم عوامل تشريد الشعب الفلسطيني لأنها تطبق على 18% منه في الضفة الغربية حيث يوجد مقر منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

ولا يختلف إثنان على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الجامع الأكبر للشعب الفلسطيني والممثل لحقوقه. لكن الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني لا ترى أن الجالسين على مقاعدها اليوم هم الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني. ولذلك فأن جميع لجان العودة وممثلي الجاليات في العالم يطالبون منذ سنوات عديدة بإنتخاب مجلس وطني جديد يمثل 12 مليون فلسطيني، ومنه تنبثق قيادة فلسطينية جديدة عليها إجماع الشعب الفلسطيني وبها يضع ثقته.

لماذا يطالب الفلسطينيون بذلك؟

خذ أول مثال واضح على ذلك. دائرة اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية تمثل نظرياً 7 مليون فلسطيني لاجئ أو نازح منهم أكثر من 5 مليون مسجلون لدى وكالة الغوث. هذا العدد أكثر من سكان الأردن أو لبنان ولو كانت دائرة اللاجئين دولة لأصبحت مهماتها أكبر من حكومتى الأردن ولبنان. ومع ذلك فأن نشاط هذه الدائرة مغيب تماماً منذ 20 سنة على الأقل.

هذا الفراغ الهائل في الدفاع عن حقوق ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني قد ملأته عشرات اللجان الداعية لحق العودة ومراكز البحث والتعبئة لقضية اللاجئين مثل مركز العودة في لندن، ومركز بديل في بيت لحم، وهيئة أرض فلسطين في لندن، و"تألف حق العودة في أمريكا"، وغيرهم كثير. وقد إنضم إليهم عدد متزايد من اللجان المؤازرة لفلسطين في بلاد كثيرة تمتد من كالفورنيا إلى طوكيو. كما أن هذا النشاط كان الشرارة التي أوقدت حركة مقاطعة إسرائيل "BDS" و"حركة إزالة الإحتلال الإسرائيلي" و"حركة مقاومة الجدار" وغير ذلك.

وقد امتد هذا النشاط إلى معظم الميادين الشعبية في كثير من بلاد العالم ثم بدأ يصل إلى الجهات الرسمية في الدول الغربية المؤيدة لإسرائيل. وبدأ الشرخ في التأييد الغربي الرسمي لإسرائيل يتصدع قليلاً. ففي بريطانيا مثلاً، وهي من أكثر الدول الأوروبية تأييداً لفلسطين من الناحية الشعبية تعقد إجتماعات منتظمة في قاعات مجلس العموم البريطاني تأييداً لفلسطين. وفي البرلمان الأوروبي عقدت جلسة في 15 مايو الماضي تذكيراً بالنكبة.

وقد دعيت مرتين إلى البرلمان الأوروبي هذا العام لشرح الحقوق الفلسطينية. وقد وجدت تجاوباً من عدد لا بأس به من نواب البرلمان. ولا شك عندي أن هذا العدد سيتزايد لو إستمرت حملة التوعية في التصاعد. ومن المؤسف حقاً أنه في معظم هذه النشاطات الشعبية نلاحظ غياب ممثلي منظمة التحرير أي السفراء. كما نلاحظ الغياب الكامل لأي ممثل لدائرة اللاجئين مهما كان مركزه متواضعاً.

لكن الأسف الأكبر والوضع الذي لا يمكن القبول به حتماً هو اننا نجد أحياناً أن موقف السلطة في رام الله والتصريحات التي تصدر عنها اما مخالفة للحقوق الفلسطينية مثل حق العودة أو مشوشة للموقف السياسي من حيث أنها تفسر على أنها تنازل عن الحقوق الفلسطينية الثابتة. هذا الوضع الذي يعطل مجهود الدفاع عن الحقوق الفلسطينية يجب أن نعمل على تغييره في القريب العاجل.

ومن أمثلة الشرذمة الحاصلة لفئات من الشعب الفلسطيني هو تكوين مايسمى بدائرة المغتربين. وبصفتي عضو في المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1974، لم أسمع أن دائرة بهذا الاسم قد تكونت في منظمة التحرير أو أن تكوينها قد خرج بقرار من مجلس وطني منتخب.

وقد جاءتني عدة دعوات من دائرة المغتربين لحضور مؤتمرات تعقدها الدائرة، فكتبت إليهم بعدم معرفتي بوجود هذه الدائرة أو بشرعيتها؛ لأننا شعب ثلاثة أرباعه لاجئ ممثل بدائرة اللاجئين (عندما تعمل). والربع الباقي من الشعب الفلسطيني يعيش في دياره تحت الإحتلال الإسرائيلي.

ولو كنا بلداً مثل لبنان له وطن ومواطنون على أرضه، ونزح جزء كبير من شعبه إلى أمريكا اللاتينية وغيرها طلباً للعيش، لقلنا أن هناك مبرراً لتكوين دائرة أو حتى وزارة لشئون المغتربين كما هو الحال في لبنان وسوريا. أما إختلاق دائرة المغتربين في فلسطين فهو أمر غريب حقاً لأنه يوهم الناس أن لنا وطناً حراً وإننا نغادره بملئ إرادتنا لإسباب شخصية وليست وطنية.

إذا كان هذا التفسير هو الدافع وراء تكوين دائرة المغتربين فانه مرفوض قطعاً. ويقع تحت العنوان الذي تقبله إسرائيل والذي يدعو إلى التطبيع معها. بمعنى أنه لا يوجد لاجئون فلسطينيون أو أنه يوجد لاجئون ولكنهم خرجوا بمحض إرادتهم من ديارهم حسب الرواية الإسرائيلية.

كل هذه النقائص للعمل الوطني الفلسطيني الحالي يمكن علاجها في بندين رئيسين:

الأول: ضرورة الإصرار على حقنا في ضرورة تمثيلنا في مجلس وطني جديد منتخب يمثل كافة الشعب الفلسطيني في كل مكان. وبدونه لا يمكن إعتبار أن هناك قيادة فلسطينية عليها إجماع الشعب الفلسطيني كله.

الثاني: هو ضرورة المقاومة للاحتلال الصهيوني، سواء في المناطق المحتلة في الضفة وغزة ومناطق 48 أو في الشتات بكل الوسائل المتاحة. وهي كثيرة جداً.

أما التطبيع أو الإنبطاح أو الاحباط فهذه كلها مظاهر عجز. والعجز ليس سياسة، والإستسلام ليس برنامجاً وطنياً، لأن من بديهيات القول أن المستسلم تسحب منه حقوقه وأرضه ومياهه واحدة بعد الأخرى، ولا تبقى له إلا هويته أو كرامته. وهاتان تسحبان منه أيضاً إذا قبل بهذا الوضع. لكن هذا ليس من شيمة الشعب الفلسطيني الذي أمضى قرناً من الزمان في الدفاع عن حقوقه، وسيبقى أبداً مدافعاً عنها إلى أن تتم إستعادة حقوقه.

وما ضاع حق وراءه مطالب.

‪----------------------------------

*سلمان أبو سته:مؤسس ورئيس هيئة أرض فلسطين، لندن