ما السرّ وراء سرّية المفاوضات المصيرية؟

يكثر اللغط والحديث حول المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الولايات المتحدة. والتسريبات الواردة من هنا وهناك في جلها إسرائيلية وغربية. بعضها يتحدث عن تعثر المفاوضات، وبعضها يتحدث عن اتفاقات بشأن تبادل الأراضي، وتعديل الحدود، والمسؤولية عن المعابر، وأخرى عن امن المستوطنات، والترتيبات الأمنية، وأخرى عن حق العودة وحقوق واللاجئين... وغيرها. أما الردود والتفاعلات مع التسريبات، فهي متنوعة بحسب الجهة والمصلحة. ويلاحظ أن الردود الفلسطينية الرسمية تراوح ما بين نفي الوصول الى طريق مسدود، وتجنب نفي ما يتردد هنا وهناك من تسريبات او شائعات، وعند اللزوم يكفي الانسحاب من الإجابة بلباقة الحريص جدا على سرية المفاوضات، أو بذريعة بان مصدر التسريبات إسرائيلي. وهذا بحد ذاته، يفترض إسكات السائل والمتسائل؛ بل وعند الضرورة قد يصل الأمر إلى التشكيك، (بلباقة أو فظاظة فلا فرق)، في وطنية السائل باعتبار أن الإصرار على السؤال ينم عن عدم الثقة في القيادة وباعتبار الاعتماد على مصادر غير فلسطينية رسمية.

هذا النهج- كاتم الصوت ليس جديدا، ولا هو صناعة فلسطينية؛ انه أسلوب قديم متجدد بصور شتى. لكنه في السياق الفلسطيني الراهن يبدو على غاية من الخطورة؛ اي خطورة السكوت رسميا عن التسريبات- حتى لو كانت شائعات، وخطورة الحرص على سرية التفاوض على القضايا المصيرية- المفترض أنها شأن وطني عام.

فإذا كانت التسريبات غير صحيحة، فلماذا لا يتم نفيها صراحة؟ النفي هنا، والمقصود النفي الصريح القاطع، لا يشكل مساسا بشرط السرية- رغم ان السرية ذاتها مرفوضة حتى خلال جولات التفاوض. فالسرية في حالتنا تعني استبعاد الراي العام، الأمر الذي ينطوي بحد ذاته على نية استغفال بتمرير شيء ما في لحظة ما. ترى لو تم تسريب خبر مصدره مسؤول فلسطيني مطلع رفض ذكر اسمه مفاده موافقة إسرائيل على حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى ديارهم التي هجروا منها عام 1948، ماذا سيكون موقف نتنياهو؟ هل سيلتزم الصمت حفاظا على سرية المفاوضات، أم تراه سيسارع بكل قوة ووضوح إلى تبديد مخاوف الإسرائيليين أحزابا وجمهورا؟ 

والسؤال الأهم، لماذا تكون المفاوضات سرية أصلا؟ أو قل ما جدوى السرية للجانب الفلسطيني؟ فمما لا شك فيه ان سرية المفاوضات تحقق مصلحة أمريكية، اقلها تجنب إحراجها امام تعنت إسرائيل وبالتالي أمام الرأي الدولي العام. ومما لا شك فيه أيضا، ان سرية المفاوضات مطلوبة إسرائيليا؛ على الأقل للمحافظة على توازن الائتلاف الحكومي في إسرائيل. فأي مصلحة فلسطينية في هذه السرية؟ لا يمكن الادعاء هنا، بان الحاجة إلى السرية نابعة من الخشية من انهيار الشعب الفلسطيني مصدوما من التواطؤ الأمريكي والتعنت الإسرائيلي. انما إذا كانت الخشية من ردة فعل فلسطينية أخرى، فهذا مؤشر على ان في السرية تنازلات غير مقبولة وطنيا، وهذا بحد ذاته كاف للمطالبة بالشفافية.

لا يخفى، انه تم التأكيد على ان اي اتفاق مع إسرائيل على قضايا الحل الدائم سيعرض في استفتاء على الشعب الفلسطيني قبل ابرامه. ورغم انه لم يوضح لنا احد من هو الشعب الذي سيستفتى، إذ يخشى قصره على سكان مناطق السلطة الفلسطينية بدعوى المعيقات السياسية، والتقنية، والصلاحيات المحدودة، وقلة الموارد والظروف الموضوعية الأخرى، وخلافه، إلا أن تغييب الشعب عن التفاصيل والتطورات بانتظار اكتمال الاتفاق، يشكل بحد ذاته استغفالا؛ ببساطة لان مواضيع التفاوض والحقوق معروفة سلفا، فلماذا يخفى ما يدور حولها؟ فعندما تكون الحقوق الأساسية مطروحة على الطاولة، لا معنى لدبلوماسية التعامل مع أمريكا ومع منكر الحقوق.

وإذا كانت التسريبات الإسرائيلية والغربية تستهدف إرباك المفاوض والشارع الفلسطيني، فلماذا يسمح الجانب الفلسطيني بذلك؟ او قل لماذا لا يتم إرباك المفاوض والشارع الإسرائيلي بتسريبات مضادة؟ وفي هذا الحال، لا يمكن القول بتجاوز حدود اللباقة والدبلوماسية، خصوصا وان المصدر المسرب سيكون مبهما، تماما كما هو الحال مع التسريبات الإسرائيلية، كالقول بأنها عن مصدر مسؤول/مطلع في ديوان الرئاسة، او دائرة شوؤن المفاوضات. طبعا، لا يجوز أن يغيب عن البال هنا، ان اي مصدر فلسطيني لا يمكنه ان يقوم بالتسريب المضاد على عاتقه، إنما يلزمه إسناد مصدري. وغني عن القول هنا أيضا، ان المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين عندما سئلوا عن تلك المصادر الإسرائيلية والغربية، لم ينفوا ما ورد عنها من تسريبات، انما أنكروا معرفتهم بالمصدر او بالتفاصيل. لا شك، ان هذا أمر مخطط او مدروس، أو قل تصرف ذكي، ينفع على الأقل في تهيئة مراكمة إحباط الفلسطيني أو تهيئته لاستقبال الإجحاف بحقوقه ضمن مفهوم ما يمكن تحقيقه.  

لا شك أن نتنياهو وكل حكومته ومعارضيه في الكنيست وحتى قيادات من الصف الثاني والثالث أيضا، ستخرج علنا لتنفي بالقطع اي خبر عن اتفاق فلسطيني إسرائيل على منح السيادة على القدس المحتلة للفلسطينيين. ببساطة، لان السرية عندهم ليست مدخلا للتنازل ولا استغفالا لرأي الشارع. إنما على العكس من ذلك، لطالما لوحت إسرائيل برفض الغالبية لتقديم تنازلات للفلسطينيين؛ مستخدمة بذلك قوة التطرف لديها للهروب من استحقاقات دولية. فمتى سيصير لرأي شعبنا – كل شعبنا - وزنا في تقرير مصيره؟