النكبــة في عامهـا الستيــن: بمــاذا سننشغــل؟


ليس هناك قضية تؤرق كقضية اللاجئين الفلسطينيين، وليس هناك قضية فيها كبوات وغفوات مثل قضية اللاجئين الفلسطينيين. إنها قضية مُرهقة ومُنهكة، ويبدو أن العديد من  السياسيين قد تعبوا منها وصارت تعرقل حساباتهم الخاصة، فصاروا يبحثون عن وسائل للتخلص منها لتفدي حلها حلا عادلا، وعندما تغفو عيون محترفي السياسة يصرخ الساهرون على قضيتهم، اللاجئون أولا ثم من يمثلهم ويساندهم.
مركز بديل، المؤسسة التي تمثل وتساند، هو من الساهرين اليقظين على مصير اللاجئين الفلسطينيين، هنا في الوطن وهناك في الشتات والمنافي، ويشرفني التعاون مع المركز في أكثر من مشروع وقد لمست من خلال هذا التعاون الصدق في التعامل مع القضية والمثابرة ليس في المواقف فقط بل في التمكين والإبداع والتميّز.
 

في هذه المناسبة ومع بلوغ النكبة عامها الستين (لا أعتبرها ذكرى لأنها ما زالت مستمرة) سأطرح مجددا الدعوة التي كنت قد أطلقتها في أمسية العام التاسع والخمسين للنكبة، والتي أقمناها في حيفا في منتصف أيار من العام المنصرم، وهي أن يكون شعار الستين للنكبة: الشعر بدل الدموع، أي أن نذكر ونتذكر فلسطين ما قبل النكبة بما أعطته من ثقافة وحضارة، فلسطين التي كانت تتوهج فيها منارات ثقافية في يافا والقدس ونابلس وحيفا وعكا والناصرة وطولكرم، كانت تنجب الأدباء والفنانين وتستضيف المُبدعين من كل انحاء العالم العربي وكانت تترجم روائع الأدب العالمي. هذه "الفلسطين" انتكبت في ذلك العام ليس فقط بتشريد شعبها بل بمشروعها الثقافي والحضاري أيضا. لقد هدمت مدنها ومعالمها الحضارية، ونُهبت مكتباتها ومؤسساتها، ومثلما ظل شعبها يتعرض للملاحقة والقتل ظلت ثقافتها تتعرض للتدمير، فكم من اجتياح استهدف مسارحها ومراكزها الثقافية وجامعاتها في رام الله وجنين ونابلس والخليل؟

الشعر بدل الدموع يعني ألا نبكي على الأطلال ونندب مصيرنا، بل أن نستحضر من الذاكرة ما كتبه شعراء فلسطين عن جمال هذا الوطن وعن روعته وعن عشقه وهمومه في العهود الغابرة، ما كتبه القاضي الفاضل والرملي ووديع البستاني وخليل بيدس وجميل البحري وابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود ومطلق عبد الخالق وأبو سلمى، هذه الجذور التي نما عليها جيال بعد جيل من المبدعين الفلسطينيين الذين واصلوا العطاء رغما عن النكبة.

كان المعتدون يدركون تماما قبل النكبة أن ضرب ثقافة هذا الشعب يسهل عليهم تشريده لأن شعبا بلا ثقافة وحضارة قابل للتدمير والإبادة. ألم يصوّروا هذه البلاد، منذ مطلع القرن العشرين، أنها صحراء قاحلة ومستنقعات يخرج منها البعوض وأمراض الملاريا والديزنطاريا؟ لماذا؟ لكي يقنعوا العالم، في ما بعد، أن شعب هذه البلاد المتخلف لا يستحق الحياة امام  "الشعب" القادم من بلاد "الحضارات الراقية".

ألعودة الى الثقافة الفلسطينية قبل النكبة تعني اعادة تشييد مداميك المشروع الثقافي الفلسطيني الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر مع المشروع النهضوي العربي التحرري والذي انتكس مع حلول النكبة، ولذلك فان اعادة الحياة الى المشروع الثقافي الفلسطيني هي اسهام كبير في اعادة الحياة الى المشروع النهضوي العربي.

قبل ستين عاما بدأت نكبة الشعب الفلسطيني وهو لا يزال يدفع ثمنها لكنها ليست مسألة فلسطينية فقط، بل أنها مسألة عربية على المستوى القومي وعالمية على المستويين الأخلاقي والإنساني. ومن يحاول أن يرمي بكل ثقلها على الشعب الفلسطيني فقط فإما أنه تعب وإما أنه يتآمر، وهذا هو المحك الأخلاقي للقضية.

نعم، في العام الستين للنكبة يجب أن نضع الآخرين في المنطقة والعالم على المحك الأخلاقي، فلم يبق في هذا العصر قضية أعدل من قضية اللاجئين الفلسطينيين ولا مسألة أهم من تحرر الانسان الفلسطيني من كل أشكال الاحتلال، والسؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ماذا نفعل نحن من أجل صيانة أخلاقيات هذه القضية؟

هذا سؤال ثقافي وأخلاقي وسياسي أرجو أن يكون سؤالا رئيسا عندما ننشغل في العام الجديد بمرور ستين عاما على النكبة.

________________
الكاتب سلمان ناطور هو مدير معهد إميل توما للدراسات الإسرائيلية والفلسطينية. ناطور من مواليد دالية الكرمل (قضاء حيفا) في العام 1949،  وله أكثر من ثلاثين عمل قصصي ومسرحي وروائي ونقدي، آخرها "ذاكرة" التي صدرت عن مركز بديل في مطلع 2007.