حل مشكلة فلسطين: المحاججة بالمنطق والقانون وإستراتيجية التأثير العاطفي غير المبتذل

بقلم: لوري آلين*

تعتبر فلسطين ومنذ فترة طويلة بمثابة مشكلة شائكة، حتى عندما يتحدث الناس عن القضية الفلسطينية فهم يقصدون المشكلة الفلسطينية، وكل ما يقصدونه يتمحور مجملاً حول تقسيم الأرض والكيفية التي تم عبرها  تقسيم الشعب وتهجيره وخلق الوضع الحالي للاجئين الفلسطينيين.

ولقد قامت لجان تحقيق دولية عديدة بمحاولات لفهم وحل هذه القضايا الاشكالية، بما فيها لجان أمريكية وبريطانية، ولجان مدنية غير رسمية، كالتي جاءت كمبادرة للتحقيق في وقائع مجزرة صبرا وشاتيلا في عام 1982، بالإضافة إلى لجان أخرى دولية، منها لجنة التقصي الأنجلو أمريكية (1945-1946)، ولجنة الانتدابات الدائمة التابعة لعصبة الأمم، إلى جانب تحقيقات عديدة أخرى من قبل الأمم المتحدة، مثل لجنة غولدستون التي أنشأت عام 2009.

وقد تألفت كل لجنة من هذه اللجان من مجموعة من الخبراء وشملت في بعض الأحيان أكاديميين ومحاميين وعسكريين، كما وتم تكليف هذه اللجان من قبل حكومات أو من قبل تحالف لبعض الحكومات في بعض الأحيان من أجل التحقيق في جوانب خاصة بأحداث متعلقة بنزاعات أو بأحداث عنف في فلسطين.

لكن لا يزال الفلسطينيون يحاولون شرح هذه المشكلة من وجهة نظرهم للمحققين الذين يقومون بزيارة أراضيهم مع تفسير الأسباب التي توضح لماذا يستحقون دولة قومية مستقلة لهم، وكذلك عن أن حرمانهم من دولة يعد جزءامن الأسباب الجذرية للعنف في فلسطين. وقد ركزت الكثير من هذه الجهود على تقديم مناقشاتها بطريقة تلائم وتناسب أسلوب اللغة التي من شأنها أن تقنع حكومات الدول الغربية والرأي العام والمنظمات غير الحكومية الدولية والأمم المتحدة.

يشار إلى إن العديد من المفوضين والمحققين ضمن هذه اللجان قد قدموا توصياتهم بعد تمعن دقيق في الشهادات التي قدمها الفلسطينيين، ولكن نادرا ما يتم الاستجابة لمثل هذه التوصيات أو تحقيق المطالب السياسية لفلسطينيين على أرض الواقع. هذا على الرغم من أن السبب في عدم تحقيق ذلك يعد في الأساس خارج سيطرة الفلسطينيين، إلا أن اللوم لعدم فعالية تلك اللجان لا يقع كلياً على المنظمات الراعية لها فقط، بل يقع أيضاً على كل من كان بمقدوره المساعدة على تحقيق توصيات اللجان أو دعمها؛ فلا منظمة التحرير الفلسطينية ولا السلطة الفلسطينية أو حتى المجتمع المدني تمكنوا من وضع إستراتيجية موحدة ومتماسكة يمكن من خلالها تفعيل هذه اللجان وتحقيق توصياتها بطريقة ترتقي لطموح وتطلعات الفلسطينيين، سواء تطلعات اللاجئين، أو مواطني إسرائيل من الفلسطينيين أو أولئك المجردين من حقوقهم تحت الاحتلال.  

لجنة كينغ – كراين لعام 1919

أوفد الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" أول لجنة تحقيق أطلق عليها اسم "لجنة كينغ – كراين" عشية انطلاق مؤتمر باريس للسلام عام 1919، وهو المؤتمر الذي عقد بهدف تقسيم الشرق الأوسط بين القوى الأوروبية عقب انهيار الدولة العثمانية، حيث أرسل اللجنة إلى بلاد الشام (وفلسطين ضمنها) للوقوف على "آراء ورغبات أهل المنطقة بخصوص عملية التقسيم مع تقييم الظروف الاجتماعية والعرقية والاقتصادية هناك". وجاءت هذه اللجنة في المقام الأول من أجل "الوقوف قدر المستطاع على الحقائق ليكون الرئيس ويلسون والشعب الأمريكي على بينة من الحقائق فيبما يتعلق بالخط السياسي الذي سيدعون للسير فيه فيما يتعلق بمشاكل الشرق الأدنى سواء أكان ذلك في مؤتمر الصلح أو في عصبة الأمم".1

تجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من سكان فلسطين آنذاك أرادت دولة شامية مستقلة يحكمها نظام ملكي دستوري ولم تكن تريد أن تحكمها دولة أخرى، سواء إن كانت بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية. وقد رفض الكثير من العرب المادة رقم 22 من ميثاق عصبة الأمم حيث رفضوا تصنيفهم وفقاً للرأي الغربي والذي يشير إلى أن "الشعوب العربية ليست قادرة بعد على أن تكون مستقلة بذاتها في ظل الظروف الصعبة والمتقلبة للعالم المعاصر". كما كانت الأغلبية ضد المخطط الصهيوني لإقامة دولة يهودية بفلسطين. كما أنهم فرقوا بين اليهود الصهاينة القادمين واليهود الذين يعيشون في الأصل على أرض فلسطين، حيث تم التأكيد على تمتع يهود فلسطين بنفس الحقوق المتوافرة للآخرين. وكان وفد عربي قد قال لمحققي لجنة كينغ – كراين: " لهم ما لنا وعليهم ما علينا".2

نظمت الجماعات السياسية والحكومة المركزية العربية حملة كبيرة ضمت أكثر من 90 ألف توقيع على 1,863 عريضة قامت بها.وكان الأمير فيصل، والذي كان بمثابة الزعيم العربي الأبرز في بلاد الشام خلال تلك الفترة، قد أكد للجنة أنه: "الممثل المُخول من ]الشعب[عبر الأوراق الرسمية التي تشمل أكثر من ثلاثمائة آلف توقيع"،3 وهو ما يسبق بأوانه المبادرات المماثلة على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر! وقد أعتقد الكثير من كتاب الصحف في ذلك الحين أن مصير فلسطين سيتحدد وفقاً لرأي الشعب، ولذا كان من الضروري أن يتم عرض هذا الرأي عرضا دقيقا.

ومع الأسف،لم يكن لتقرير لجنة كينغ – كراين النهائي أي تأثير كبير على الواقع السياسي على الرغم من عكسه لمطالب العرب، كما قام مؤتمر باريس للسلام بتجاهل توصيات اللجنة، والتي لم ينشر تقريرها النهائي حتى عام 1922. وخلافاً لرغبات العرب ومطالبهم المعلن عنها، تم تقسيم سوريا ولبنان وفلسطين، وباتت فلسطين تحت وصاية حكومة منتدبة بدلا من الاحتلال العسكري البريطاني للبلاد والذي قائما بالفعل قبل فرض الانتداب بسنوات.

لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية:

نقاط مماثلة أيضاً ظهرت في سياق مختلف ضمن لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية، وهي لجنة تحقيق قامت بين عامي 1945 و1946 بهدف "دراسة مسألة يهود أوروبا وإعادة تقييم مشكلة فلسطين في ضوء هذه الدراسة".4ألبرت حوراني، الباحث البريطاني من أصل لبناني، والذي قام بتقديم حل للمشكلة الفلسطينية من خلال مقترح بغاية الدقة والبلاغة يدعو لإنشاء دولة مستقلة وديمقراطية مبنية على أساس الحكم للأغلبية، كان قد على علق في هذا الصدد قائلاً:

" لقد قام الشعب العربي مرة أخرى، ومن خلال قياداته المسؤولة، بالتأكيد على أن الحل الوحيد العادل والعملي لمشكلة فلسطين يكمن في وضع دستور فلسطيني – دون أي تأخير ممكن – يجعل منها دولة تتمتع بحكم ذاتي تضم الأغلبية العربية مع منح الحقوق الكاملة للمواطنين اليهود داخل فلسطين".5  

وعلى الرغم من إعجاب المفوضين ببيان حوراني، إلا أن التقرير النهائي للجنة تجاهل نقاط بيانه المعارضة للتقسيم، كما تجاهلت اللجنة إصرار حوراني على أن قضايا مثل " قضية الهجرة، يجب أن يتم الفصل فيها من خلال إجراء ديمقراطي اعتيادي يتوافق مع رغبة الأغلبية"؛ بل وقامت بالموافقة على القبول بـ 100 ألف مهاجر يهودي إضافي وأيضاً على استمرار الانتداب البريطاني. وبالإضافة إلى ذلك وبالرغم من تحذيرات حوراني من "مصاعب محاولة رسم حدود دولة يهودية، ستظل أقلية فلسطينية كبيرة متواجدة داخل هذه الحدود وسيصعب نقلها قسراً لأنه سيستحيل نقل الفلاحين من أراضيهم قسراً"، إلا أنه تم بالفعل تهجير مئات الآلاف من الفلاحين وغيرهم قسراً من وطنهم التاريخي.

لجنتي ميتشل وغولدستون:

تعكس لجنتا ميتشل وغولدستون معالم تغير في رأي وفهم المجتمع الدولي للمشكلة الفلسطينية وكيفيةالتعامل معها. حيث قامت لجنة ميتشل، والمعروفة رسمياً باسم لجنة شرم الشيخ لتقصي الحقائق، بنشر تقريرها يوم 30 أبريل/نيسان 2001، وهو ما يعد بمثابة ستة أشهر كاملة بعد مطالبة الرئيس الأمريكي كلينتون بنشره عقب اختتام أعمال قمة سلام الشرق الأوسط التي عقدت في شرم الشيخ، كما جاء نشر التقرير بعد شهر من اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وقد قامت هذه اللجنة لتكون لجنة تقصي حقائق، وليست محكمة، تهدف لمعرفة وقائع ما حدث بالفعل وكيفية إنهاء العنف ومنع تكرار وقوعه.

أما لجنة غولدستون فقد انطلقت أعمالها في عام 2009 من قبل الأمم المتحدة في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الذي استمر 23 يوما على قطاع غزة، والتي أطلقت عليه إسرائيل اسم "عملية الرصاص المصبوب". وكلفت الأمم المتحدة هذه اللجنة بالتحقيق في ملابسات انتهاك حقوق الإنسان ضد سكان قطاع غزة إلى جانب ردود الفعل على الأحداث من الجانبين.

قامت كلتا اللجنتان على جمع الحقائق والأدلة القانونية من جهة، والقصص الشخصية لضحايا أعمال العنف من جهة أخرى. فعملت لجنة ميتشل على تحصيل مذكرات خطية عديدة من الحكومة الإسرائيلية ومن منظمة التحرير الفلسطينية لشرح أحداث وأسباب اندلاع الانتفاضة الثانية. وقامت اللجنة بعدة زيارات لإسرائيل وفلسطين قام  من خلالها المفوضون والعاملون باللجنة بزيارات ميدانية لسماع أقوال الممثلين السياسيين وضحايا العنف من كلا الجانبين، وتضمنت أيضاً زيارات لبعض الأسر الفلسطينية التي فقدت ذويها على أيدي الجيش الإسرائيلي بالإضافة إلى الأشخاص الذين فقدوا مصدر رزقهم وأعمالهم التجارية جراء ممارسات الاحتلال وكذلك المزارعين  الذين فقدوا أشجارهم ودمرت أراضيهم من قبل المستوطنين الاسرائيلين.

عوّل الفلسطينيون قضيتهم بشكل كبير على اتفاقية جنيف الرابعة، وبالأخص على المادة رقم 49 من هذه الاتفاقية والتي تحظر إقامة مستوطنات داخل الأراضي المحتلة، وقاموا بعرض نقاط مناقشتهم بطريقة منهجية ومنظمة كما هو متبع مع القضايا القانونية. وقام الفلسطينيون العاملون على تنظيم الزيارات الميدانية لأعضاء هذه اللجان بمحاولات لجعل المفوضين يفهمون صعوبة الحياة تحت الاحتلال من خلال تجربة الفلسطينيين. أثارت زيارة هؤلاء الأعضاء للفلسطينيين ردود فعل تعاطفية، فعلى سبيل المثال وفي أحدى الزيارات، وصف فلاح فلسطيني لأعضاء اللجنة ما حدث لبستان زيتون كان ملكاً لأهله قام مستوطنون إسرائيليون باقتلاع المئات من أشجاره. ولقد كان لهذه الحادثة أثر على أحد أعضاء اللجنة حيث رآها كعمل عدائي، مما ساعده على إدراك أن المشكلة ليست فقط بين الجيش الإسرائيلي وجماعات إرهابية، بل تمس حياة آخرين من عامة الشعب أيضاً. فمثل هذه الشهادات الموثوق بها والتأثير العاطفي للمدنيين وغير السياسيين يكون لها أثر أكثر اقناعاً، خصوصاً لأن الناس العاديين من عامة الشعب التي تعاني من ويلات الاحتلال والمستوطنات لا يوجد لديها أجندات سياسية شخصية. يقابل ذلك، أنه لم يكن لخطابات المتحدثين الرسميين ولا للمذكرات المكتوبة لمنظمة التحرير الفلسطينية عن متطلبات القانون الدولي الواردة أي تأثير يذكر في الجدال المنطقي عن تاريخ الاحتلال، ولكن الأثر الأكبر كان للذين فقدوا ذويهم وعانوا من أزمات اقتصادية خلال حياتهم اليومية. وعلى الرغم من الانطباع الجيد الذي تركه المحامون الفلسطينيون عند تقديم نقاشهم القانوني بطريقة منظمة ومهنية، وعلى عكس التقديم المقدم للجنة كينغ – كراين والذي لم يترك أي انطباع يذكر عند أعضاء اللجنة، ففي النهاية يتضح أن الأمر الذي ترك الأثر الأكبر وكان الأكثر إقناعاً للأمريكيين هو التأثير العاطفي الناتج عن التعامل مع المدنيين العاديين، بالإضافة إلى رؤية المشاعر السلبية والعدائية التي يظهرها المستوطنون الإسرائيليون.

يشار إلى أن القاضي ريتشارد غولدستون كان قد علق على هذا الأمر قائلاً أن: "الكلمات الخطية لا يمكن لها أن تنقل الرسالة بذات الطريقة التي تنقلها القصص التي يلقيها الناس بأنفسهم وحسب روايتهم وكلماتهم". وقامت لجنة غولدستون، ومثلما فعلت لجنة ميتشل من قبلها، بعرض بث شهادات حية لناس عاديين يشار إليهم كضحايا ممن عايشوا عملية الرصاص المصبوب. وكانت هذه اللجنة أول لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة تتضمن جلسات علنية، ولقد استمعت إلى "ما يقرب من 40 شهادة خلال تلك الجلسات. شملت شهادات عديدة للأسر التي عانت من فقدان ذويها".6 وقدم القاضي غولدستون، والذي قال أنهم: "مدركون تماماً لآلام الضحايا في المجيء هنا والحديث عن معاناتهم". وقد عبر عن شكره الخاص للنساء والرجال الذين يتحلون بشجاعة كبيرة حتى يأتوا ويتحدثوا عن شهاداتهم ومعاناتهم. وكان تقرير اللجنة قد أشار إلى أن "الهدف من عقد الجلسات العلنية هو إظهار الجانب الإنساني للمعاناة وإعطاء صوت للضحايا حتى لا تضاف قصصهم للإحصاءات فحسب".

وكان تقرير اللجنة قد أشار إلى " تلقي اللجنة امتنان المشاركين والمتضررين من الأحداث كونها أتاحت لهم منبرا للتحدث علناً عن تجاربهم ومعاناتهم".7 وقد أصرت أحدى المفوضات على أنهم حاولوا قصارى جهدهم "نقل محن ]الضحايا[من خلال القصص التي قاموا بسماعها" لكن أفضل شيء بحسب قولهاهو: "سماع القصص بأصوات الضحايا أنفسهم".8

وكما أشارت القانونية نورا عريقات فإن "تقرير ]غولدستون[لم يكن ليفي بوعوده في تحقيق العدالة والمساءلة دون توفر الرغبة الحقيقية في ذلك لدى الدول المعنية"،9 فما هي الحاجة إذن من قصص معاناة الناس؟ وهل كان بمقدورها إضافة الجديد؟

 وعند افتتاح القاضي غولدستون لأول جلسة علنية ألمح إلى أن "الهدف يكمن في السماح للضحايا والناجين من كل الأطراف بتقديم روايتهم بأنفسهم للمجتمع الدولي، وبهذه الطريقة نأمل أن يتمكن الناس حول العالم من فهم تخوفات وقلق الجانبين بشكل أكبر".10

ربما لم تكن لريتشارد غولدستون أي نية لتحقيق أي شي على أرض الواقع أكثر من هنري كينغ، والذي كان ضمن المفوضين في لجنة تحقيق كينغ – كراين، عقب نهاية رحلة اللجنة لبلاد الشام، وذلك على الرغم من قوله "أن الرحلة في اعتقادي كانت مثمرة جدا حيث حصلنا على نتائج لم يكن بمقدورنا الحصول عليها من دون هذه اللجنة". كما كان قد قال أيضاً أن "الناس ستشعر بالتأكيد أنه تم التشاور معهم ولا يمكن أن يكون هناك توجه آخر في هذا الصدد".11 وبالفعل نجح كينج في جعل الناس (تشعر) بأنه قد تم التشاور معهم.

افتقار الإستراتيجية السياسية

قام الفلسطينيون بجمع وتقديم الحقائق التاريخية والإحصاءات المجمعة والأدلة المصورة والفوتوغرافية لكل لجنة من بين عشرات اللجان التي طالبت بالأدلة والمناقشات السياسية؛ بل وعرضوا عليهم أيضاً تقديم شهادات لشهود عيان. وتأتي مثل هذه الجهود كمحاولات لتقديم مطالبهم السياسية بالتحرر حتى يتسنى للذين لديهم القوة والنفوذ سماع وفهم موقفهم ومطالبهم. وقد حاول الكثير منهم وبطرق مختلفة تقديم مثل هذه المطالب كممثلين عن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال.

ولقد عملت كل هذه اللجان على توفير لغة الشرعية السياسية للفلسطينيين ليقدموا أدلتهم وبراهينهم مع إعطائهم مجال للمناورة والنقاش بواسطة الطرق المشروعة لمثل هذه اللجان. واستطاع الفلسطينيون نقل رؤيتهم إلى عصبة الأمم من خلال الالتماسات والمطالب الموحدة والممثلة للشعب التي قدمت للجنة كينغ – كراين، بل واستمروا في تقديم الالتماسات لهذه اللجنة - وعبر لجنة الانتدابات الدائمة - باستخدام اللغة المنهجية وبالمناقشات والحجج القانونية للمطالبة بالحقوق التي ينص عليها النظام القانوني الخاص بعصبة الأمم. كما قدم الفلسطينيون ومن خلال لغتهم القانونية والتفاعلات المتعاطفة للجنتي ميتشل وغولدستون شهادات لضحايا تم اختيارها بعناية شديدة، وتم تهميش أي شهادات ميلودرامية أو المتلاعب بأحداثها واقتطاف فقط تلك التي لم يتم التدرب عليها والتلقائية. ويعود سبب ذلك  في الأساس إلى أنه لا يوجد لتلك الشهادات أي اتساق في عرضها، على عكس الطرق الأخرى التي حاول الفلسطينيون من خلالها النقاش والتبرير وإثارة العواطف، وغالباً ما كانت تتوقف المناقشات عند شعور الناس بأنه تم التشاور معهم على ما يجب عليهم قوله. ولكن يجد الفلسطينيون أنفسهم الآن أبعد مما كانوا عليه في السابق للحصول على دولة مستقلة، فالمشروع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني والذي يقف حائلا أمام إحلال السلام لا يزال يشهد نمو واتساع، هذا إلى جانب التجاهل المتواصل للقانون الدولي وانتهاكات حقوق الإنسان التي يعاني منها الفلسطينيون داخل وخارج السجون.

لن تكون المناقشات والحجج والتوسلات المحركة للمشاعر التي يقدمها الفلسطينيون للجان الدولية كافية بمفردها أبداً. ليكون تأثير الفلسطينيين فعالا واكثر اقناعا، يجب أن يتم تنسيق امر تمثيلهم للفلسطينيين وتقديمهم لعدالة قضيتهم وظلم الاحتلال والتهجير الجماعي. وكان القرن الماضي قد شهد واحدة من المرات القليلة التي قدم فيها العرب مناقشاتهم بطريقة موحدة ومنهجية ومستدامة للشعوب والقوى الغربية وذلك من خلال جهود المكتب العربي الذي ضغط على الحكومات وعرض وجهة نظر الفلسطينيين للإعلام الغربي وخاطب أمام الرأي العام الغربي أيضاً. ولكن مع الأسف تم إغلاق هذا المكتب في عام 1949. وكان سيسيل حوراني، أحد مديري المكتب، قد علق على نشاط المكتب قائلاً: "لقد حاولنا تكوين الصداقات ولم نحاول أن نخلق أعداء، وذلك لأن الصداقة هي علاقة متبادلة تتطلب من الجانبين وجود إرادة للتحابب".12 تكوين الصداقات بهدف إقناع الآخر هو في حد ذاته ركن من أركان السياسة، ولقد حان الوقت لمثل هذه السياسة لتدخل في الصراع مرة أخرى. 

------------------------------------

*لوري ألين:محاضرة في قسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة كامبريدج، ومؤلفة كتاب "صعود وسقوط حقوق الإنسان: السخرية والسياسة في فلسطين المحتلة (ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد، 2013) 


[1] ترجمة من تقرير كينغ – كراين بتاريخ 28 أغسطس/آب 1919 والمتوفر على الرابط: http://www.hri.org/docs/king-crane/syria.html#statement.

[2]"مقابلة لجنة كينغ – كراين في ربوع فلسطين وشرق الأردن: يونيو/حزيران1919": وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1918-1939): من أوراق أكرم زعيتر، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984، ص (23-24).

[3] هاري ن. هاورد، لجنة كينغ – كراين: تحقيق أمريكي في الشرق الأوسط، بيروت، الخياط، 1963، ص (121).

[4] تقرير اللجنة على الرابط: http://avalon.law.yale.edu/20th_century/angpre.asp..

[5] "قضية المعارضة لدولة يهودية في فلسطين: بيان ألبرت حوراني للجنة التحقيق الأنجلو أمريكية لعام 1946": مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 35،  عدد 1 (خريف 2005)، ص (80-90) رقم الصفحة 81. وأيضاً مقالة وليد الخالدي "عن ألبرت حوراني والمكتب العربي واللجنة الأنجلو أمريكية لعام 1946": مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 35، عدد 1 (خريف 2005)، ص (60-79).

[6] مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة، والمتوفر على الرابط:

http://www2.ohchr.org/english/bodies/hrcouncil/specialsession/9/FactFindingMission.htm..

[7] مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، A/HRC/12/48، 15 سبتمبر/أيلول 2009. "حالة حقوق الإنسان في فلسطين وفي الأراضي العربية المحتلة الأخرى، تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة" والمتوفر على الرابط: http://www2.ohchr.org/english/bodies/hrcouncil/docs/12session/A-HRC-12-48_ADVANCE1_ar.pdf.

[8] نص غير رسمي للمؤتمر الصحفي الذي عقد في قصر الأمم في جنيف يوم 29 سبتمبر/أيلول 2009 بحضور أعضاء بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة: القاضي رتشارد غولدستون والسيدة هينا جيلاني والأستاذة الجامعية كريستين تشينكين والعقيد ديزموند ترافيرس" والمتوفر على الرابط:

[9] نورا عريقات، الجزء الثاني من تقييم المائدة المستديرة: غولدستون والمساءلة"، والمتوفر على الرابط: http://www.jadaliyya.com/pages/index/1569/review-roundtable-part-ii_goldstone-and-accountabi.

[10] الجلسة العلنية لبعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة – مدينة غزة، الجلسة الصباحية ليوم 28 يونيو/حزيران 2009،والمتوفرة على الرابط: http://www2.ohchr.org/english/bodies/hrcouncil/specialsession/9/FactFindingMission.htm..

[11] هاري ن. هاورد، لجنة كينغ – كراين: تحقيق أمريكي في الشرق الأوسط، بيروت، الخياط، 1963، ص (154).

[12] سيسيل حوراني، رحلة غير مكتملة: لبنان وأكثر، الكتابان الأول والثاني، بيروت، مكتبة أنطوان، 2012، ص (64).