منح اللاجئين حق التصويت: قراءة مقارنة في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني

بقلم: تيري ريمبل*

في بداية أيلول 1993، بضع أسابيع قبل التوقيع على وثيقة إعلان المبادئ- أوسلو، لتحديد الهيكل السياسي الذي بدوره سيحدد عبر مفاوضات الحلّ لمستقبل فلسطين الانتدابية، أصدرت أكثر من 100 شخصية فلسطينية من مجالات الحياة المختلفة إعلاناً عاماً يحذرون عبره من أنّ "قرارات تمسّ قضايا جوهرية وحساسة لمصير الشعب الفلسطيني لم تعد تُقرّ، كالسابق، من خلال المؤسسات الفلسطينية". بالنسبة للكثيرين منهم فقد تحقق هذا التخوف عندما تقرر لاحقاً عدم عرض إعلان المبادئ على المجلس الوطني الفلسطينيأو على منظمة التحرير الفلسطينية، وهي أعلى هيئة بما يتعلق بالقرارات السياسية.

أكثر من ذلك، فإنّ نقل كوادر منظمة التحرير ومواردها من أجل بناء دولة فلسطينية مستقبلية في الأرض المحتلة، ونقل المسؤوليات السابقة لمنظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية القائمة حديثا في بعض مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، التي تفتقر للكثير من الصلاحيات قد عززت التخوفات والشكوك حول مقدرة منظمة التحرير على تمثيل الحقوق، المصالح والطموحات للشعب الفلسطيني قاطبةً. الكثير من الناشطين، الأكاديميين وصُناع قرار على حدّ سواء بدأوا الحديث عن "أزمة التمثيل السياسيبشكل خاص، استناداً على خلفية إقصاء الغالبية الكبرى من اللاجئين الفلسطينيين من صناعة القرارات التي تحدد مصير مستقبلهم.

يمكن قراءة إحدى التفسيرات المقنعة لهذه الأزمة في التسجيلات الخطيّة واستنتاجات اللجنة البريطانية لبحث أوضاع اللاجئين الفلسطينيين. هذه اللجنة شُكلت من مندوبين عن جميع الأحزاب البريطانية وقد اوُكل إليها جمع شهادات من لاجئين فلسطينيين في المخيمات وأماكن تواجدهم الأخرى في الشرق الأوسط، وذلك بعد انهيار المحادثات عام 2000 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. التقرير يصف قضية التمثيل السياسي كأكثر القضايا تعقيداً في أوساط اللاجئين ومع ذلك فإنها لا تُدرس ولا تُبحث كفاية. اللجنة تُرددّ رغبات اللاجئين بمعالجة الفجوات في التمثيل السياسي على جميع الأصعدة: السياسية، الحقوقية، الجماعية والفردية. إحدى المطالب الأساسية لأولئك الذين يأملون بتحسين واقع الأزمة وإعادة الوحدة للشعب الفلسطيني، كانت النداء لتنظيم انتخابات مباشرة للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية. هنالك حملة قد أطلقت العام الماضي تهدف إلى تحقيق هذه الغاية. تحضيراً لهذه الانتخابات؛ فقد بدأت الحملة بتسجيل غالبية الفلسطينيين المقيمين خارج حدود فلسطين الانتدابية والذين قد يدلون بأصواتهم خلال هذه الانتخابات المنشودة.

إن منح اللاجئين الفلسطينيين الحق في المشاركة بانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني إنما يًسلط الضوء على قضية طالما هُمشت ولم تُعطى انتباهاً كافيا عند مناقشة قضية حقوق اللاجئين وهي قضية حق اللاجئين بالمشاركة بصياغة ورسم الشؤون العامة إن كان بشكل مباشر أو عبر مندوبين تم اختيارهم بشكل حرّ.

مشاركة اللاجئين في الانتخابات

لقد شهدت العقود الأخيرة تعاظماً بالاعتراف، مبدئياً وعملياُ، بحق اللاجئين بالاشتراك بالانتخابات في بلدهم الأصليّ. هذا لا يعني أن هذه القضية لم تُعرض أو تُناقش في العقود التي سبقت ذلك. خلال فترة ما بين الحربين العالميتين سُمح للمواطنين المقيمين خارج بلدهم الأم الاشتراك بالاستفتاءات الشعبية مع أنّ ذلك كان مشروطاً بعودتهم لاحقاً لبلدهم. الكثير من الاتفاقيات المهمة لإنهاء الاستعمار في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بدايةً بالجزائر، ضمّت بنوداً خاصة تخصّ قضية حق المشاركة بالانتخابات للاجئين في سياق النضالات الوطنية للتحرر والاستقلال. بينما كانت المشاركة بحسب هذه الاتفاقيات مشروطة بالعودة فإنّ استفتاءات حديثة، على سبيل المثال إريتريا وتيمور الشرقية، قد منحت حق التصويت للمقيمين خارج البلد الأم دون شروط. هذا الحق بات متجذرا قانونيّا وعلى مستوى الممارسة بحق تقرير المصير. يمكننا أن نعزو انتشار الإدراك والاعتراف بشرعية حق اللاجئين بالمشاركة بالانتخابات في بلدهم الأم للتعريف الحاسم والمحدد لهذا الحق بحسب القانون الدولي، لانتشار الديمقراطية الليبرالية ومركزيتها لبعثات بناء السلام المعاصرة، تأثير العولمة على ممارسات المشاركة السياسية وتعريف التهجير القسري كقضية حقوق إنسان. مع ذلك، يمكننا أن نعزو هذا التطور، كما يوضح لنا المثال الفلسطيني، إلى مطالب اللاجئين ذاتهم بالمشاركة. صياغة حق المشاركة في الانتخابات للاجئين في الكتيب الذي أصدرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن إعادة اللاجئين الطوعية لوطنهم وفي التوصيات العامة ضمن بند 5 في المعاهدة الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتي ساعدت بلفت الانتباه لهذا الموضوع، إنمّا تُبين مدى تعاظم التفهم لهذه القضية وأنّها منذ تلك اللحظة قد باتت قضية حماية وقضية حقوق إنسان. تلك كانت الشرارة التي حثّت الكثير من المؤسسات الأوروبية، مثل منظمة الأمن والتعاون قي أوروبا (OSCE) ومجلس أوروبا (CoE) لإقرار معايير جديدة بما يتعلق بإجراء انتخابات حيث أقّرت أهمية مشاركة اللاجئين.

  وحديثاً، أقّر الأمين العام للأمم المتحدة "إطار عمل تمهيدي" عن موضوع "إنهاء التهجير عقب الصراع" والذي يدعو إلى "بذل جهد خاص لإقرار سياسات وتشريعات تسمح للأشخاص المهجرين بمزاولة حقوقهم بشكل كامل، بما يشمل الحق بالمشاركة في رسم الشؤون العامة، الانتخابات ومبادرات بناء السلام وضمان تأثير آرائهم على محادثات للسلام وعلى السياسات التي تمت لمصيرهم بأيّة صلة". وتحديداً عن حقّ التصويت، يُشدد إطار العمل على أهمية إثارة موضوع مشاركة اللاجئين بأيّ نشاط سياسيّ، بما يشمل المفاوضات حول مصيرهم، الأمر الذي يسبق عادةً الانتخابات التي تُعقد بعد إنهاء الصراع.

المعاهدات التي تدافع عن قدسيّة المشاركة السياسية وتعتبرها حقّاً أساسيّاً من حقوق الإنسان مُلزَمة بمعالجة الحالات الخاصة للاجئين. تحديداً، ضمان حقّ المشاركة والتأثير في تصميم ورسم سياسات الشؤون العامة للمواطنين المقيمين خارج بلدهم الأم، بغض النظر عن تلاشي فعالية مواطنتهم. منظمة الهجرة الدولية (IOM)، والتي عملت جاهدةً لتحديد التزامات ومعايير وممارسات ملائمة، تطرقت لموضوع هذه الفجوة وأشارت إلى أنّ حق التصويت للاجئين بحسب القانون الدولي هو وليد مباشر للمبدأ الأساسي والشامل المناهض للعنصرية. رغم ان اقتراح قانون أولي في أوروبا إلى أنّ التمييز بالمواطنة يجب أن يُقتصر على تحديد إذا ما كان المواطن خارج بلده الأم طوعاً أو قسراً؛ الا ان مقترح القانون لم يتطرق لخصوصية قضية اللاجئين. ان التشريع الحديث، والذي يعتمد على مبدأ الممارسة المثلى في الأمور الانتخابية يدعم الإدعاء أنّ إقصاء اللاجئين من المشاركة في الانتخابات في بلدهم الأم قد تُشَكِل تقييدا عشوائيا، الامر الذي يؤدي الى الحرمان من الحق في المشاركة السياسية. من هنا تنبع الحاجة الى خلق مساحة لتحسين القانون، من خلال التوصيات لمناقشة ودراسة إمكانية تعزيز قداسة حق اللاجئين بالمشاركة السياسية عن طريق خلق آليات مُلزمة.         

التعليل، الذي يُذكر عامةً، لمنح اللاجئين حق التصويت يتعدّى كونه اعترافا واسع الشعبية كأحد حقوق الإنسان الأساسية. توثيق وتسجيل اللاجئين والنشاطات والحملات التي ترافق عملية الانتخاب نفسها تشكل الأدوات التي بوسعها إعادة وتجذير الاتصال والتواصل بين اللاجئين من جهة ومجتمعاتهم من جهة أخرى. دمج اللاجئين في خضم عملية الانتخاب في بلدهم الأم قد تسهم أيضا إلى المصالحة الوطنية وقد تضمن اندماجهم في سيرورة إعادة البناء والتطوير. ان منح اللاجئين حق التصويت قد يصحح ويشكل رقيبا ضد التزييف الديمغرافي من خلال مشاركتهم بغض النظر عن تهجيرهم. إنّ شرعية أيّة عملية انتخابية تتعلق بإتاحة الفرصة أمام اللاجئين للتصويت، بالذات في حال كانوا يشكلون قطاعا كبيرا، على المستوى الوطني والمستوى التشريعي. أخيراً، في حالات تسبق فيها الانتخابات إقرار معاهدة سلام فإن مشاركة اللاجئين قد تضمن أن ممثليهم في المفاوضات يعبّرون حقاً عن حقوقهم، مصالحهم وطموحاتهم.

لعلّ مشاركة اللاجئين في الانتخابات التي جرت بعد نهاية الحرب في كلٍّ من كمبوديا وموزمبيق قد كانت السبب وراء تعديل سياسة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون للاجئين. مع كون منح حق التصويت مشروط بعودة اللاجئين فإنّ الانتخابات التي عُقدت في كلٍّ من البوسنة والهرسك وكوسوفو في النصف الثاني من العقد قد أنشأت معايير جديدة من خلال اعتماد هذه البلدان إجراءات خاصة لإتاحة فرصة التصويت أمام المقيمين خارج حدود البلد. معاهدات السلام في جميع هذه الحالات قد شملت بنودا خاصّة وواضحة بخصوص منح حق التصويت للاجئين في عمليات الانتخابات ما بعد الحرب. في المعاهدات والاتفاقيات المختلفة يبدو أنّ مداولة حقّ المواطنة تخص بالأساس حقوق الإنسان وموعد العودة أكثر بكثير مما تخص حق التصويت للاجئين. في حالات أخرى، مثل كرواتيا، فقد تم هناك تنظيم حق المواطنة عبر القوانين والإجراءات الخاصة بالانتخابات الحكومية. لكن، في أغلب الحالات فإن إقرار حق المواطنة وحق التصويت، يتم بعد عودة اللاجئين وقبل عقد الانتخابات. حالات مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو، وحديثاً أفغانستان والعراق أيضاً، هي الاستثناء وليس القاعدة. مع ذلك فإن الممارسة بعيدة كل البعد عن أن تكون مستدامة فهي تتغير وتتبدل بحسب المناطق ولم تصل الى مستوى المنهج الموحد.

   السبب وراء ذلك هو بلا شك حقيقة غياب عملية تجذير هذه الحقوق الانتخابية للاجئين ضمن آليات مُلزمة. الجهات المعتمدة، مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون للاجئين والمنظمة الدولية للتهجير قد بدأوا حديثاً، خلال العقد الأخير بتغيير المعايير وتحسين الممارسات لإرشاد الجهات السياسية والجهات العاملة في مجال حقوق الإنسان. إن مشاركة اللاجئين في الانتخابات في بلدهم الأم تجلب معها كمية لا بأس بها من التحديات، والإصلاحات مثل تغيير وإسقاط التشريع العنصري، وتشخيص وتوثيق وتسجيل الناخبين، وتحديد بنود تحددّ الجدول الزمني والمعلومات للناخب، وتأمين الشروط الآمنة والمناسبة لعودة اللاجئين الطوعية حتى يتسنى لهم المشاركة في الانتخابات، الصعوبات الإضافية والتكاليف الناشئة عن عقد انتخابات خارج البلد الأم، كاالتعامل مع اعتراض أو تقييدات مفروضة من قبل الدول المضيفة على الناخبين المقيمين خارج البلد الأم. هنالك أيضاً الخطر الدائم الذي قد ينجم عن عملية انتخاب غير منظمة بشكل حسن. حالة كهذه قد تكون الزناد لبداية صراع جديد الذي من جهته قد يتسبب في تهجير أفواج جديدة. نستنتج، أنه ومع كون الانتخابات عمادا مركزياً في حالات الانتقال من الحرب إلى السلم، هنالك إدراك يتعاظم يوماً بعد يوم لأهمية إيجاد آليات إضافية وداعمة لتمكين أكبر عدد ممكن من المعنيين من المشاركة في صنع السلم.

منح اللاجئين الفلسطينيين حق التصويت

مقارنة بسيطة مع التجربة الفلسطينية تُبرز أهمية النداءات الحديثة لعقد انتخابات للمجلس الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية كخطوة أولى في مداولة الأزمة سالفة الذكر بخصوص التمثيل السياسي والتي قد بدأت قبل أكثر من عقدين. على سبيل المثال، فكرة عقد استفتاء شعبي مما قد يتيح للشعب الفلسطيني تقرير وتحديد مستقبله قد أُجلت منذ بداية الأزمةمراراً عديدة مقابل آليات لا تمنح إلا القليل من فرص المشاركة السياسية. لقد فشلت الأحزاب السياسية، مرّة تلو الأخرى، بالوصول الى إجماع بما يخص ضمّ ودمج اللاجئين في عملية الانتخابات، على الرغم من أن اللاجئين يُشكلون أغلبية الشعب الفلسطيني. منح حق التصويت للاجئين الذين تعود جذورهم لفلسطين المحتلّة عام 1948 لم يُناقش بتّاً، أما بالنسبة للاجئين الذين تعود جذورهم لفلسطين المحتلّة عام 1967 فقد تم إقصاؤهم، وان كان ذلك، "مؤقتاً" من المشاركة في الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية. بداية أقر تأجيل الأمر لصالح مبدأ الحصة النسبية، كوتا، وذلك بتعليل أن البلدان العربية المضيفة لم تُبد تعاوناً. تلا ذلك التركيز على بناء الدولة والذي تزامن مع خلافات حول إصلاحات كان من المفروض أن تتيح مشاركة المجموعات الإسلامية. كل ذلك سوياً قد أسهم في عدم عقد الانتخابات للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية.

عقد الانتخابات المباشرة للمجلس الوطني الفلسطيني وبغضّ النظر عن التحدّيات القانونية، السياسية، الإدارية واللوجستية تُشكل أكثر الآليات نجاعة لكونها مباشرة، واقعية وشاملة وهي تتيح للاجئين الفلسطينيين أن يكونوا شركاءً في صناعة قرارات قد تؤثر على حياتهم بما يشمل مستقبلهم. من بين الميّزات العديدة لهذا الأمر فإنها تشكل آلية لتعزيز التواصل وتقوية الاتصال بين اللاجئين وقياداتهم كما تدعم المصالحة الوطنية وتسهم في ضمان تمثيل حقوق ومصالح وطموحات اللاجئين على يد ممثليهم المفاوضين. يبدو أنّ منح حق التصويت للاجئين خلال الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني قد يفتح أمامنا أبواباً جديدة ومستويات لم نعهدها عند مقارنتها بحالات مشابهة في أماكن أخرى. إن تنفيذها على الرغم من غياب دولة مستقلة أو معاهدة رسمية تنهي الصراع ووجود المجتمع المدنيّ في مركز الأحداث وصناعة القرار وكمية لاجئين تشكل الأغلبية الناخبة؛ عقد مثل هذه الانتخابات تُلزمنا بإعادة التفكير، بشكل جذريّ، بكل تجارب الماضي بالتوجه والمقاربة لحل الصراع بما يشمل قضية اللاجئين الفلسطينيين، كما يتوجب إعادة النظر بكل التطبيقات لمنهجيات أُستخدمت لحل الصراعات في أماكن أخرى.   

--------------------------

*تيري ريمبل: باحث متخصص في قضايا اللجوء، وخصوصا اللائجين الفلسطينيين، مقيم في كندا، وعضو شبكة الخبراء المساندين لمركز بديل.