بقلم: عبد الفتاح القلقيلي (ابو نائل(*

رغم أن مصطلح "مشروع الدولة الواحدة" صار في الفترة الأخيرة دارجا على شفاه المتحدثين، وأقلام الكاتبين، إلا إنني لا استعمل مصطلح مشروع، وإنما أميل لاعتماد مصطلح "مشكلة"، لان المشروع هو خطة للتنفيذ ضمن زمن محدد. أما المشكلة فهي في اللغة الأمر الصعب والملتبس. أما اصطلاحا فالمشكلة هي القضية الفلسفية التي لا نتوصل فيها إلى حل يقيني، نتناولها بالتأمل، و تبقى تثير التساؤل المستمر. إن المشكلة  الفلسفية سؤال لم يجد حلا مقبولا لدى الجميع، فهي سؤال حي لا يزال يوضع، إنها إذن مفعمة بالحياة.

يبدو أن "الدولة الفلسطينية الواحدة" التي كانت أول تصور للحل عام 1939، عادت لتكون آخر تصور للحل عام 2013.قررت الحكومة البريطانية الدعوة لعقد مؤتمر يشارك فيه العرب الفلسطينيون واليهود الصهاينة وممثلون عن حكومات العراق والسعودية ومصر وشرقي الأردن، لتدارس حل للمسألة الفلسطينية. وقد انعقد المؤتمر في لندن في قصر سانت جيمس واستغرق انعقاده نحو أربعين يوماً امتدت من السابع من شباط إلى السادس عشر من آذار في العام عينه. ألا يشبه ذلك المؤتمر مؤتمرَ مدريد الذي انعقد عام 1991؟

ما هو مهم في هذا المعرض، أنه وفي يوم 27 أيار من العام 1939 أصدرت الحكومة البريطانية كتابها الأبيض الرابع، وذلك رغم فشل المؤتمر. ويتلخص المبدأ الأساسي الذي يحكم سياسة الكتاب في إقامة دولة فلسطينية  ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثل في حكومتها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي، وترتبط بمعاهدة مع دولة بريطانيا لمدة عشرة سنين.

 وفي ضوء أن الحكومة البريطانية كانت تستمد شرعية حكمها لفلسطين من عصبة الأمم المتحدة، فقد كان مقرراً في وقت لاحق أن يتم عرض الكتاب على العصبة للمصادقة عليه، غير أنه قبل التاريخ المقرر لاجتماع مجلس العصبة في 15 أيلول 1939 كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت في 3 أيلول 1939 بدخول بريطانيا الحرب ضد ألمانيا. ولم يجتمع مجلس العصبة منذ ذلك الحين حيث ما لبثت العصبة أن انحلت لتقوم مكانها بعد انتهاء الحرب في عام 1945 هيئة الأمم المتحدة.فما هي الدولة الفلسطينية الواحدة؟

على الرغم من أن حل الدولتين يحظى بتأييد معظم الدول، ولو نظريا بما فيها اسرائيل وأمريكا إلا انه، يتعثر لدرجة التعذر، مما جعل بعض المثقفين الفلسطينيين، واليساريين الإسرائيليين يفكرون بالعودة إلى حل "الدولة الواحدة".

يدعو أنصار حل الدولة الواحدة إلى إنشاء دولة واحدة في فلسطين الانتداب، ما بين النهر والبحر، لتشمل ما هو متعارف عليه اليوم بمسميات كل من إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث يُسمح بعودة اللاجئين الفلسطينيين الراغبين بالعودة، ويكون للسكان العرب واليهود مواطنة وحقوق متساوية في الكيان الموحد ثنائي القومية. وبينما يتبنى البعض هذا التوجه لأسباب أيديولوجية، فإن البعض الآخر يرى فيه الحل الوحيد الممكن نظرا للأمر الواقع القائم على الأرض. وهذا الحل قد يرضي اللاجئين الفلسطينيين والمستعمرين المعتدلين إذا استعدت سلطة تلك الدولة بالتعويض وتسوية المشاكل المالية التي قد تنشأ عن تنازع الملكية. أما الرافضون لهذا التوجه فيعتبرونه خياليا غير قابل للتنفيذ إلا إذا انهزمت اسرائيل، او انهارت، أو أعلنت إفلاسها، وتعهدت الدول العظمى، وفي مقدمتها أمريكا، بتبني هذا الحل وتمويله.

الموقف والدعوة لحل الدولة الواحدة تاريخياً

صاغ الحزب الشيوعي الفلسطيني في العام 1944 موقفه بالدعوة لقيام دولة فلسطينية على غرار المقترح المقدم في الكتاب الأبيض عام 1939، ثم نادت عصبة التحرر الوطني التي ضمت الشيوعيين العرب في العام نفسه "بإنهاء الانتداب البريطاني وإقامة حكومة ديمقراطية فلسطينية مستقلة". كما أن المنظمات الفلسطينية التي تبنت الكفاح المسلح بعد نكسة 1967 (وعلى رأسها حركة فتح)، تبنت الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية، ولكنها تختلف عن الدولة التي كانت مطروحة أيام الانتداب والتي أفترض لها أن تقوم بمساعدته آنذاك، ولكن بعد انتهائه. أما هذه الدولة فكانت ستقام على أنقاض دولة اسرائيل بعد هزيمتها، وفيها يتمتع كل "الفلسطينيين" من يهود ومسلمين ومسيحيين بالمساواة التامة بالحقوق والواجبات، وكذلك النساء والرجال.

بالرغم من أن مصطلحي: "حل الدولة الواحدة" و"الدولة ثنائية القومية" تستخدم أحيانا وكأنها مرادفات، إلا أنهما لا يعنيان بالضرورة ذات الشيء. فالدولة الواحدة ثنائية القومية هي نظام سياسي يحافظ فيه كل من الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين على الشخصية السياسية كشعبين أو قوميتين. مؤيدو هذا الطرح يرونه ضروريا لحماية الأقلية، بغض النظر عن أي مجموعة ستكون هذه الأقلية، ولطمأنة كل الأطراف أن المصلحة الجماعية لكل مجموعة ستكون محمية.

اما الدولة الديمقراطية العلمانية فهي حل يقوم على إنشاء دولة واحدة ديمقراطية، حيث لكل مواطن صوت. ويقول مؤيدو هذا الحل بأنه في الدولة ثنائية القومية ستتمترس الهويتان سياسيا بطريقة تعزز استمرار المزاحمة والتقسيم الاجتماعي القائم. يلاحظ أن البعض يرى في إضافة صفة "العلمانية" بعد الديمقراطية لا لزوم لها إلا كاستفزاز للحركات الدينية الإسلامية واليهودية على السواء، ولكن آخرون يرون أن الأمر يستلزم التوكيد لااعتبارات ترتبط بثقافة بناء دولة لكل مواطنيها على قدم المساواة وبدون تمييز.  

وبعد حرب اكتوبر عام 1973، لاحت إمكانية تسوية بين اسرائيل والعرب عموما والفلسطينيين خصوصا، فبدأت سيناريوهات الحلول المعقول منها و"الفهلويّ" و"البهلول": فكانت فهلوية المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 "إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره أو انسحاب العدو عنه"، وكان "الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة، تحت السيطرة الإسرائيلية لمدة عشرة سنين" كما أقتُرح في اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، وكان الحكم الذاتي بقيادة "روابط القرى" كقيادة فلسطينية بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1981، وهي تشكيلات أنشأها الاحتلال الإسرائيلي عام 1978 في القرى الفلسطينية لإثارة الحزازات بين المدينة والقرية، ولشق الصف الوطني. وقد هدف هذا المشروع لزعزعة منظمة التحرير الفلسطينية في نفوس الفلسطينيين، ولشطبها كممثل شرعي للفلسطينيين، وإيجاد بديل يمكن لإسرائيل التفاهم معه وتنفيذ مخططاتها التصفوية للقضية الفلسطينية. وجاءت هذه الفكرة في أجواء مفاوضات كامب ديفد مع المصريين برعاية أمريكية، خاصة انه كان من ضمن خطة كامب ديفد إنشاء نظام حكم ذاتي فلسطيني في الأراضي المحتلة، تتولاه شخصيات فلسطينية، حيث أن الفكرة التي كانت بانتخابات البلدية عام 1976، ورغم انها كانت انتخابات في ظلال حراب الاحتلال، إلا أنها لم تأت للمجالس البلدية بعملاء ومتعاونين مع سلطات الاحتلال، بل جاءت بشخصيات وطنية اضطرت اسرائيل لانتهاج سلسلة من محاولات الاغتيال بحقهم، ونجحت مع الطويل، وفشلت مع الشكعة، واضطرت لإبعاد عبد الجواد صالح،  وفهد القواسمي، ومحمد ملحم. اما "بهلولية" معمر القذافي، فكانت في كتابه الأبيض والتي اسماها "إسراطين" بدمج اسرائيل وفلسطين "في دولة واحدة ديمقراطية من أجل التعايش السلمي". وبعد تعثر مسيرة مؤتمر مدريد فُتحت طريق التفافية أدت الى اوسلو لتنتج مسرحية بعنوان "غزة واريحا أولا" باتجاه حكم ذاتي محدود، يتطور إلى دولة فلسطينية مستقلة منزوعة السلاح لا تهدد امن دولة اسرائيل بأي شكل من الأشكال، ولا على أي مستوى من المستويات.

وكانت القيادة الفلسطينية جادة ومخلصة بالالتزام بشروط أوسلو رغم قساوتها، وعُزفت معزوفة "حل الدولتين" على كافة الأدوات الموسيقية الغربية منها والشرقية: من البيانو الى الطبلة والناي، وحتى الربابة. ولكن اسرائيل، وبعد مقتل رابين، وخاصة صعود نتنياهو المعارض أساسا لأوسلو، لم تلتزم بأي شيء ايجابي بل فاقمت ممارساتها.

أمام هذه الإجراءات الإسرائيلية من جدار عنصري وضم ونهب للأراضي وعزل للسكان وإقامة المعازل والكنتونات/ البانتوستانات على طريقة عنصريي جنوب افريقية في مرحلة الأبارتهايد، لم يبق أفق أمام حل الدولتين كخيار لحل الصراع على أرض فلسطين الانتداب، بل ان الإجراءات الإسرائيلية تؤكد ان النكبة كحدث تاريخي ما زال مستمرا. ولعل الخطير حاليا هو أن الجدار العنصري اليوم في احدى نتائجه وتمظهراته خلق حالة لجوء جديدة، لكن هذا اللجوء ما زال مسكوتا عنه،  فنحن نتحدث اليوم عن فصل مجموعة ضخمة من البشر عن مصادر رزقهم، أي الأرض، وبدأنا نتحدث عن مفاهيم كفلاح بلا فلاحة، ومواطن بلا أرض، ولا أحد يدرك ما ستفرزه هذه النكبة الجديدة المستمرة من نتائج كارثية.

ورغم ذلك حاول الفلسطينيون، من خلال محاولة الحصول على وضع الدولة في الأمم المتحدة، انقاذ "حل الدولتين"، غير أن هذا الهدف بات صعب المنال، لدرجة أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، شدد في شهر أيلول 2012، في خطابه أمام الجمعية العامة للامم المتحدة على أن "حل الدولتين هو الخيار الوحيد المستدام، لكن الباب قد يغلق قريبا وبشكل دائم".

وتعليقا على قيام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتقديم طلب للحصول على وضع دولة غير عضو في الأمم المتحدة قالت العضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي "لقد سُمح لإسرائيل بتقويض حل الدولتين، إلى درجة ان هذه المحاولة هي الأخيرة للفلسطينيين لمحاولة إنقاذ فرص السلام وحل الدولتين". ومع تعثر عملية السلام هذه فان خيار الدولة الواحدة التي تضم فلسطينيين وإسرائيليين بدأ يحرز تقدما على أرض الواقع.

كنت سفير فلسطين لدى اثيوبيا، وكانت تربطني صداقة شخصية مع السفير الايطالي. وفي شهر تشرين أول عام 1983 صدر قرار بنقلي إلى ايطاليا، فدعاني السفير الايطالي لحفلة عشاء وداعية. ابلغني السفير الايطالي يومها ان القنصل الايطالي في القدس أرسل تقريرا لوزارة الخارجية الايطالية يقول فيها "أن الاستيطان الإسرائيلي جعل الضفة الغربية كقطعة الجبنة السويسرية التي يسمونها جبنة الفأر، لأنها مخزّقة، لدرجة انه يتعذّر إقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة اسرائيل حتى لو كان صديق عرفات "يوري افنيري" هو رئيس وزراء اسرائيل، أو لو كان الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو الحزب الحاكم. ورغم المنطق الساذج، والمنطق العميق يقولان أن اتفاقية اوسلو يجب ان تكون خطوة على طريق إزالة المستوطنات الإسرائيلية، ومن أولى ثمارها سيكون وقف النشاط الاستيطاني بالكامل، إلا أن الواقع قال أن الاستيطان الإسرائيلي تضاعف عدة مرات منذ ذاك التاريخ، وكأن اوسلو كانت حشوة دافعة لتسرّع الاستيطان في الضفة الغربية عموما، وحول القدس خصوصا.

 

لذلك لم يبق أمام الفلسطينيين إلا سبيل من سبيلين: الدولة الديمقراطية على أنقاض دولة اسرائيل كبرنامج سياسي في إطار استعادة مسيرة الثورة الفلسطينية، او الدولة الفلسطينية الواحدة والتي بدأ بعض المثقفين الفلسطينيين، واليساريين الإسرائيليين يروجون لها، كما أسلفنا أعلاه، على أساس يشبه إلى حد كبير الدولة الفلسطينية التي دعا لها الكتاب الأبيض البريطاني الرابع، أي العودة الى عام 1939، أو عام 1969، متجاوزين ما حصل بعد ذلك من حروب واتفاقات...

-----------

*عبد الفتاح القلقيلي (أو نائل): كاتب وباحث فلسطيني، الأمين العام للمجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم في م.ت.ف، وعضو الهيئة العامة لمركز بديل.