العلاقات الكولونيالية و"تأهيل" النخبة الاقتصادية الفلسطينية

بقلم: سيف دعنا*

في دراسة بعنوان "قطاع غزة: حالة تخلف اقتصادي"، تجادل سارة روي، الباحثة في قسمدراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد أن "إقتصاد قطاع غزة هو نموذج ممتاز حول كيف يمكن لمستوى معين من الإزدهار أن يتحقق بقليل، أو بدون، أي تنمية إقتصادية."[1]هذا الإستنتاج يعني بإختصار أن الإستعمار يكون عادة مربح لفئة من الشعب المستعمَر (بفتح الميم). بالتأكيد، لم تكن روي الأولى أو الوحيدة التي انتهت إلى هذه النتيجة التي تتطلب بالتأكيد الذهاب أبعد من مجرد التوصيف للبيانات الإقتصادية لتحليل ومحاولة إدراك معنى ذلك في سياق الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني. سأجادل في هذه المحاولة أن الكيان الصهيوني اتبع إستراتيجية إقتصادية-سياسية- أمنية أفضت إلى سيادة العلاقات الكولونيالية وتأهيل النخبة الفلسطينية وربطها مصلحيا بالمشروع الإستعماري الصهيوني، وهو ما يفسر الخيارات السياسية للنخبة الفلسطينية.

 

تأهيل النخبة

السياسة الاقتصادية الصهيونية في الضفة والقطاع بين 1967-1990، كما تشير ليلى فرسخ،[2] "قادت لتطورين متناقضين" كانا ضروريين، كما يمكن أن نرى اليوم، لتأهيل النخبة الاقتصادية الفلسطينية والتأسيس لشراكة بنيوية بينها وبين النخبة في المشروع الصهيوني. التطور الأول تمثل في تضاعف الدخل الفردي في تلك المرحلة بين عامي 1968-1993، الذي وصل لحد 1450$ في 1993. والثاني هو تدمير القاعدة الاقتصادية المحلية الوطنية عبر إعادة تركيبها وربطها بالاقتصاد الصهيوني من موقع التبعية والاعتماد، وبسبب هجرها باتجاه العمل في الكيان بالنسبة لليد العاملة أو مع الكيان بالنسبة لرأس المال. ولهذا؛ فكلما كان الدخل الفردي يرتفع "كانت قدرة الإقتصاد (الوطني الفلسطيني) على الإنتاج والقدرة على استيعاب قوة العمل والتحديث التقني تتلاشى". في هذا الوقت، مثلا، هبطت حصة الزراعة من الناتج المحلي بين عامي 1968-1993 من 34% إلى 13%، في حين لم تمثل الصناعة التي تعتبر عادة قاطرة تطوير الاقتصاد أكثر من 8% فقط (مقارنة ب 25% الأردن و32% لإسرائيل)[3].  أيضا، قاد هذان التطوران المتناقضان إلى تحسين مؤقت لمستوى دخل بعض الشرائح الدنيا، وبالتالي أنتج حالة من الخمول في مواجهة المشروع الصهيوني، لأن ارتفاع مستوى الدخل حدث في سياق كولونيالي أولا وقاد إلى مسخ وتدمير الاقتصاد المحلي الوطني ثانيا.

هذا التناقض ما بين ارتفاع الدخل الفردي من جهة وتفكيك ومسخ البنية الاقتصادية والتأسيس للتبعية والاعتماد على الاقتصاد الصهيوني من جهة ثانية، لم يكن سياسة اقتصادية صهيونية تهدف للربح، ولذلك لا يمكن التعاطي معها كبيانات وأرقام فقط.  بل على العكس، بعد أكثر من أربعين عاماً من احتلال 1967 يمكن القول أن النتيجة الأهم لهذه السياسة كانت في إعادة تشكيل الشرائح الاجتماعية وربط بعضها مصلحيا، أحيانا بالقوة، بالمشروع الصهيوني. لهذا فإن أهمية هذا التطور وخطورته على المشروع الوطني الفلسطيني لا تظهر إلا في تحليل بنيوي للحالة الاقتصادية عبر التركيز على العلاقات الكولونيالية، أو فهم الحالة الاستعمارية التي يمثلها الكيان الصهيوني كجملة من العلاقات السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الخ.. لا الاكتفاء بعمل حسابي مكتبي قد يظهر ازدهار وانتعاش مؤقت على مستوى الدخل الفردي ويتجاهل خطورة سيادة العلاقات الكولونيالية الوجودية. حيث يغرقنا الفياضيون، والاخوان المسلمون المصريون كذلك في مرحلة ما بعد مبارك، بحلول تقنية استوردوا مصطلحاتها من أدبيات بنك الاستعمار الدولي والمنظمات الممولة حكوميا، بصرف النظر عن التسمية، فيزول الفارق بين قيادة مشروع وطني تحرري ضد الاستعمار وعمل المحاسب، مع حفظ الاحترام الشديد لكل محاسب لا يزعم أن تدريبه المهني وحده يؤهله قيادة عملية التحرير وبناء وقيادة دولة.

هذا التناقض كان ممكنا لأن العلاقات الكولونيالية في أعقاب الاحتلال بدت وكأنها تمكن الكثير من العمال الفلسطينيين من هَجر سوق العمل الفلسطيني المتدني الأجر والانتقال إلى سوق العمل الإسرائيلي حيث الأجور أعلى، إذ في عام 1968 كانت الأجور أكثر بمقدار الضعف. وفي عام 1972 كان ما يقارب الخمسين ألف عامل فلسطيني، من أصل 200 ألف عامل هم قوام قوة العمل الفلسطيني حينها، قد دخلوا سوق العمل الصهيوني. لاحقا، كان ما يعادل 40% من اليد العاملة في غزة و30% من الضفة قد دخلوا سوق العمل الصهيوني.[4]كان تدمير وإنتاج تخلف، لأنها عملية ممنهجة وتؤسس بنية تحدد مسار التطور المستقبلي، الإقتصاد الفلسطيني وإخضاع ناتج اليد العاملة الفلسطينية لبناء الاقتصاد والمشروع الصهيوني مربحا في المدى القصير، إذا ما قيس بارتفاع الدخل الفردي والوطني، اذ شكلت تحويلات العمال ما يعادل 30% من الناتج المحلي العام في الضفة وأكثر من ذلك بكثير في غزة.

في هذه المرحلة خضعت بعض الشرائح الفلسطينية، وإن بدرجات مختلفة، لإعادة تشكيل وتكوين في سياق علاقات كولونيالية تحددت على أساسها مصالحها الجديدة وارتبطت آليات تراكم ثرواتها بالمشروع الصهيوني وبنيته الاقتصادية. في الجانب الآخر أيضاً، استطاعت شريحة من الطبقة الدنيا رفع مستوى معيشتها ومعدل دخلها عبر ارتباطها ببنية الاقتصاد الكولونيالي. النتيجة كانت إنتاج التخلف الاقتصادي الفلسطيني وتدمير منهجي لما يمكن أن يشكل البنية الحاضنة لحركة تحرر هدفها مقاومة العلاقات الكولونيالية والحالة الاستعمارية التي مثلها ويمثلها الكيان الصهيوني. 

ارتفع معدل الدخل بشكل لافت وكذلك مقاييس الحياة، لكن الثمن كان أكبر من تدمير الاقتصاد الفلسطيني. النتيجة كانت حالة عميقة من التبعية والارتباط بالاقتصاد الصهيوني وقد أسست لنظام تجاري وتبادلي يخدم الاقتصاد الصهيوني بالدرجة الأولى، وقامت أوسلو لاحقا بتشريعه والتطبيع معه. الأخطر في هذه الحلقة، أن هذه الظروف أنتجت حالة من الخمول بفعل الرفاهية، فنعرف اليوم أن مشروع موشيه دايان الذي أسس لهذه السياسة كان يقصدها ويتوقعها. فهذه النتائج المتناقضة، كما تلخص فرسخ وروي، كانت نتاج إستراتيجية سياسية-اقتصادية إسرائيلية في المنطقة وقد تشكلت من العناصر التالية:

أولا: "سياسة الباب المفتوح" التي اقترحها موشيه دايان في 1968، التي سمحت للفلسطينيين بحرية العمل داخل "إسرائيل" وسمحت بانتقال البضائع تحت سيطرتها وهو ما أغرق السوق الفلسطينية ببضائع إسرائيلية مدعّمة.

ثانيا: تفكيك الاقتصاد الفلسطيني وجعله تابعا كليا للاقتصاد الإسرائيلي عبر عزله عن الأسواق الخارجية، فقد كان التبادل الاقتصادي مسموحا فقط مع الكيان الصهيوني وبشكل محدود مع الأردن لبعض الصادرات الزراعية.

ثالثا:مصادرة الأراضي من أجل التأسيس لبنية تحتية لضم مناطق واسعة من المنطقة. فبحسب ما تصور واضعو خطة ألون، فإنه سيتم السيطرة على ما بين 25-40% من أراضي الضفة والقطاع، بما يشمل المناطق المحيطة بالقدس، اللطرون المحاذية "للخط الأخضر"، وما بين 10-15% من منطقة غور الأردن.

رابعا: السيطرة على المصادر وتحويلها من الضفة والقطاع إلى "إسرائيل". ومن الأمثلة على هذه السياسة يمكن رؤيتها في السيطرة على الأرض، المياه، والضرائب. فإسرائيل تسيطر على المياه الجوفية وكانت تحول للفلسطينيين أقل من ثلثها. وفي نفس الوقت كان مقدار الاستهلاك الفردي الفلسطيني أقل من خمس المستوطنين الإسرائيليين. فيما يخص الضرائب، كان الفلسطينيون مجبرين على دفع 16-48% من دخلهم كضرائب للسلطات الاستعمارية الإسرائيلية، وقدرت الضرائب التي دفعوها في عام 1991 بحوالي 8% من الناتج المحلي للضفة وغزة. هذا طبعا ذهب مباشرة الى الخزينة الإسرائيلية، بدل استثماره في الضفة والقطاع."[5]         

لكن برغم واقع ما يمكن تسميته بوحدة النظام الضريبي الذي فرضته "إسرائيل" واستفادت هي منه بشكل أساسي، وبرغم طابع التبعية الذي يشبه الى حد بعيد تبعية إقتصاديات دول الجنوب لإقتصاديات دول الشمال، وهي تبعية بنيوية الطابع تأسست وتشكلت تبعا لها بنية إقتصاديات دول الجنوب بما يخدم مصالح الشمال، لا مصالح الدول نفسها،[6] إلاّ أن هذا لم يؤدِ الى دمج الإقتصادين؛ بل تم الحفاظ على نوع من الفصل بينهما بما يمنع التطور المستقل للإقتصاد الفلسطيني ويُبقيه تابعا للإقتصاد الإسرائيلي ومعتمدا عليه.[7]

أهم ما ميز مرحلة ما قبل أوسلو (1967-1993)، وهي التي قادت لتأهيل النخبة الاقتصادية الفلسطينية، هو دخول الاقتصاد الصهيوني عشية حرب 1967 مرحلة جديدةوبداية صعود الصهيونية النيوليبرالية كبديل لل"بنغوريونية" أو الصهيونية العمالية التي سادت منذ البداية. فبينما شكل انتصار 1967 قمة النجاح للحكومة الصهيونية العمالية، كانت في ذات الوقت مؤشر وبداية أفولها واستبدالها بقوى اجتماعية-اقتصادية (نخبة) أخرى صاعدة بفعل التحولات العالمية. هذا يمكن ملاحظته في الجدل الذي ساد نخبة المؤسسة الصهيونية حول طبيعة العلاقة المستقبلية مع الضفة والقطاع المُحْتلين حديثا. التقليديون كانوا مع الاستمرار في النموذج الصهيوني الاستعماري الأصلي، أي الاستعمار الاستيطاني النقي، الذي تميز عن أشكال الاستعمار الاستيطاني الأخرى بالسيطرة على الأرض والعمل، بمعنى أوضح سرقة الأرض وطرد العرب من الاقتصاد.[8] فيما جادل الآخرون وعلى رأسهم موشيه دايان بضرورة دمج المناطق الفلسطينية واعتبارها فرصة لكسر المقاطعة العربية الأمر الذي قد يدعم الاقتصاد الصهيوني المتحول والمأزوم حينها. لكن رؤية دايان لم تكن تسعى لدمج كلي للاقتصاد الفلسطيني في اقتصاد "إسرائيل"، بقدر ربطهما على مستويات مختلفة وغير متكافئة،[9] بحيث تصبح الضفة والقطاع سوقا للبضائع الإسرائيلية، وضعت إسرائيل الكثير من العوائق أمام إستيراد البضائع من الخارج لدرجة أن 83% من صادراتها للضفة والقطاع كانت صناعية في 1969، فيما تقوم الضفة وغزة بتزويد "إسرائيل" بما تحتاجه من اليد العاملة غير الماهرة.   

لكن أهم ما نتج، ربما، في هذه المرحلة هو إعادة تشكيل للطبقات الإجتماعية في المناطق الفلسطينية وفق العلاقات الكولونيالية التي بدأت تسود في أعقاب 1967. ففيما تمت برتلة قطاع من اللاجئين والفلاحين، وبالتالي مسخ القطاع الزراعي الفلسطيني والإنتاج المستقل عموما في الضفة والقطاع، تمت كذلك برتلة قطاع من البرجوازية الصغيرة وأصحاب المهن وصغار الحرفة والمتعلمين أو القضاء عليهم لعدم توفر أعمال مناسبة لخبرتهم وتدريبهم، ما أجبر العديد منهم على الهجرة. أما القطاع الصناعي الذي كان يمكن أن يؤسس لحالة إستقلالية فلقد تحول الى وكيل كمبرادوري يتعاقد مع رأس المال الإسرائيلي بطريقة تضع نشاطهم الإقتصادي واليد العاملة التي يستخدمونها في خدمته، لا في خدمة الإقتصاد المحلي، وهذا ما يدفع لاعتبارها حالة كلاسيكية من إنتاج التخلف كما يسميه بول باران في "الإقتصاد السياسي لإنتاج التخلف". وفيما استطاع قسم من رأس المال الصناعي المحلي الذي تحول لوكيل لرأس المال الصهيوني تحقيق الأرباح، وأحيانا حتى الحصول على نوع من الشراكة، إلا أن النتيجة كانت فقدان البرجوازية الوطنية لإستقلالها وإندماجها وفق علاقات كولونيالية. ما كان يحلم به دايان في هذه المرحلة هو نقل هذه الحالة شرقا نحو السوق العربي كله.[10]

ملاحظة على بروتوكول باريس

 كان المفروض، إذن، أن تعمل منظمة التحرير، كما تفترض التسمية، للتأسيس للقطع مع هذه الحالة الكولونيالية، وتحرير العمل والاقتصاد الفلسطيني من العلاقات الكولونيالية وعلاقات التبعية إذا كانت تطمح للتأسيس لأي حالة استقلالية مستقبلية. لكن الخيار السياسي كما يظهر في الممارسة السياسية والاقتصادية وتحديدا في الاتفاقيات المعقودة، كاتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس، والتي من المفترض أيضاً أن تؤسس للمستقبل، عكست عدة قضايا مهمة تقود فقط إلى تعميق حالة التبعية وسيادة العلاقات الكولونيالية:

أولاً: عدم تحديد أي نوع من الحدود، الاقتصادية والجغرافية والسياسية والأمنية، وهو ما يجعل مرحلة الاتفاقية مجرد استمرار للمرحلة السابقة منذ 1967، بحيث لا تؤسس الاتفاقية الاقتصادية والاتفاقيات الأخرى، مثل إتفاق المعابر سيء السمعة، لاقتصاد وطني كما يفترض في المراحل الانتقالية أن تفعل، ولا لقطع مع الاقتصاد الصهيوني، بل تعمل على تشريع كل ما حصل منذ 1967، وأغلب التحليلات للأزمات التي عاناها الاقتصاد الفلسطيني منذ توقيع الاتفاقية أضاءت بشكل كبير على سيطرة الطرف الإسرائيلي على الحدود الجغرافية والاقتصادية، الجمارك تجمعها "اسرائيل" وتحتجزها متى شاءت، رغم أن الطرف الفلسطيني وافق على هذه الصيغة في اتفاقية باريس وما تلاها.

ثانيا: غياب سياسة مالية مستقلة وعملة وطنية مستقلة، كما نص على ذلك بروتوكول باريس. هذا الترتيب جعل ويجعل من إمكانية القطع مع العلاقات الكولونيالية السائدة منذ بداية الإحتلال، والتي هي شرط وأساس أي توجه استقلالي، غير قابل للتحقق.

ثالثا: اللاتكافؤ في القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية يجعل من أي خلاف على تفسير بنود اتفاقية بروتوكول باريس، الذي  تم دمجه لاحقاً كمرفق 4 في إتفاقية غزة- أريحا الموقعة في القاهرة في 4 أيار 1994 مثلا، خاضع للقوة الإسرائيلية. كذلك فان مادة 7  في بروتوكول باريس تعطي الطرفين حق وقف تدفق اليد العاملة حسب الظرف، لكن هذا البند يخدم "اسرائيل" أساسا نظراً لأن المستوطنين لا يعملون في مناطق السلطة ولن يتأثروا من قراراتها ولأن السلطة الفلسطينية لم تهدد حتى مرة واحدة بوقف تدفق العمالة الفلسطينية لإسرائيل بحجج واهية مثل أنها لا تستطيع توفير عمل لمن يبني المستوطنات. الأهم أن هذه الاتفاقية، ورغم كونها مؤقتة في الصيغة، إلا أنها ستشكل أساس ونموذج التفاوض للاتفاقية النهائية في حالة حدوثها.

رابعا:  لا مفر من اعتبار الاتفاقية  نتاج لقرار سياسي، وليس نتاج لتحليل خيارات اقتصادية. فالاتفاقية لا تتجاوز اثنين وعشرين صفحة، وبالتالي تخلو من أي أساس للتعامل مع الظروف الطارئة التي عاشتها المنطقة على الدوام، باستثناء المادة 2 التي تدعو لتشكيل لجنة مشتركة، ولكن في ظل اللاتكافؤ في القوة فإن كل ما هو مشترك هو إسرائيلي في النتيجة. الاتفاقية سياسية لأن الاتفاقيات الدولية المشابهة والتي يتم تنفيذها في ظروف أكثر استقرارا تشمل مئات الصفحات التي تعالج الظروف الطارئة وهو ما لا يتوفر في بروتوكول باريس؛ فمثلا اتفاقية نافتا فيها أكثر من ألف صفحة لمعالجة أمور الطوارئ.[11]

خامسا: تجاهل التحولات التاريخية التي أنتجها السياق الكولونيالي وتأثيره على تشكيل الطبقات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني التي تحول بعض شرائحها، بالأخص الشريحة العليا، لقاعدة سياسية-اقتصادية لمشروع أوسلو. مما يعني أن مشروع أوسلو هو استمرار للمشروع الصهيوني ومرحلة من مراحل تطوره ولا يمكن أن يؤسس لحالة قطع معه وتجاوزه كما تشيع الدعاية السياسية.

هكذا يمكن فهم أحد جذور وفكرة العملية السياسية واقتصادها السياسي. لكن تأهيل الاقتصاد الفلسطيني المحلي لهذه المرحلة، وهذا مُختلف عما حصل في الشتات وهو ما يحتاج تفصيل لا يتسع المجال له هنا، كان قد بدأ بسياسة اقتصادية وأمنية تشكلت في أعقاب حرب 1967 وكانت مؤسسة على خيار استراتيجي صهيوني يهدف الى السيطرة على أكبر قدر من الأرض والتخلص من أكبر عدد ممكن من السكان. بمعنى، لم تكن السياسة الاقتصادية الإسرائيلية في أعقاب 1967 ذات أهداف اقتصادية بحتة، بقدر ما كانت تهدف لتحقيق مشروع سياسي لا يختلف في جوهره وإن اختلف في بعض التفاصيل عن مشروع أوسلو، إن لم يكن أسس له. المقصود طبعا هو خطة ألون 1968 (انظر خارطتي مشروعي ألون واوسلو).

خاتمة: في ضرورة القطع مع العلاقات الكولونيالية

في أعقاب توقيع اتفاقية اسلو في عام 1993 قامت مجموعة من ما يسمى "خبراء" صندوق النقد الدولي بإعداد دراسة عن الاقتصاد الفلسطيني لاستشراف آفاق تطوره المحتملة، وهو ما يسمونه خطأ تنمية ويقيسونها بمعدلات النمو، في السنوات الخمس اللاحقة (1993-1998). وشملت الدراسة توقع ستة سيناريوهات محتملة للسنوات الخمس القادمة، ثلاث سيناريوهات متفائلة وثلاث أخرى متشائمة. بعد خمس سنوات من اتفاقية أوسلو (1998) وتأسيس السلطة الفلسطينية كان حال الاقتصاد الفلسطيني حسب تقييم نفس مجموعة الخبراء أسوأ من أكثر السيناريوهات المتشائمة التي توقعها صندوق النقد الدولي (أنظر: باتريشا ألونسو- جامو, 2009: "الضفة الغربية وقطاع غزة: التنمية الاقتصادية في الخمس سنوات الأولى لأوسلو").[12]

ليست هذه النتيجة، والنتائج الكارثية التي لخصتها سنويا سلسلة من تقارير البنك الدولي من عام 2001 وحتى عام 2011 إلا نتيجة لبنية اقتصادية وحقائق أمر واقع أسست لهما إستراتيجية صهيونية ومكنت الكيان الصهيوني ليس فقط من الدوام، بل وإعادة إنتاج نفسه كذلك. ومن أجل القطع مع المشروع الصهيوني والتأسيس لحالة استقلالية يتوجب إعادة ترتيب الاقتصاد المحلي بطريقة تأخذ بعين الاعتبار قدرة الطبقات الشعبية على الصمود والاستمرار بالمقاومة من جهة، وأيضاً منع أي قسم منها، بسبب العوز أو الطمع، من الانخراط  من موقع التابع والمُعْتَمِد في الاقتصاد الصهيوني كما حصل حتى الآن. لكن العامل الأكثر أهمية سياسيا واقتصاديا وثقافيا، كما أثبتت تجربة منظمة التحرير وأزمتها، هو التأسيس بنيويا، اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وبيئيا، لكبح جماح رأس المال "الوطني" الدافع من أجل التوسع والتراكم أساسا على حساب المشروع الوطني.

---------------------

*د.سيف دعنا: أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية، جامعة ويسكونسن- بارك سايد.

 

  1. Sara Roy. The Gaza Strip: A Case of Economic De-Development. Journal of Palestine Studies, Vol. 17, No. 1 (Autumn, 1987), pp. 56-88

  2. Leila Farsakh. 2001The Palestinian Economy and the Oslo Peace Process, Fact Sheets No.4, the Trans-Arab Research Institute.  www.tari.org

  3. Leila Farsakh. The Palestinian Economy and the Oslo Peace Process

  4. Arnon and J.Weinblatt. Sovereignty and Economic Development: The Case of Israel and Palestine. The Economic Journal, 111 (June) 2001. P. F293

  5. Leila Farsakh. The Palestinian Economy and the Oslo Peace Process

  6. Wallerstein, Imanuel. 1974[1980]. The World Capitalist System. Cambridge: Cambridge University Press; Samir Amin. 1976. Unequal Development. New York: Monthly Review Press; Samir Amin. 1977.  Imperialism and Unequal Development. New York: Monthly Review Press; Frank, Andre Gunder. 1967. Capitalism and Underdevelopment in Latin America. New York: Monthly Review Press.

  7. [1]Sharif Elmusa and Mahmud El-Jafari. Power and Trade: The Israeli Palestinian Economic Protocol. Journal of Palestine Studies, Vol. 24, No. 2 (Winter, 1995), Pp. 14-32  

  8. تميز أدبيات الكولونيالية، أو علم الاستعمار المقارن بين نوعين من الاستعمار. الأول، هو الاستعمار المتروبولي، أو المرتبط بالمركز الامبريالي، الذي لا يتضمن انتقال عدد كبير من السكان للإقامة الدائمة في المستعمرة ويتميز بالسيطرة من الأعلى عبر سلطة كولونيالية ويشكل احد دينميات الامبريالية، أو إقامة الإمبراطورية، كما كانت حال الاستعمار الانجليزي في الهند. النموذج الثاني،الاستعمار الاستيطاني، ويتميز، علي العكس، بانتقال المستعمرين بإعداد كبيرة للسكن الدائم في المستعمرة وتأسيس وطن علي طراز الوطن الأوروبي الأم. هذا النوع ينقسم بدوره إلي ثلاثة أنواع هي: المستوطنة المختلطة، المستوطنة الزراعية، والمستوطنة النقية. ما يميز النوعين الأولين هو استيطان الأرض فقط،واستغلال اليد العاملة المحلية (في حالة المستوطنة المختلطة) آو استيراد اليد العاملة (في حالة المستوطنة الزراعية). وحدها المستوطنة النقية، كما هي إسرائيل، تستوطن الأرض والعمل معا، وبالتالي فان بنيتها تتضمن رفضا مطلقاً وإلغاء كليا ً لوجود السكان الأصليين بطردهم من الحياة الاقتصادية، حتى كأيد عاملة يمكن استغلاله.انظر مثلا: سيف دعنا. الصهيونية الثقافية. الجزيرة نت. كانون الثاني, 2010http://aljazeera.net/analysis/pages/60eeefbf-7002-4419-bd1b-833bae8e84f3

  9.  Sheila Ryan. Israeli Economic Policy in the Occupied Areas: Foundations of New Imperialism. MERIP Reports, No. 24 (Jan., 1974), Pp. 3-24, 28

  10. Sheila Ryan. Israeli Economic Policy in the Occupied Areas: Foundations of New Imperialism. MERIP Reports, No. 24 (Jan., 1974), Pp. 3-24, 28   

  11.  A. Arnon and J.Weinblatt. Sovereignty and Economic Development: The Case of Israel and Palestine. The Economic Journal, 111 (June) 2001. Pp.291-308 

  12.   Patricia Alonso-Gamo et. al., 1999. West Bank and Gaza Strip: Economic Developments in the Five Years Since Oslo. IMF. P. 35