حقوق غير منقوصة، قيادة عصرية وثورية، مقاومة شعبية فعالة، وحركة تضامن دولية مؤثرة: عناصر الإستراتيجية الفلسطينية المطلوبة اليوم

بقلم: عمر البرغوثي*

"عندما يكون لدي أسبوع واحد من أجل حل مشكلة تبدو مستحيلة، أقضي ستة أيام في تحديد المشكلة. ثم يصبح الحل واضحًا." (ألبرت أينشتاين)

"ما فائدة الركض إن لم تكن على الطريق الصحيح؟"  (مثل شعبي ألماني)

"الإدراك قوي والبصر ضعيف. في الإستراتيجية من المهم أن نرى الأشياء البعيدة كما لو كانت قريبة وأن نلقي نظرة أبعد على الأشياء القريبة. " مِياموتو موساشي (محارب أسطوري ياباني، 1584-1645)

إذا تبنينا تعريف الإستراتيجية السياسية، على أنها خطة العمل الضرورية للوصول إلى تحقيق الرؤية ضمن تحليل شمولي للسياق السياسي، المشاكل والحلول، القوى الحليفة وتلك المعادية، التكتيكات، الخطة الزمنية، والموارد، وإمكانات التغيير في السياق، فإن أي مقاربة لوضع ملامح إستراتيجية فلسطينية-عربية لمواجهة المرحلة الحالية المتقدمة للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، ودور هذا المشروع في كبح إمكانيات تحقيق وحدة عربية،[1]لا بد أن تنطلق لا من تحليل الأهداف والرؤية العربية، خاصة الفلسطينية، وحسب، بل أيضاً من دراسة الإستراتيجية المتبعة من جهة إسرائيل وحلفائها ومدى النجاح الذي حققوه في خضم التغيير الجذري الذي طرأ على موازين القوى وخارطة التحالفات السياسية خلال العقدين السابقين.

ولكن قبل كل شيء، وكون الإستراتيجية أداة للوصول إلى الهدف، لا بد من طرح أهداف النضال الوطني الفلسطيني، ونقاش ما إذا كان هناك إجماع عليها، أو ما يقاربه. لقد تغيرت هذه الأهداف، كما عبّرت عنها القيادة السياسية المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية، م.ت.ف، تدريجياً منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة على عدة مراحل. فمن تحرير كامل التراب الوطني، إلى دولة ديمقراطية علمانية على كامل التراب، إلى الحل "المرحلي" الذي يدعو إلى تأسيس سلطة فلسطينية على أي شبر يتحرر من أرض فلسطين، إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الأراضي المحتلة عام 1967 والقدس الشرقية عاصمتها مع تأكيد حق العودة للاجئين، إلى دولتين لشعبين مع تبادل أراض لضمان احتفاظ إسرائيل بكل "الكتل الاستيطانيةومعظم القدس الشرقية معها، وأهم الأراضي الزراعية وموارد المياه، إلى التلميح بإمكانية التنازل عن حق العودة من خلال تبني صيغة "العودة إلى أي مكان في الوطن"، كما كشفت الأوراق السرية للـ"مفاوضات"، مما يؤشر للعودة إلى الضفة وغزة فقط، وصولاً إلى إبداء البعض استعداداً للاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، أي لنسف المشروع الوطني الفلسطيني برمته.

سيحاول هذا المقال المساهمة في التفكير النقدي لملامح هذه الاستراتيجية من خلال تركيز الضوء على بعض العناصر التي يجب أن تشكل الأرضية المشتركة لأهداف النضال الفلسطيني وتحليل بعض توجهات الإستراتيجية الإسرائيلية وبعض سبل التصدي لها. لا يدعي المقال طرح إستراتيجية بديلة متكاملة، إذ أن الأخيرة تتطلب جهودا جماعية نقدية جبارة ومثابرة.

أهداف النضال الوطني الفلسطيني

رغم غياب الاتفاق بين الأحزاب السياسية الفلسطينية الأساسية حول أهداف النضال الوطني الفلسطيني، إلا أن بعض الحقوق ربما تُعدّ القاسم المشترك الأدنى في أوساط الشعب الفلسطيني وأهمها: حق تقرير المصير، حق عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها خلال النكبة وبعدها، والحق في التحرر الوطني من الاحتلال العسكري، عادة يشار للأراضي المحتلة عام 1967 في هذا السياق، وكلها حقوق كفلها القانون الدولي. إن كان صحيحاً أن القانون الدولي قد صاغته الدول المهيمنة لتنظيم علاقاتها، وإنه لا يضمن بحد ذاته احترام حقوقنا أو إرجاعها، إلا أنه بالتأكيد أفضل من قانون الغاب، أخلاقياً وسياسياً. فالأخير يعطي الدول الأقوى حق التحكم في مصائرنا ونهب ثرواتنا، بينما يعطي الأول أرضية نظرية وأخلاقية على الأقل للدفاع عن حقوقنا، إن استطعنا تملّك عناصر القوة والإرادة لتطبيقه وإلزام الآخرين باحترامه.

أما الجزء من شعبنا الذي تمكن من الصمود في أرضه خلال النكبة والذي يحمل الجنسية الإسرائيلية، فلسطينيو أراضي 48، ويُعدّ اليوم ما نسبته 12% من مجموع الشعب الفلسطيني،[2]فقد أُسقطت حقوقه ودوره في تقرير المصير من برامج م.ت.ف وكل فصائل العمل الوطني والإسلامي تقريباً قبل حقبة أوسلو وخلالها، وكأن الصف القيادي الفلسطيني بات مدجناً لدرجة قبول سلخ فلسطينيي 48 عن نسيج الشعب الفلسطيني وترك حقوقهم بيد دولة إسرائيل وكأنها شأن داخلي لها. عدا عن الإجحاف التاريخي والتنازل السياسي الذي لا يغتفر في هذا السلخ، فإنه ينمّ عن قصر نظر كبير، إذ أن عدم إدراك الدور النضالي الحالي وعدم تقدير الإمكانيات النضالية الكامنة لشعبنا في أراضي 48 في معركة تقرير المصير وهزيمة المشروع الصهيوني يحرمان شعبنا من ذخر استراتيجي.

إذن، في الحد الأدنى لا بد من الإصرار على الحقوق الفردية والجماعية لشعبنا في أراضي 48، بما يتضمن الحق في التخلص من نظام الأبارتهايد الصهيوني هناك، أي في التخلص من البنى والقوانين والسياسات العنصرية التي يقوم عليها نظام الاضطهاد والعنصرية الإسرائيلي، كما سبق لشعب جنوب أفريقيا أن تخلص من نظام الأبارتهايد. وهذا أيضاً كفله القانون الدولي.

كثيرون يصرون على الأهداف المؤسِّسة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، أي تحرير كامل التراب الوطني، ويرون في تقسيم الحقوق حسب مواقع نضال شعبنا المجزّأ والمشرذم يضعف نضالنا المشترك ويعد تنازلاً للمشروع الصهيوني. كما يذهب البعض إلى ادعاء أن كل التوجه القائم على الحقوق والقانون الدولي، لا على التحرير الكامل من خلال شكل وحيد للكفاح، هو إصلاحي متهادن مع الصهيونية. ولكن ما المعنى العملي لـ"تحرير كامل التراب" اليوم في ظل إجماع القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية والغالبية الساحقة من دول العالم تقريباً على الرضوخ لإملاءات الغرب وإسرائيل والقبول بأقل من ربع الوطن الفلسطيني، مع إهمال حقوق فلسطينيي 48 بالكامل والاستعداد للتعاطي مع حلول ظالمة لقضية اللاجئين، وهي جوهر القضية الفلسطينية؟ وما هو دور كل الشعب، عدا عن النخبة النضالية القادرة على ممارسة الكفاح المسلح، في هذه المقاومة؟ وهل تقوم هذه المواقف على دراسة الواقع وفهم استراتيجي لكيف ننتقل من هنا إلى هناك، إلى حقوقنا غير المجتزأة؟ فمن السهل أن يرفع أي منا شعاراً عالياً، ولكن الأهم هو: كيف نحققه؟

إن العدمية السياسية، أي رفع شعار غير قابل للتحقيق وغير محفّز على النضال الفعّال على الأرض، هي الوجه الآخر لما يسمى بـ"الواقعية السياسية" المجردة من الرؤية والمبدئية، فهما يصبان في نفس خانة تكريس حالة اليأس والتقليل من الدور النضالي للشعوب العربية ودور حركة التضامن الدولي كركيزة رئيسية للنضال، بل والتخلي عن المقاومة الممكنة والمتطورة انتظاراً للفَرَج من السماء.. أو من واشنطن.

إن أساس أي استراتيجية هو خطة العمل التي تنبع من الطموح والحلم والرؤية وتدرس الواقع بعمق، دون إسقاط التمنيات، ودون التسليم به كقدر، فتطرح آليات عمل للمقاومة، بمفهومها الأوسع، والتحالفات والتضامن الدولي لتغيير هذا الواقع وصولاً إلى تحقيق الطموح والحقوق الوطنية. إن إسقاط الأهداف الأساسية لنضالنا الوطني تحت شعار الواقعية هو خيانة لنضالنا ولتضحيات شعبنا وأمتنا لعقود طويلة، كما إن الإصرار على رفع شعارات لا يستطيع من يرفعها مجرد تخيّل كيفية وضع خطة عمل لتحقيقها هو بيع للأوهام وإجهاض للمقاومة الواقعية والطموحة على الأرض ولحركة التضامن الدولي، وحركة المقاطعة في صميمها، التي كانت من الركائز الأربعة التي أدت إلى إنهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

وكوننا في وضع مقاومة لنظام الاضطهاد الإسرائيلي المركّب، فلا بد من فحص التوجهات الإستراتيجية لهذا النظام لتطوير استراتيجيتنا في مواجهته.

الاستراتيجية الإسرائيلية وملامح مواجهتها

 

خلال عقدين منذ توقيع اتفاقية أوسلو بين قيادة م.ت.ف والحكومة الإسرائيلية، عملت إسرائيل بنجاح نسبي وأكثر من أي وقت مضى على تحقيق عدة اختراقات إستراتيجية كادت تجهض الصراع العربي-الصهيوني، أهمها:

 

‌أ.         عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي؛

‌ب.     تحويل جزء من الطبقة السياسية الفلسطينية، من مختلف الفصائل ومن المستقلين، إلى "شريك" متواطئ - سواء أدرك ذلك أم لم يدركه- في "إدارة الأزمة" والتغطية على استمرار مخطط الاستعمار