هل نحن بحاجة إلى استراتيجيات جديدة أم إلى التأكيد عليها؟

بقلم: أحمد أبو غوش*

لو تفحصنا التعريفات الكثيرة للإستراتيجية لأمكن الاستنتاج بأنها "خطة شاملة للوصول إلى هدف بعيد المدىبينما التكتيك خطة قصيرة المدى، أو سلوك "علم الترتيبات". المهم هنا أنه لا يجوز أن يتعارض التكتيك أو يتناقض مع الإستراتيجية أو أن يستبدل بها، لأنه يجب أن يخدمها ويمكن من إنجازها. ففي المجال العسكري "التكتيك يهدف إلى تحقيق الانتصار في معركة، بينما تعنى الإستراتيجية بكيفية الإنتصار في الحرب". والإستراتيجية تهتم ب (ماذا) والتكتيك يهتم ب (كيف).

وبشكل عام ومعمم، الإستراتيجية تتصف ببعد المدى، والثبات والشمولية، والعمومية، وهي سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو اقتصادية. والأهداف والبرامج والخطط والقرارات قد تكون إستراتيجية أو تكتيكية، بينما تتناول السياسات والأساليب تعبئة الموارد وتأطيرها وتحقيق تقدم على طريق الإستراتيجية. وهذا هو التكتيك المتغير والمتجدد.

على ضوء ما سبق يمكن التأكيد على أن الإستراتيجيات في الواقع الفلسطيني والعربي كان يجب أن تكون، منذ عقود، ولا بد أن تظل الآن، وفي المستقبل البعيد نسبياً، هي نفسها. فالواقع العربي لم يتغير، لأن السيطرة الاستعمارية المباشرة – باستثناء فلسطين- انتهت لتحل محلها الهيمنة الإستعمارية، وذلك لتحقيق هدف الدول الاستعمارية الإستراتيجي وهو، نهب خيرات الأمة العربية. وفي مواجهة هذا الهدف لا بد أن يكون التحرر هو إستراتيجية قوى التحرر العربي بشتى توجهاتها وفلسفاتها وتياراتها وأطيافها السياسية. فإذا كان أسلوب السيطرة هو الغزو العسكري، وأساليب الهيمنة؛ أيديولوجية، وثقافية، واقتصادية، وسياسية وقيمية، وتكتيكاتها التجزيء، و "التخليف"، و "التتبيع"، فلا بد أن يكون التحرر من السيطرة بالمقاومة، والتحرر من الهيمنة بالتنمية الوطنية والقومية، وبفك الارتباط مع القوى الاستعمارية وبالعمل على تحقيق الاستقلال والوحدة والتقدم. ولا بد أيضا من ترسيخ الثقافة الوطنية والقومية لتكون درعا في مواجهة التغريب الذي يساهم في خلق البنى التابعة.

ما طرح سابقاً ليس مجرد رغبات ذاتية، ولا تحديد ذاتي منفصم عن الواقع. فالأساس في تحديد الأهداف والإستراتيجيات والبرامج والسياسات والأساليب في أي واقع هو دراسته موضوعيا، وتلمس مصالح القوى التي من مصلحتها تغيير الواقع نحو الأفضل، وهذا ما تعنيه الثورة بجوهرها. إن تحليل الواقع موضوعيا "أي بعيدا عن رغباتنا" ومعرفة مساق التطور وفرصه يساهم في وضع إستراتيجيات صحيحة. وهنا يجب أن نشير إلى أن الأفق الإستراتيجي ليس ملموسا، والأهداف الإستراتيجية قد تبدو بعيدة المنال. لذلك، وجدت المراحل (التكتيك) حيث لا يمكن تجنيد وتأطير القوى الاجتماعية إلا انطلاقا من مصالحها المباشرة والملموسة. والنخبة، أي الإطار الثوري المعني بالتغيير هو، القادر على تحديد الإستراتيجيات، ونصب السلالم؛ أي الخطوات المرحلية المتلاحقة للوصول لإنجازها. لذلك، أخطر خلل هو استبدال الاستراتيجي بالتكتيكي. مما سبق يلاحظ أن أطر الثورة تطرح تحسين واقع الجماهير، ومحاربة الفساد وتنمية واقع المهمشين دون أن تنسى ربط القضايا المطلبية بالإستراتيجية الاقتصادية، ودون أن تنسى ربط الاجتماعي والاقتصادي بالسياسي.

قد تحدث متغيرات في الواقع، وهي إما كمية أو نوعية، وهذه المتغيرات تدفع الأطر المناضلة من أجل تغيير واقعها إلى تغيير تكتيكها لا إستراتيجيتها. ومن جهة أخرى قد يتطلب الواقع عدم إبراز الاستراتيجيات، لكن إلغاءها في كل  الحالات خاطئ ومدمر.

وإذا كان الصراع والتناقض يعني وجود طرفين رئيسيين في كل مرحلة، قوى الثورة والقوى المدافعة عن الواقع والمستفيدة منه، والأعداء والأصدقاء، فإنه لا بد أن يكون لكل طرف استراتيجياته وتكتيكاته. وإذا كنا نتحدث عن قوى الثورة فيتوجب التأكيد على أنها لن تضع إستراتيجيات وتكتيكات ملائمة للتغيير في واقعها دون أن تحلل هذا الواقع واستراتيجيات وتكتيكات الأعداء بعلمية وموضوعية.

إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تغيرت إستراتيجيات أعداء الشعوب العربية؟ وماذا عن أهدافها التكتيكية؟ والجواب القاطع هو، لا، فاستراتيجيات الأعداء ثابتة ونابعة من تكوينها ومصالحها التي لم تتغير، أما تكتيكاتها فيمكن أن تتغير وتتطور. إن استعمار الشعوب أو الهيمنة عليها ليسا مجرد نزوة، ولا هما تعبير عن مصالح فئات محدودة في النظم الاستعمارية، بل  كل الفئات المسيطرة. والاختلاف بين فئات النظام الاستعماري وقواه السياسية يتجسد في تكتيكاتها لا في استراتيجياتها. فالسيطرة والهيمنة، والأخيرة إستراتيجية لمرحلة أرقى من التطور الاجتماعي الاقتصادي والسياسي للنظم الاستعمارية وهي أصيلة في تكوينها، وهي استعمار حديث وغير مباشر، هما شرط أساسي لنمو القوى الرأسمالية، والذي بدونه كانت ستزول. لقد أثبت تاريخ التطور الرأسمالي ودوله، واستنادا إلى كل منظريه، أن سقوط النظام الرأسمالي حتمي، إلا إذا حقق نموا متواصلاً. وكان الاستعمار المباشر (السيطرة) ونهب خيرات الأمم والشعوب بشكل واضح وسافر باستخدام القوة العسكرية أحد أهم أساليب تحقيق هذا النمو. ولم تبدأ النظم الاستعمارية الرأسمالية بإتباع إستراتيجية الهيمنة إلا بعد إنجاز تطور حقق نموا غير متكافئ في ظل تبادل حر بينها وبين بقية دول العالم. ومع ذلك ظلت إمكانية العودة إلى الإستراتيجية القديمة (النهب المباشر) ممكنة حتى في أرقى حالات تطور هذه الأنظمة، وذلك، في حالة لم تُجدِ الهيمنة في تحقيق نفس الأهداف (حالة العراق).

يدعي البعض أن دعم الدول الغنية للدول الفقيرة والمتخلفة، والدعوة إلى تبني الديمقراطية يعبر عن تطور مختلف للدول الاستعمارية. لكن الواقع يؤكد أن الدعوات إلى تنمية الدول والأمم والشعوب المتخلفة بالتركيز على قدرتها على تطوير بعض قدراتها الاقتصادية يشترط تبلورها البنيوي التابع وخضوعها للهيمنة. كما أن الهدف الأوضح لدعوات التنمية ومحاربة الفقر، والدعوة إلى الشفافية وبناء النظام الصالح تخفي أهدافا مستترة، فهذه الدعوات مع ما يرافقها من بناء أيديولوجية لنظم الحرية، وخاصة الحرية التجارية، تهدف إلى تحقيق مزيد من النهب بالتمكين من القدرة الاستهلاكية لتحقيق هدف إستراتيجي هو: استمرار النمو للدول الرأسمالية الاستعمارية من خلال تحقيقها فائض تجاري عبر التبادل التجاري غير المتكافئ بينها وبين الدول الممحوطة.

الدليل الواضح على صحة ما ذكرناه سابقا هو وجود خطوط حمراء لنمو الدول في عالم المحيط، فارتقاء أية دولة تنمويا بحيث يشكل ارتقاؤها خطرا على المصالح الاستعمارية يدفع الدول الاستعمارية إلى شن حرب عسكرية ضدها. وتبني إستراتيجيات التنمية المستقلة وبناء القدرة الذاتية المحمية بالقوة يضع من يتبناها في صفوف "محور الشر".

بقي أن نذكر أن الحركة الصهيونية، نشأةً وتطوراً، ولاحقاً إسرائيل، التي أقيمت على الأرض الفلسطينية جاءت في سياق تطور مصالح الدول الاستعمارية، واحتلت موقعا مهما في استراتيجياتها. لذلك، نلاحظ أن إسرائيل "الدولة المدللة"، ترتكب كل الجرائم ولا تحرك الدول "الديمقراطية" ساكناً لمواجهتها، فهي مرتكز أساسي في الدفاع عن مصالحه لإبقاء الوطن العربي مجزأ ومتخلفا وتابعا وعاجزا.

وبناء على ما سبق يمكن القول أن تحرير فلسطين يجب أن يظل إستراتيجية ثابتة في نضال كل القوى العربية الثورية الساعية إلى التحرر العربي من السيطرة والهيمنة والتخلف والتبعية، فإسرائيل عقبة كأداء أمام تطور وتقدم ووحدة الأمة العربية.

والديمقراطية نظام سياسي اجتماعي اقتصادي ضروري يمكن من تطور الأفراد والقوى الاجتماعية، ولكنها إن لم تكن محمية بدرع الثقافة الوطنية والقومية ستكون أهم أداة في بلورة البنى التابعة لدول المركز.

التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامل الأهم في بناء قدرة الأفراد والشعوب والأمم، ولكنها إن بنيت على أساس التبعية للمركز ستخلق حتما البنى التابعة التي تخلد التجزئة والتخلف والتبعية.

التعليم والثقافة مهمان لأنهما من أهم أدوات بناء القدرة للإفراد والمجتمعات والشعوب والأمم والدول، لكنهما إن لم يبنيا على أساس حق الأمم في تقرير مصيرها، والديمقراطية بين الدول والأمم، وعلى أساس وطني وقومي إنساني، ستكون أيضا أدوات هدم لا بناء على المدى الاستراتيجي.

ما ذكر سابقا يصب في استراتيجيات التحرر، والبناء التنموي المستقل وحق كل الأمم والشعوب في الحياة على هذه الأرض بحرية وديمقراطية وعدالة وإنسانية والتمتع بسيادتها واستقلاليتها.

إن أهم متغير في هذه المرحلة هو كسر الجماهير لحاجز الخوف والتمرد على الواقع السيئ الذي عاشته لعقود. هذا المتغير لم يلغ أياً من الاستراتيجيات السابقة للثورة، بل أكدت أحداث الانتفاضات وتطورها في الأقطار العربية على أهم استراتيجياتها، وهي أن بناء الأطر المنظمة أحزابا كانت أو جبهات أو حركات شرط مهم لنجاح الثورات وتحقيق أهدافها. فتأطير الجماهير شرط مهم لاستمرار النضال وتحقيق أهدافه، فالحركات الجماهيرية العفوية لا تحصد ثمار تضحياتها ونضالاتها، وهذا ما أثبتته مجددا الهبات الجماهيرية في تونس ومصر. والمتغير هنا يمكن ملاحظته في الجانب التكتيكي، خاصة الدعوي والتحريضي المهم في تثوير الجماهير، حيث استخدام أدوات الاتصال الحديثة مكن من تسريع الحشد وتوجيه النشاط الجماهيري. لكن ذلك لم يعوض عن أو يلغ دور البناء التنظيمي في الثورة.

من يقوم بالثورة ولصالح من أمران أساسيان لتحديد بوصلتها وفرص نجاحها أو فشلها. ومسألة التغيير وثمنه غاية في الأهمية أيضا. وكلاهما ضمان خلق تراكمات في فعل وقدرة الجماهير كشرط من شروط النجاح والانتصار.

--------------------------------

*أحمد أبو غوش: كاتب وباحث فلسطيني مهجر من اللطرون، مقيم في رام الله.