بقلم: سيفان هلفي*

كنت قد اكتشفت حنظلة قبل عشر سنوات من يوم كتابة هذه السطور المتواضعة، وكان ذلك عبر رسومات فتاه تقطن في قرية فلسطينية تقع في الجنوب الغربي لمدينة نابلس. ومما لا شك فيه أن هذا الاكتشاف، له علاقة وثيقة بالتأثير على علاقتي بسكان تلك القرية، وخاصة عندما هجر سكانها بسبب عنف هجوم المستوطنين الإسرائيليين عليهم. وقد ساعد تواجد البعثات الدولية بشكل دائم في القرية، السكان بالعودة إلى قريتهم لاحقاً. أما أنا فكنت في ذلك الوقت، كفرنسي، جزءا من هذه البعثات في إطار الحملة المدنية العالمية لحماية الشعب الفلسطيني. منذ تلك اللحظات، لم أفكر في ذلك المكان المسمى فرنسا، التي تعبر بكل جلف عن دولة ومنظومة قوة، والتي حالها حال دول وأنظمة الهيمنة جميعاً، تتبع بالأساس منطق السيطرة الذي ترسمه، ومنطق أولئك الذين يتحكمون بمفاتيح الهيمنة، بدلا من أن يكون ذلك المنطق من إنتاجنا نحن كشعوب. وهذا كان أحد المداخل الأساسية لتجربتي الفلسطينية التي لا أريد لها أن تنتهي حتى الحرية لفلسطين شعباً وأرضاً.

أما عن توزيع وعرض وإبراز رسومات ناجي العلي والمشاركة فيما بعد في نشرها لأول مرة على المستوى الفرنسي، وعبر عدسة كاميرتي، فإني أتبادل وأناقش وأتعامل مع المعنى الذي يمثله حنظلة بالنسبة للفلسطينيين والفلسطينيات في كافة أنحاء الوطن التاريخي الفلسطيني.

أسير إذن مع حنظلة على طول العشر سنوات التي انقضت من زمننا، ولكن ماذا يعني السير مع حنظلة؟

ما يعني في طرح هذا التساؤل؛ أن حنظلة ليس موضوع دراسي بالنسبة لي، ولكنه شخص يثير تساؤلاتي. وأقدم هنا ما بادر صديق فلسطيني به من تعبير، حيث يقول: "السير مع حنظلة، مثل السير مع الآخرين، وعلى رأسهم غسان كنفاني، فعندما نريد أن نتحدث عن ناجي العلي نحن نلامس فكرة وثورة وقبل ذلك ترجمة ما نعني بإنسان". عندما اكتشفت حنظلة، كانت أولى ردود فعلي عدم فهم سبب عدم  سماعي عنه أبداً من قبل، خاصة بين شبكات التضامن مع الشعب الفلسطيني التي كنت أتردد إليها وبينها. ومن هنا استنتجت أن هناك إشكال، فكيف يمكننا دعم شعب في نضاله المستمر دون ري إحدى الجذور العميقة لأشجاره التي تموت وهي منتصبة؟ وبمساعدة الوقت، أعدت النظر بهذا الاستنتاج وفكرت بأنه من الضروري أن يقوم كل منا باكتشاف هذا الجذر كما هو حقيقة وواقع، وكذلك التشديد على إلحاح الحاجة بأن ندوس تلك الأرض التي أبقته على قيد الحياة، والمجازفة في تجفيفها ونحن نحاول أن نزرعها من جديد في أرض تبدلت معالم خصوبتها.

فلا يجوز، من وجه نظر منحازة، أن تبقى رسومات ناجي العلي سجينة الأوراق اللامعة للكتب والألبومات الفنية، فهي لا تمثل أعمالا فنية معدة للعرض، ومن البؤس التعاطي معها انطلاقاً من هذا المركز. ومن هنا، يجب علينا نحن العاملين على نشر رسومات ناجي العلي خارج فلسطين، في المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا... الخ، أن نتوخى أشد الحذر مع جمالية ما نتعامل معه.

وعليه، وجدت أن حرص نجل ناجي العلي، صديقي خالد ناجي العلي، في منتهى الأهمية. فعندما التقيت به لأول مرة، أوضح لي بأن ناجي لم يكن شخصا سياسياً فقط وإنما رساماً أيضا. لذلك لا يحق لنا سجن رسوماته في إطار الأعمال الفنية، ونحن نجتثه أيضا من جذوره عندما نجعله موضوع خطاب سياسي فقط. تكمن ميزته في لغة خاصة مصنوعة من ملح الأرض وذات صدى صاخب. فكم من مرة نجح الخطاب السياسي في فلسطين، وفي تاريخ الشعوب المضطهدة الأخرى، في إخفاء الممارسات على أرض الواقع عبر السياسة الاستيطانية بشكل عام والإسرائيلية بالأخص؟

فماذا نفعل إن لم تولد جذورنا في فلسطين لنتمكن من السير مع حنظلة؟

يعتبر نشر هذا الرمز عبر حملة المقاطعة العالمية عملاً مساعداً وملتزماً بما أنه يحث على مواجهة الحقائق كحقيقة اكتشاف حنظلة في فلسطين. إنه بالفعل تحد لنا نحن الآخرين، ذوات وذوي البشرة البيضاء، المنتمين والمنتميات إلى الطبقة العالمية المهيمنة، والمرتبطين والمرتبطات بفكرة المبادئ العالمية التي تخدم تعتيم الظروف المعيشية المختلفة في العالم، والمقتلعون والمقتلعات من جذورنا بسبب النظام الرأسمالي/الليبرالي الذي ينتج حياة ظاهرية تعتمد على الاستهلاك. وفي هذا السياق يمكننا، وبسهولة أن نقع في فخ الاستيطان الإسرائيلي الذي نسب لذاته الزعتر والصبار. إذ لا يمكننا في ظروف كهذه، أي الهيمنة والرأسمالية، أن ننسب لذاتنا الصبار لكي لا نقتلعه من جذوره الفلسطينية.

حنظلة كالبوصلة لا يشير إلا لاتجاه واحد. ولهذا يجب علينا أن نعرف من أين نريد الانطلاق ومن أين نحن قادمون ومن نحن. حتى وان كنا اعجز من أن نستطيع  تحقيق "استدارة" حنظلة بدون قصد، نستطيع أن نأخذ على عاتقنا خوض طريق آخر، وهو أن نجعل من حنظلة رؤية رومانسية حيث تتأرجح شمس ساطعة في غروبها مثل رأسه وشعرة.

وبهذا يجدر بنا التذكير بأن رسومات ناجي العلي الأساسية والتي نعرفها بعيدة عن تمثيل معظم تعابيره، ف "نحن" لا نفهم رسوماته التي تحتوي على كتابة باللغة العربية. وهكذا فالمشوار طويل للتقرب من حنظلة.

تراودني كل هذه الأفكار من حواري مع الأصدقاء والصديقات الفلسطينيين/ات خلال مسيرتي مع حنظلة.

كم مرة سمعت في فلسطين أن ناجي العلي كان ينتمي للجبهه الشعبية لتحرير فلسطين! وفي هذا محاولة حصر لحنظلة في الخطاب السياسي؟ وهنا يجب التأكيد على أن هذا الحصر يعود لأسباب تاريخية مرتبطة بمسيرة ناجي العلي مع حركة القوميين العرب، ومن ثم لقائه مع غسان كنفاني. ولكن هذا التصوير  يأسر  حنظلة في موروث حزبي، مع انه لا يمثل حزبا وإنما يمثل شعبا، أي الشعب الفلسطيني بأكمله وأينما كان، لأنه لاجئ يقطن في الشتات ويناضل لأجل عودته حتى أيامنا هذه.

كما أنني سمعت أيضا أن حنظلة شخصية تخص البالغين وأن جحا يخص الأطفال، والمفارقة أن  حنظلة طفل بحد ذاته ويعتبر الرسم أداة يعبر بها الأطفال عن ذواتهم. بالإضافة إلى ذلك، تتخذ بعض رسومات ناجي العلي قصة نصر الدين حجة، نظير جحا التركي، بحذافيرها.

وليس من الغريب أيضا مقارنة ناجي العلي بمحمود درويش، مع أن علاقتهم توترت عندما خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان مع محمود درويش الذي أصبح عضوا بارزا فيها. إذ اعتبر ناجي العلي خروج فتح وم. ت. ف من بيروت تخل وخيانة للقضية.

من فلسطين إلى العالم، السير مع حنظلة يعني اختيار طريق ملتزمة

ومع انتشار حنظلة خارج فلسطين، تظهر تفرعات جديدة على الطريق، حيث ولد حنظلة من رحم الاضطهاد، مثل مناضلي حركة الزاباسيتا للتحرير الوطني في المكسيك، فإن جذوره تبقى مع ذلك فلسطينية. بينما بالنسبة للدول المتعاقدة مع نظام السيطرة، يمكننا سماع صراخ غياب الجذور وشعور مهين بقدرة خلق جنة عدن جديدة.

يميل اقتلاع العالم من أصوله لإدخال فلسطين في النظام الرأسمالي والليبرالي والاستيطاني. ولكن، يستحوذ على القوة الاستيطانية الإسرائيلية وعلى القوة الامبريالية الاقتصادية للدول المسيطرة الأخرى بعد هزيمة حنظلة (وتبدله بعد حرب 1973 واغتيال ناجي العلي)، لأنهم يفقدون قوتهم أمام الجذور التي لا تتوقف عن الازدهار مع كل ربيع.

فالوقت يمر والأماكن تطاف خلال السير مع حنظلة، إذ لن يستأنف نموه حيث توقف. فعند السير مع حنظلة، نحصد بذور أزهار الغد، فهذه قصة بلا نهاية، حالها حال التزامنا مهما حاول أعداؤنا، فحنظله عمره 44 سنة فنياً، و65 عام منذ فصله عن فلسطينه وقريته الشجرة، بالرغم من ان عمر جسده الفعلي (10 سنوات)!

خالد العلي يعرف محطات في تاريخ ناجي العلي:

 ولد ناجي العلي في قرية الشجرة الواقعة بين مدينتي الناصرة وطبريا في الجليل، فلسطين، عام 1936. وفي العام 1948، عام النكبة، أجبرت عائلته على النزوح مثل معظم الشعب الفلسطيني حيث لجأوا الى لبنان واستقروا في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان. بعد ذلك التحق بالقسم المهني في أحد المعاهد المهنية في مدينة طرابلس اللبنانية وتخرج منها عام 1953، ومن بعدها زاول مهنا متفرقة لكسب خبزه. في تلك المرحلة بدأ التعبير عن نفسه بالرسم على الأرض وحيطان المخيم، بالإضافة إلى ذلك، كان يرتجل بعض العروض المسرحية ويقدمها مع زملائه في أحد مقاهي عين الحلوة. كانت تلك العروض المسرحية ناقدة وساخرة وصريحة وتتناول الأوضاع في المظاهرات التي كانت تقوم في المخيم، أصبح ناجي وبعض زملائه من حركة القوميين العرب وغيرهم يتعرضون باستمرار للاعتقال من قبل السلطات اللبنانية. وفي عام 1957 غادر إلى جدة في السعودية حيث عمل هي مجال الخراطة حتى عام 1959. وبعد عودته منها، قرر التوقف عن مزاولة مهنه الخراطة والتوجه لعمل ما يمكنه أن يرضي نزعاته وإمكانياته الفنية.

 التحق بالأكاديمية اللبنانية للرسم في عام 1960 لكنه لم يكمل دراسته بسبب المضايقات والاعتقالات المتكررة من قبل السلطات اللبنانية. لكن هذه التجربة، وان كانت قصيرة ساعدته على الالتحاق بالكلية الجعفرية في صور عام 1961 ليعمل مدرسا للفن لمدة سنتين. وفي ذلك العام، بعد زيارته لمخيم عين الحلوة، نشر الكاتب المرحوم غسان كنفاني أربع لوحات لناجي العلي في مجلة الحرية. وفي عام 1963 انتقل إلى الكويت حيث عمل في مجلة الطليعة المعارضة ومن بعدها في جريدة السياسة حيث ولد حنظلة عام 1969. من بعدها رجع إلى لبنان عام 1974 ليعمل في جريدة السفير منذ صدورها وشهد بذلك الحرب الأهلية اللبنانية والغزو الإسرائيلي عام 1982. فاز بالجائزة الأولى لرسامي الكاريكاتور العرب عن لوحته باص "التسوية" عام 1979 وانتخب أمينا عاما لها. وكذلك فاز بالجائزة الأولى مناصفة عام 1980. وفي العام 1983، رجع إلى الكويت حيث عمل في صحيفة القبس حتى العام 1985، حيث أبعد من بعدها. اختار الرحيل إلى لندن بعدما تبين انه من الصعب استقباله من قبل أي دولة عربية حيث عمل في صحيفة القبس الدولي. تم إطلاق (النار) عليه عند توجهه إلى مكاتب الصحيفة وسط لندن في يوم 22/7/1987 توفي بعد خمسة أسابيع في يوم 29/8/1987 ودفن هناك.

----------------------

*سيفان هلفي: مخرج سينمائي فرنسي، أنتج سلسلة من الحلقات الوثائقية المصغرة حول حنظلة وناجي العلي، وأنتج مؤخرا فلم "السير مع حنظلة"/وثائقي طويل، حول نظرة الفلسطينيين في داخل فلسطين لحنظلة.