سامر الفلسطيني ينتصر الآن... وأبعد

بقلم: عيسى قراقع*

بعد تسعة شهور وأكثر، وتحديدا بتاريخ 23/4/2013، علق الأسير الفلسطيني سامر العيساوي إضرابه المفتوح عن الطعام في ملحمة إنسانية متميزة وفريدة دخلت بامتياز التاريخ النضالي الفلسطيني وتاريخ الإنسانية والكفاح من أجل العدالة والحرية.

على مدار أشهر الإضراب الأصعب والأكثر توترا وقلقا في مسيرة الإضرابات الجماعية أو الفردية المفتوحة عن الطعام، تحول الأسير سامر إلى رمز للضمير العالمي، وقصة هندستها إرادته وصبره وإيمانه العميق بالحرية والكرامة.

كان سامر يحمل تابوته هاربا من جنازته، ويحمل حياته هاربا من أسطورته، ليرشد العالم إلى مكانه والى صوته الخاص، متدفقا حليبا ساخنا من ثدي أمه، وصلاة جماعية مدوية في باحات القدس بعد قليل.

قال: الحرية أو الشهادة... لا أغنية لي في المنفى، وقطاع غزة ليس بديلا عن القدس، وكل شيء صار بيدي، قلب يدق بطيئا في هدوء تل أبيب، وشعبي يحمل الكلام عني، وفي كل مساء أرمم عظامي تارة غيمة، وتارة كوكبا اركبه إلى أغنيتي.

سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد.. سقطوا أمام إصراره أن يبقى حيا، لم يمت كما اعتقد أطباؤهم وكما تمنى جهاز مخابراتهم... لم ينتحر أو يتعب دون أن يبلغ نهاية الوصول، تعطلت أجهزتهم الالكترونية وحسابات الموت في غرف عملياتهم، وظل قلبه ينبض ويهمس ويتجدد من غيبوبة إلى غيبوبة، صاحيا إلى غده، نجما خارجا عن مدار الجاذبية.


سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد: انتصر على سياسة الإبعاد القسري، وانتصر على قوانينهم ومحاكمهم العسكرية التي أرادت أن تفرض عليه حكما ب 16 عاما بلا تهمة سوى انه تجول في فضاء القدس قليلا، حتى اقترب من رام الله الجالسة على ضريح ياسر عرفات.

سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد: حرك قضية الأسرى بعظامه وجفاف جسمه وذوبانه في الكون الإنساني، حتى استفز الصامتين وأشعل في إسرائيل كل الأسئلة الأخلاقية والقانونية، واستدعى فيها جنون الضحية عندما كشف صدره وقال للقاضية في المحكمة: هكذا فعل بكم النازيون في زمن المحرقة.

سامر الفلسطيني انتصر للمكان ماضيا وحاضرا ومستقبلا، بقي يصرخ داخل السياج، رفض أن يصير المكان بعد حين مجرد حنين وذكريات، لأن الذاكرة إرادة فعل على الواقع، والواقع تكفيه جروح الغياب.

كان وجهه المتعب يشير إلى مئات القرى التي أبادها هذا الجلاد، وصوته المقدسي يدل على الآيات في البلدة القديمة ، ينادي على الطيور في جبل الزيتون، وهي تغني ضد إسكات التاريخ في الرواية.

أضلاعه الناشفات البارزات، كشفت للقضاة في قاعة المحكمة أنهم لم يسرقوا جسده فقط، بل سرقوا كارثته الإنسانية في أيام عبورهم إلى فلسطين باسم الرب في ذلك الزمن القديم، صارخا: لن اسمح لكم أن تستملكوا حالة الضحية، وتمنحوا أنفسكم الشرعية لتقتلوني.

في شهر نيسان قال لهم سامر العيساوي: انه ليس شهر الخلاص القومي لكم كما تدعون، بل شهر الخلاص لنا بالحرية المنشودة، لأني أراكم الآن دولة مطاردة بجوعي، دولة متعالية ومنعزلة، ولم تعد جزءا من أسرة الأمم، دولة تتجه نحو الانتحار الأخلاقي والقيمي.

سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد: عندما تحول البطل الفلسطيني الفرد إلى بطل عالمي يرى كل شخص انه شقيقه في الإنسانية، فانهالت الانتقادات على دولة إسرائيل، وتفتحت العيون أكثر لترى ما يجري في أقبية السجون، وتكتشف أن هناك دولة تسمى إسرائيل قد حولت سجونها إلى مقبرة للأسرى وبديلا لحبل المشنقة.

سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد: جوعه المتكبر اختصر الطريق إلى باب الحرية،  وجوعه أضاء في الوعي الإنساني الشموع والأفكار، لم يخب ظن احد، سوى الجلادين الذين توقفت ساعاتهم وأعمالهم في تلك الليلة عندما قرأ على الناس نشيد الانتصار.

قال في رسالته: لا للمثول أمام محكمة غير قانونية تجثم على أرضنا المحتلة، لا أريد أن أزيد عدد اللاجئين ولو بشخص واحد، لهذا إما أن أكون في القدس أو في الأبدية مرتاحا، لأني خلقت حرا من جوعي وإرادتي.

سامر الفلسطيني كان يعلم أنه يسير وراء قلبه لبلوغ الهدى، وكان يعلم أنه ليس وحيدا في نشوته الصاعدة، قال أنا القوي، وموتي لا يتكرر، والسماء نافذتي وسيّد أمنيتي.

سامر الفلسطيني انتصر الآن وأبعد: أمهلهم حتى الساعة الثامنة مساءً... قنبلة بشرية موقوتة في قلب إسرائيل، الوقت ملكه وما عليهم سوى أن يأتوا إلى سريره بعد منتصف الليل، يفكون قيده، جميعهم جاءوا صاغرين: المخابرات والقضاة والحراس و الأطباء يطلبون الرحمة من سامر، كي لا يختنقوا أكثر، يفتحون النافذة ليرى البحر يمشي إليه يعانقه ويعلوا كثيرا كثيرا أمام ملاك يقبل يدي أمه الصابرة.

------------

عيسى قراقع: وزير شؤون الأسرى والمحررين، عضو الهيئة العامة لمركز بديل