محاولة كسر جدار الصمت: شهادات يهودية عن النكبة

اعداد: ايتان برونشتاين، ليئات روزنبيرغ* 

جمعية ذاكرات**

 

بعد ستة أيام من المجزرة. جاء اليهود وقالوا "نريدك أن تبعدي الجثث من هنا..."، وهذا لأن الجثث في ذلك الوقت كانت قد بدأت تتعفن وتنبعث منها الروائح. كان معنا رجل يدعى الخليلي، وكان يملك حصاناً وعربة آنذاك، فقالوا له: "خذ عربتك واجمع الجثث..." وقد بدأ فعلا بجمع الجثث ونقلها إلى المقبرة كي يعتني بدفنها، وخلال ذلك كان قد رأى رضيعاً بلغ الثماني أو التسعة أشهر وهو ملقى على الأرض إلى جانب أمه المقتولة، بينما هو لم يزل لم يفارق الحياة بعد، وقد كان هذا الطفل قد تغذى من حليب صدر أمه لسبعة أيام وهي متوفاة. وفي هذه الأثناء أخذ الخليلي الطفل، حيث لم يكن لديه أطفال. إلا أن الجندي قد أمره بتركه جانباً على الرغم من توسلاته، قائلاً له: اترك الطفل تحت رعايتي، وقد رفض الخليلي ذلك قائلاً :إني أريده. لكن أحد المجندين في تلك اللحظة أخذ الطفل منه وألقاه على الأرض وأطلق النار عليه، وحينها بدأ الخليلي بالبكاء وقام بنقل الطفل ليدفنه لاحقاً إلى جانب والدته.

من شهادة حليمة نقيب العجو حول مجزرة اللد. 

حتى في حال كنت معتاداً على سماع الروايات الفلسطينية وسرديات النكبة والاقتلاع، إلا انك ستجد نفسك أمام حالة من فقدان الكلمات والقدرة على الكلام أمام الشهادة التي تقدمها حليمة. فلا يمكنك ترك النص بسلام، فالصور والرؤى التي يثيرها، تخلق حالة من استحالة تكرار القراءة بل والغوص أعمق في الكلمات والتوقف لدى التعبيرات. فكيف يمكن احتواء الرعب؟ وكيف يمكن الرد على مثل هذه الشهادة؟ مع كل ما يعتمل البال، ونبضات القلب، والإرهاب والحزن والخوف، والأهم من ذلك النداء لأجل العمل! وهنا يمكن القول أن شهادات فلسطينية مثيلة للواردة أعلاه ليست بالشيء النادر لسوء الحظ. وقد جوبهت هذه الروايات دوما من الجانب الإسرائيلي، وكأنها مبنية أساسا لتحدي اسرائيل لا أكثر ولا أقل، وهنا يمكن تلمس أحد منابع عدم الثقة المحتملة بالروايات والشهادات المعنية بالحديث.  

ويمكن العثور على شهادة مرتبطة بذات الموضوع، لدى المقاتل في صفوف قوات ميليشيا "البالماخ" يرحمئيل كاهانوفيتش "يراش"، والذي قد وجد من السهولة الوقوف أمام آلة التصوير والإدلاء بشهادته عن ما ارتبكه هو نفسه من قتل لعشرات المدنيين في البلدة ذاتها. وفي المقابلة المصورة معه؛ لم يدخر جهداً في مديح ال"بيات" مضاد الدبابات المصنع إسرائيليا، والذي كان قد استخدمه بذاته لإطلاق النار باتجاه المسجد، حيث كان الكثيرون يتخذون منه ملجئاَ. ووصف أيضا اللحظة التي قام فيها بفتح باب المسجد وما تبعها من مشاهدته للمشهد المرعب هناك. ويتناول بالوصف كذلك كيف عثر على علبة حلاوة في أحد بقالات واحدة من قرى وادي جزريل، التي لم يعد يتذكر اسمها. وكذلك في تعبيره ووصفه للفرح الغامر بحالة النشوة التي تبعت إسكات جوعه لدى تفجيره القرية بعد ذلك مباشرة.

كما روى ذكريات وتفاصيل عديدة من بينها نهب محل البقالة ومجزرة المسجد كذلك، والتي يسردها بطريقة متحجرة "بلاستيكية"، والتي يحتاج المرء لسماعها مراراً وتكرارً حتى يصدق ما يسمع. ونقاشات مشابهة تعتري العديد من شهادات المقاتلين الصهاينة ممن انخرطوا في عمليات التطهير العرقي خلال النكبة، والتي يمكن مقاربتها والتحقق منها عبر الرجوع  لروايات الناجيين الفلسطينيين التي يروون فيها سيرة اقتلاعهم وتهجيرهم.

أما فيما يرتبط بجمع مثل هذه الشهادات من قبل الطرفين، وهنا نقصد من الضحايا ومن الجلادين، حول الماضي كما يروونه/ يقدمون روايته هم، إنما يعد فعلا أساسيا لتعرية تاريخ فظائع المنظومة الاستعمارية التي تم بناؤها في العام 1948 على أنقاض المجتمع الفلسطيني آنذاك، والتي لا زالت مستمرة حتى اليوم. وهذه الشهادات تتمتع بأهمية قصوى في تعزيز العمليات التي من شأنها أن تقود إلى إيجاد حل في نهاية المطاف، وفقاً للدروس المستقاة من العديد من تجارب لجان المكاشفة والمصالحة في غير منطقة من مناطق الصراع في العالم. 

وقد كانت منظمة ذاكرات نشطة منذ أكثر من عقد في عملها على تعزيز الاعتراف والمساءلة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي بجرائم النكبة المستمرة ضد الفلسطينيين، وتحقيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وبالرغم من أن النكبة كمصطلح ومفهوم أصبح أكثر ذيوعاً في الأوساط اليهودية الإسرائيلية مؤخراً، إلا أن التعاطي في هذه الحالة يتم أيضا مع صيغة الماضي بالنظر للمفهوم، وهو حدث مؤسف ومستمر منذ بدأ، ومن يتحمل المسؤولية الرئيسية عن ذلك هم الإسرائيليون أنفسهم. ويتوجب إدراك أن خطاب النكبة هو ليس عن ماض أو حدث مضى، بل انه عن الحاضر، وعن الحاضر خصوصا. بل وأكثر من ذلك أيضاً، حيث أن المستقبل وشكل التعاطي المستقبلي مع هذه القضية، من شأنه تحديد مدى تعقيد الأمر بالنسبة لليهود الإسرائيليين الذين سيستمرون في العيش هنا. والتعامل مع أحداث العام 1948، يتطلب منهم، ليس فقط التصالح مع أخطاء الماضي وإنما أيضا التعاطي مع أخطاء الحاضر والتوقف عندها، التي لا تلوح نهاية لها في الأفق القريب. فالتعامل مع هذه الأخطاء والاعتراف بها وتحمل المسؤولية عنما وقع؛ كلها عناصر مركزية لمحاولة بناء أي إطار من المصالحة الحقيقة بين الشعبين.

بما أن الإسرائيليين اليهود مرتبطين بشكل أو بآخر بالنظام الذي نشأ عام 1948، فان معظمنا لا يستطيع التعامل مع شهادات "مقاتلينا" بشكل مختلف. ويجدر الاعتراف بأنه من الصعب علينا أن نقوم بعزلهم، وأن نقول "لا يمكن لهذا أن يكون". هؤلاء الشهود، يمكن أن يكونوا أجدادنا، وهذا من شأنه إيقاظ صلة ذات طابع غريزي. ولربما، بل من المؤكد أن الاعتراف بذلك سيكون صادماً، لكن بكل صدق، إذا ما افترضنا وجودنا هناك، في تلك اللحظة، فان الكثير منا كان سينضم إليهم في أعمال التطهير العرقي التي ارتكبوها. وباعتقادنا أن هذا الاعتراف من شأنه أن يشكل النقطة المركزية في انطلاق رحلة تفكيك الاستعمار في هذا المكان. ونحن اليهود الإسرائيليين لدينا قناعة بأن مجموعة من شهادات الجناة هذه، من شأنها أن تحمل في طياتها بذور تغيير على قدر عالٍ من الأهمية لأولئك الذين يجدون صعوبة في تصديق أن الصراع المحتدم على مدى حياتنا إنما قد ابتدأ وتسبب في ترحيل معظم السكان الفلسطينيين بشكل قسري عن البلاد.

ان هؤلاء المحاربين لا زالوا يصرحون بالقليل مما هو غير معروف، حيث تمت عملية توثيق لمعظم الأعمال الوحشية المذكورة والتي وقعت في الماضي. وما يشكل رواية حول هذه الشهادات هم الشهود أنفسهم، ووقفتهم كمرتكبي جرائم وليس ضحايا والقول، نعم أنا فعلتها، وفي كثير من الأحيان يقع ذلك في ظل حيز من الفخر الخفي. لكن في المقابل أيضاً فإنهم يصرون على عدم الإفصاح أو مشاركة هذا التفصيل أو ذاك، باستحضار مبهر لضخامة الرعب.

ولعله ليس من سبيل المصادفة أن مقاطع الفيديو التي تروي هذه الشهادات لم تبصر النور إلا الآن، على الرغم من انقضاء مدة ستة عقود على الأحداث المروية. لربما مساحة الوقت الواسعة كتان من شأ،ها ان تشعر الشهود بأريحية أكبر لتقديم الرواية التي لديهم. فالبعض قد يرغب فعلا في إلقاء عبء الحقيقة، وفي الوقت عينه فان رفاقه في السلاح الذين غادروا خلال هذه العقود لن يشعروا بالخيانة كذلك.

وبالانتقال للحديث على الجوانب التقنية والتفاعل معها، يذكر أن وسائل التوثيق السمعية والبصرية لعبت دوراً حاسماً في إنشاء هذه الشهادات وتوثيقها، وقد حظي هذا الجانب على تقدير كل من الشهود والجمهور الذي يستمع لشهاداتهم. فعلى سبيل المثال، تم تسجيل شهادة "آمنون نيومان" خلال جلسة إستماع عقدت في ذاكرات، وكان محتوى المقابلة قد ظهر في شكل نص قبل حوالي العامين من تاريخ الاستماع العلني. وبعد تحميلها على الشبكة العنكبوتية بصيغة شريط فيديو، حظيت الشهادة بتتبع شريحة لا يستهان بها من الجمهور، حيث بلغت معدلات المشاهدة خلال عدة أشهر 25.000 مشاهد ومتتبع. 

 وتظهر تعقيدات إشكالية العلاقة مع ما يمثل التوثيق بالفيديو، عبر ردات فعل كل من الأطفال أو الأحفاد الذين طلب منهم تسجيل ما سمعوه عن النكبة من الأقارب أو غيرهم. وقد رفض بشكل ملحوظ بعض من كانوا قد أدلوا بشهاداتهم أن يتم توثيق هذه الشهادات عبر شريط فيديو وأن يقفوا في مواجهة آلة التصوير. والى جانب هذا كله، كان التخوف من إمكانية الإساءة لبعض أفراد الأسر التي عاصرت الأحداث والذين لا زالوا على قيد الحياة. كما أن تقديم شهادات حول الحدث المستمر استنادا إلى تجربة أفراد من الجيل الثاني والثالث، وكذلك عرضها في المعرض، يثبت بشكل أو بآخر أن لديه قصة ومعرفة تستحق البوح لا تقدر بثمن. ومن المهم جداً مشاركة هذه الروايات وعدم الاستمرار في انكارها أو تغييبها. 

ويمثل المعرض السمعي البصري نحو أرشيف مشترك لمحة عما هو أوسع من مجرد إنشاء أرشيف مشترك. فعلى أقل التقديرات، فان من شأن مثل هذا الأرشيف، إلقاء النظر على شهادات وتجربة كل من الضحية وجلادها، وتسليط الضوء أكثر على ما وقع بحق اكثر من 700.000 فلسطيني اقتلعوا من أماكنهم الأصلية وألصقت بهم وضعية اللجوء لأكثر من 65 عام حتى الآن، حيث كان كل ما وقع لهم، فقط لأجل توفير الشروط اللازمة لإقامة دولة اسرائيل على أنقاضهم.

وفي سبيل الإيجاز، نوضح أن هذا المعرض يشتمل على ما مقدراه 30 شريط فيديو مصور كشهادات لمقاتلين صهاينة ممن اشتركوا في تجربة النكبة، كما يقدم المعرض كذلك سلسة من الشهادات للجيلين الثاني والثالث من معاصري النكبة بشقيهم، الضحايا والجلادين، وهو ما من شأنه اغناء الوعي بأحداث النكبة واستمراريتها وسبل إيجاد حل يضمن الحقوق لمستحقيها الشرعيين، التي حرموا منها كنتيجة لاستمرارية النكبة.

----------------------------------

* ايتان برونشتين، ليئات روزنبيرغ : ناشطان ضمن طاقم جمعية ذاكرات التي تعنى بتعزيز مفهوم حق العودة للاجئين الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي، ووجوب تطبيقه والاعتراف بالحقوق المسلوبة للفلسطينيين. 

**للمزيد حول ذاكرات انظر الموقع الالكتروني:

 http://www.zochrot.org/ar%5C