الانتخابات الإسرائيليّة: القيادات ضدّ الشّباب

بقلم: نزار جبران*

بعد قيام دولة إسرائيل على أطلال الشّعب الفلسطيني، قامت المؤسسة الصهيونية بفرض المواطنة على ما تبقّى من فلسطينيين ضمن حدودها الجديدة، ومنحتهم "الحق" بالاقتراع في انتخابات "ديمقراطيتها". لم تكن هذه الخطوة عبثية بل كانت تعبر عن منظومة من الفعل المدروس الموجه بهدف شرعنة الوجود الصهيوني وتجميل صورته عبر تحويله في الرأي العام العالمي من مشروع استعماري إحلالي إلى دولة تراعي ما لمواطنيها من حقوق. كما وهدفت هذه الخطّة إلى تفرقة الشّعب الفلسطيني وضرب مفصلي لحالة الوعي الجمعي بالكارثة التي وقعت على كتفيه، وتوضّحت الصّورة لاحقا، عبر تقسيمه جغرافيّا وسياسيا إلى تجمّعات صغيرة مفكّكة خالية من أي رباط مادي للصورة.

تشاركاليوم في الكنيست الإسرائيلي ثلاثة أحزاب أساسيّة تمثّل الجمهور الفلسطينيّ، وهي: الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة، وهي حزب عربي يهودي منبثق عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، التّجمع الوطني الديمقراطي، وهو حزب ليبرالي قومي، والقائمة العربيّة الموحّدة والتي تمثل ائتلاف مكون من عدّة حركات.

وبالتوازي مع تطوّر الأحزاب العربية المشاركة بانتخابات الكنيست الصهيوني، والمعتقدة بفعالية هذه المشاركة وأفق تأثيرها المستقبلي"الضلالي"، نشأت حركة داعية لمقاطعة الانتخابات، من منطلق مقاومة المستعمر بأدوات تفكيكه لا بآليات شرعنته. وقد تسارعت شعبيّة هذه الحركة والالتفاف حولها، كما نجحت بتقليص نسبة التّصويت لدى الفلسطينيين من ما يقارب 90% عبر سنوات عقد الخمسينيات حتى 50% اليوم.1 تمثّلت حركة المقاطعة في سوادها الأكبر بحركة أبناء البلد، وائتلاف لحراكات شبابية ناشطة في عدّة بؤر في المناطق المستعمرة عام 48 وأغلبية عظمى  من شباب عربي مقاوم مستقلّ وغير محزّب.

واعتمدت حركة المقاطعة في طرحها على الثّوابت الفلسطينيّة المتمثّلة في وحدة الشّعب الفلسطيني ووجوب وحدانية خطابه، ودولة فلسطين كاملة التّراب من النّهر إلى البحر، بما في ذلك حق الّلاجئين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها. كما ورفضت حركة المقاطعة تبنّي طرح المواطنة الذي تطرحه الأحزاب الحاليّة المشاركة في الكنيست. وتعاملت مع المؤسّسة الصهيونية كبنيان كولينيالي زرع في عام 1948 وما زال مستمرّا حتى اليوم دونما اختلاف في جوهره.

إن كلمة "كنيست"؛2 تعبر أساساً عن رمز يهودي، سياسي لا ديني، يشير إلى سردية الكنيست الكبرى التي تشكّلت في القدس في القرن الخامس قبل الميلاد. اما اليوم، فتستخدم التسمية للإشارة  للبرلمان الإسرائيلي الذي يستقي قراراته من روح الحركة الصهيونية التي تشكّلت في مؤتمر بازل عام 1897،3 والتي هدفت فيما بعد لتأسيس وطن "قومي" لليهود بناءً على التّطهير العرقي للشعب الفلسطيني وإخلاء الأرض من ساكنيها.

ومن الغني عن التذكير بأن على جميع المشاركين في الكنيست، التقدم بقسم يمين الولاء لدولة إسرائيل وعدم العمل على المساس بيهودية الدولة وديمقراطيتها، وهي الأسس التي أقرّت في وثيقة الاستقلال الإسرائيلية. قامت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، وهي الجسم الذي يمتلك صلاحيّة تفسير القوانين، بتفسير يهودية الدولة وفقاً لثلاث عناصر: كون إسرائيل الممثل الأول والأوحد ليهود العالم والمدافع عنهم، رموز الدولة اليهودية، والأغلبيّة السّكانية اليهودية.

إن الأغلبية اليهودية الصّهيونية المحصّنة في القانون تجعل من الفلسطينيين، في حيّز ما يسمى بالمواطنة، أقلية مزمنة/مؤبدة (chronic minority)، وبهذا تنفي يهودية الدولة الإدعاء بديمقراطيتها. إن الصهيونية هي النقيض الأكثر صلفاً للهويّة الفلسطينية، ونظرا لكون الفلسطينيين أقلية مزمنة، بالتالي فإن أي محاولة لسنّ قانون يصبّ في مصلحة الفلسطينيين يواجه برفض متين وممنهج. وما يشكل إثباتا على ذلك هو فشل الأعضاء الفلسطينيين في الكنيست الإسرائيلي بسن أي قانون لمصلحة الفلسطينيين في عشرات السنين من المشاركة في الكنيست والاكتفاء بسنّ القوانين المتعلّقة بالبيئة وحقوق الحيوان.4

إن الديمقراطية بمفهومها الحديث تعني حكم الشّعب، بمعنى اجتراح آليات لهيمنة الإرادة الشعبية ونفاذها، وبذلك تكون جميع القرارات الصّادرة من البرلمان هي باسم جميع المصوّتين الذّين أبدوا ثقتهم بقرارات البرلمان وحكومته عبر الانتخابات، دون علاقة إن كان حزبهم ضمن المعارضة أو الموالاة. إن الحكومات الإسرائيلية ذات تاريخ حافل بالمجازر التي ارتكبت بحق الشّعب الفلسطيني والتي كان آخرها العدوان الأخير على غزّة. إن مقاطعة التّصويت هي بمثابة رفض المشاركة بالقرار والتنديد به وتعريته من ضباب الشرعنة.

كما وتقوم إسرائيل عبر مؤسّسات "الهسبراه" (الشّرح) بالترويج لديمقراطيتها بحجّة نسبة التّصويت لدى "مواطنيها" الفلسطينيين وبهذا تبرّر جميع جرائم الحرب التي ترتكبها بحجّة كونها "المعقل الأخير/الاوحد للديمقراطية في الشّرق الأوسط".

قبل الانتخابات الاخيرة (2013) قامت لجنة الانتخابات بشطب عضوة الكنيست حنين زعبي ممثلة التجمع الوطني الديمقراطي بهدف منعها من التّرشح. بعد هذه الواقعة، قام حزب التّجمع بتهديد إسرائيل باستعمال سلاح مقاطعة انتخابات الكنيست في حال شطبت حنين، متناسيا بذلك شطب ملايين الّلاجئين الفلسطينيين في العالم، ومغفلاً في الوقت عينه ما تمثله المقاطعة من سلاح حاد في وجه الدولة الصهيونية.

كما وقام البروفيسور نديم روحانا، المنتمي للتجمع ومدير مركز مدى الكرمل، بنشر مقالة في مجلّة معاريف كردّة فعل على التهديد بشطب النائبة حنين زعبي مخاطبا بها الرأي العام الإسرائيلي بعنوان: "نعطي إسرائيل خدمة"، إذ يشرح من خلالها مخاطر مقاطعة الفلسطينيين للكنيست وأهمية الأحزاب العربية المشاركة في انتخابات الكنيست لوجود الكيان الإسرائيلي في العالم. وقبل الانتخابات بفترة وجيزة، بحسب قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية، سمح لحنين زعبي بالتّرشح حفاظا على "طابع الدولة الديمقراطي".

ولاحقا لذلك وبالتحديد في تاريخ 20.1.2013، قامت جامعة الدول العربية بنشر بيان دعت من خلاله الفلسطينيين إلى المشاركة والتصويت في الانتخابات، وبذلك ساهمت بالعمل ضد إنجازات حركة مقاطعة الانتخابات الشعبية بمفهومها، والتي تستقي قراراتها وشرعيتها من الشّعب أولا. وبذلك، بدلا من أن تكون الجامعة العربيّة جسما يهتمّ بمصالح الأمة العربية ويدعو لمقاطعة إسرائيل، صارت جسما يهتمّ بالحفاظ على قيم الدّيمقراطية بنسختها الإسرائيلية وحقوق "الأقليّات" فيها.

كما وأثارت نسبة التصويت قلق إسرائيل وأعوانها، ولذلك قاموا بالعمل على رفع نسبة التصويت لدى العرب لتغطى عبر استغلال الإعلام الإسرائيلي. صحيفة هآرتس الصهيونية على وجه الخصوص،5  قامت بنشر مقالة باللغة العربية لأول مرة، خاطبت من خلالها العرب ودعتهم  للتصويت بنبرة كولونيالية استعلائية تقتصر على الكذب وتشويه الحقائق. كما وقاموا بإنشاء صناديق و"مراكز للديمقراطية" تنشر استطلاعات غير موضوعية بالمرّة وتحثّ العرب على التصويت، ومثال ذلك المركز الإسرائيلي للديمقراطية، وصندوق إبراهيم (كيرين أفراهام).6

إن التصاعد المستمر في نسبة المقاطعة جعل الأحزاب العربيّة تشنّ خلال الانتخابات هجوما على المقاطعين خوفاً منها على مكانتها والخطر من عدم اجتيازها نسبة الحسم. ووصل الأمر لاستعمال الأحزاب حجّة أن من يقاطع الانتخابات فهو بشكل غير مباشر يصوّت لليمين الصّهيوني. يجوز التّنويه أن أعظم المجازر بحق شعبنا ارتكبت عندما كان "اليسار" الصّهيوني في السّلطة، ويجوز تذكير قيادات أحزاب الكنيست أن الحركة الصهيونية هي حركة يمينية لا تحتوي يساراً.7

في الثاني والعشرين من كانون ثاني، في تمام الساعة العاشرة ليلاً، أغلقت صناديق الاقتراع لانتخابات الكنيست الإسرائيلي التاسع عشر. لم تكن معركة الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست سهلة، وصارعت حتى آخر رمق لكسب أصوات الفلسطينيين وعبور نسبة الحسم في ظلّ حركة مقاطعة الانتخابات التي برزت بشكل لامع هذه السّنة.

لكن لا زال يمكن القول، أن التّصويت في البلدات العربيّة لم يكن نزيها،8 وزوّرت الأحزاب أصوات الكثيرين مّمن قرروا المقاطعة، وفي صندوقين عربيّين اختيرا بصورة عشوائية من قبل لجنة الانتخابات، وجدوا نسبة تصويت تفوق ال 100%. كما وتمّ نشر مقالة في صحيفة "معاريف" بعد الانتخابات تتحدث عن الكم الهائل من التّزوير الّذي جرى في البلدات العربيّة استغلالا لنسبة المقاطعة المرتفعة.

وعلى الرغم من كلّ ما وقع من تزوير، لم تتغيّر نسبة التصويت كثيراً في الانتخابات الأخيرة. بل وبقيت على حالها، أي حوالي 50%، ما يعتبر مؤشّرا ودليلا واضحاً على أن الشّباب يرفض تشريع الكيان الصهيوني ورموزه، كما ويرفض تفريق وحدة صفّ الشّعب الفلسطيني.

----------------

*نزار جبران: ناشط في حركة مقاطعة انتخابات الكنيست الصهيوني، من قرية البقيعة المحتلة.