بقلم: نضال العزة*

لطالما فضلنا كفلسطينيين توصيف خلافاتنا بالاختلافات. ولأسباب وطنية وسياسية وربما دعائية أو دعوية، لطالما وصف أصحاب القرار، والمنظرون وبعض المثقفين اختلافنا بـ "التنوع المطلوب" باعتباره مظهرا من مظاهر "واحة الديمقراطية الفلسطينية" أو  تجسيدا لمبدأ التعددية، وغير ذلك من التسميات والأوصاف. وبدون نكران آراء من رؤوا في الأمر غير ذلك، لم يكن يُنظر بدقة إلى صيرورة ومآل اختلافاتنا. فحتى من أشاروا إلى أن اختلافاتنا هي خلافات آخذة في الاستفحال، أو ربما بأنها جوهرية، لم يمضوا في استكشاف كيف ستؤثر في مستقبلنا، ولا اتجاهاتها، والى أين سيحط بنا مركب التنوع وواحة الديمقراطية والتعددية. ربما يئسوا، أو أحبطوا بسبب تصنيفهم باللاوقعيين، أو بالمتحجرين من زمن الشعارات الكبيرة. في المحصلة، لم ننتبه أن الأمر- أمر الاختلافات المتراكمة والمتزايدة، يجري بنا إلى فقدان البوصلة، حيث وصل اختلافنا إلى العظم.

اختلافاتنا لم تعد وجهات نظر متعددة، ببساطة لأنها لم تعد تنطلق من الثوابت، كما إنها لم تعد تنتهي عند الثوابت. هي ليست اختلافات جزئية، ولا مؤقتة، ولا مجرد برامجية، ولا مجرد اصطلاحية؛ إنها اختلافات شاملة، ودائمة، وإستراتيجية، ومفاهيمية جوهرية. فالقول بوحدة الشعب الفلسطيني هذه الأيام لم تعد تعني ما كانت تعنيه قبل عقدين من الزمن. فالشعب لم يعد الشعب؛ فتارة تجده شعب الأرض المحتلة عام 1967، وتارة تجده "شعب غزة"، وقلما تجده شاملا لكل فلسطيني بحسب المادة 5 من الميثاق الوطني والتي تنص "الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطينحتى عام 1947 سواء من اخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطينيبعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني".ولا يختلف الأمر عن هذا كثيرا عند استخدام مصطلح وحدة "جناحي الوطنوالذي قد يعني وحدة الضفة وغزة، أو الحكومة الوطنية الموحدة، أو اتفاق فتح وحماس...الخ ولا احد يلتفت إلى التفاصيل الغائبة، ماذا عن البقية- بقية الشعب، والأرض، والحقوق؟    

والقول بوحدانية التمثيل، ناهيك عن شروط شرعيته، لم تعد تعني ما كانت تعنيه قبل اختلاق مصطلح "القيادة الفلسطينية". فهذه القيادة قد تنحصر في فصائل م ت ف، وقد تجدها مقتصرة على من حضر اجتماع ما، وتارة تجدها تشمل فصائل خارج م ت ف، وتارة تشمل وزراء في السلطة الوطنية الفلسطينية، وربما كوادر في تنظيم ما أو مسؤولي أجهزة أمنية. وبذلك، لا يمكنك أن تميز الموقف الحزبي من الموقف الوطني الجامع، موقف الحزب من موقف المسؤول، موقف المنظمة من موقف السلطة، موقف السلطة من موقف السلطة الأخرى... ويفصح المشهد عن ذاته بجلاء حين يصدر تصريح هنا أو هناك عن قيادي، فيراق وعي شعبنا خلال حملة التفسير والتوضيح والتبرير... وكل ذلك على مذبح حرية التعبير، إذ على الشعب أن يتعلم التفريق ما بين الموقف الشخصي والرسمي، وعليه أن يدرك فنون التصرف الدبلوماسي، ويتقن الحاجة للمشي على الحبل لضمان استمرار التمويل، أو لتجنب غضب البعض ولوم آخرين.       

حتى القول بالشرعية الدولية لم يعد يعني ما كان يعنيه عندما ادخل إلى قاموس البرنامج الوطني الفلسطيني. فهو قد يعني جميع القرارات الدولية بما فيها قرار التقسيم، وقرار 194 وقرار 237، وقرار 3236 (الحقوق غير القابلة للتصرف)، وقد يعني مجموعة محددة من القرارات درجت الألسنة على تداولها مثل 242، و 338، وربما تعني قرارا بعينه مثل 1515 (خارطة الطريق). فالشرعية صارت تماما كمصطلح المجتمع الدولي، قد تضيق وقد تتسع بحسب المتحدث ونيته، وللشعب أن يقدر ويفهم، وفي المحصلة عليه أن يقبل مضطرا أو على مضض، لأنه ليس بمقدور احد، وليس من الحكمة أيضا مخالفة الشرعية الدولية أو التشكيك بها، أو التساؤل عن جدوى التمسك بها، وهي اعجز من أن تصف الانتهاكات بمسمياتها الحقيقية، ناهيك عن عجزها عن اتخاذ أي خطوة فعلية.

والقول بوحدة القضية لم يعد مفهوما هو الآخر. فقديما رسخ المفهوم لدينا بأنه لا تجزئة للحقوقحقوق كل الشعب الفلسطيني، أما اليوم، فلا ندري لماذا لا نسمع عن حقوق الفلسطينيين من مواطني إسرائيل، فهل هذا شأنهم مع دولتهملم نعد نسمع عن حقوق اللاجئين المشتتين في بقاع الأرض إلا نادرا، أو في معرض الدفاع عن تصريح مسؤول زل لسانه فمس بحقوقهم الثابتة. فوحدة القضية كمفهوم لم يعد مؤصلا على وحدة الشعب ووحدة الوطن ووحدة الحقوق لجميع الفلسطينيين، فقد يعني القضية كما عرفها برنامج أوسلو، وخارطة الطريق، أو قد يعني مشروع الهدنة طويلة الأمد، وقد يعني الدفاع عن حقوق جزء دون الآخر، وقد ينحصر بمعالجة حقوق ترتبت بعد 1967 دون أخرى سبقت ذلك، وربما ينحصر في حقوق ترتبت بحكم اتفاقيات وتفاهمات وإعلانات... وكل له أن يفهم الأمر كيفما يشاء، بحسب موقعه، وقدرته على التكيف واستيعاب فن اللعب بالحقوق في كلمات.   

------------------------------------

نضال العزة، منسق وحدة المصادر والبحث والإسناد القانوني في مركز بديل.