بقلم: نضال الزغير*

باتالاستخدام الاصطلاحي لمفهوم المجتمع المدني والركون إليه ذائعا في أدبيات السياسة والاجتماع اليوم، أكثر منه سابقاً. وهذا  الاستخدام لا يختص بسياق دون سواه، بل يمكن تلمسه ضمن السياق العولمي المتنامي في مختلف تجارب المجتمعات التي عبرت عتبة القرن الحادي والعشرين، وإن كان هذا التنامي في الركون الإصطلاحي لمفهوم المجتمع المدني يتفاوت تبعاً لأنساق التطور التاريخي "الإجتماعي-الاقتصادي" للمجتمعات وتجاربها المتباينة. إلا أن ما يمكن أن يحاكيه ويماحكه الجدل، كامن في الإشكالات المتداخلة والعديدة التي تشوب مرآة النظر إلى المجتمع المدني أو عليه. وهذا ما يمكن إحالته إلى طبيعة البنى الأيدلوجية المعبر عنها بظهور أجندات سياسية يرمى ويرام إليها بالركون الاصطلاحي المعني في هذا الصدد.

بإمعان النظر في ساحة التأصيل والجدل التاريخي لمفهوم المجتمع المدني، يمكن استخلاص مدى اتساع وضيق التوصيف المقام عليه المفهوم في آنٍ واحد. بيد أنه لا زال يعبر في شاكلته الأساسية عن تلك المساحة والحيز العامين المتمتعين بملكة الفصل ما بين البنيتين القهريتين المركزيتين في تاريخ تطور المجتمع الإنساني في طوره الحداثي. أولهما حداثية بامتياز بالمعنى العلائقي، أي الدولة، أما البنية الأخرى، فهي  الممثل الأجدر للعلاقات العضوية في هذا الاتجاه، أي العائلة. حيث يشار إلى توصيف المجتمع المدني على أنه ذلك المجموع من كتلة العلاقات والمنظمات والتشكيلات الأهلية/غير الحكومية، بشكلها الطوعي اللاعضوي، إلى جانب إمكانية ادراج الأحزاب والتجمعات السياسية ضمن هذا التعريف. حيث تشكل العناصر المكونة للوصف السابق، ما يمكن النظر إليه كمؤسسة وسيطة تعاقدية ما بين البنى العضوية، على مختلف تشكيلاتها: بدءاً بالعائلة، الطائفة، العشيرة والكنيسة، بمعنى المؤسسة الدينية وليس بالمعنى المسيحاني، وما بين جهاز الدولة على الضفة الأخرى من النهر.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الأصل التاريخي المفاهيمي المنبثق عن منحنى تطور الإطار السوسيو-سياسي، إنما هو آت من رحم جدل التصورات الوظيفية حول الدولة والمجتمع والإنسان، إذ يمكن قراءة ذلك في الترسيم "الدوركهايميمن "إميل دوركهايم" منظر المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع، القائل بمختصر مفاده: "إن المجتمع المدني ما هو الا شبكة الأمان الحامية للمجتمع والحافظة للجماعات في داخله في وجه سطوة الدولة الممتلكة لسلطة العنف بشقيه "الفيزيائي والرمزي". 

لكن وعلى الرغم من التأصيل "الدوركهايمي" الوظيفي لفكرة ومفهوم المجتمع المدني، إلا أن المحاورات الصراعية قد تناولت إشكالية المجتمع المدني وتساؤلاتها بغير مستوى من التحليل، منطلقة من رؤيتها للمجتمع المدني على أنه ذاك الحيز الواسع لترجمة الصراع الطبقي وانعكاسه، على أن هذا الحيز يغدو مسرحاً لتطلعات الطبقة/الطبقات المهيمنة والمالكة، وكذلك على أنه حيز مرتبط بعلته الأم، أي بالسوق "بمعناه الرأسمالي الواسعوبما يحوي من تناقضات وصراعات إشكالية. بل وذهبت التوصيفات الماركسية الكلاسيكية والمحدثة منها إلى أبعد من هذا؛ إذ ترى أن الحيز المتعارف عليه بالمجتمع المدني، ما هو سوى تعبير تتكثف فيه صيغة المجتمع البرجوازي وصبغته، مع التوكيد على التعاطي مع مفهوم البرجوازي ضمن سياقه الكلاسيكي المعني بالإشارة إلى ملاك وسائل الإنتاج  المادي وأدواته. إلا أن من وضع المجتمع المدني في سياق النقد والتناول الحداثي الماركسي، كان بتميز، التجربة الغرامشية. إذ قدم صاحب فلسفة الممارسة "أنطونيو غرامشي" المجتمع المدني، ليس بكونه حيزا عاما برجوازيا يزخر بالصراع، بل أحاله إلى سؤال الهيمنة والصراع على الهيمنة وامتلاك أدواتها، من خلال الفهم الثقافي الاجتماعي لأطوار إنتاج الهيمنة. وعليه يتضح بأن المجتمع المدني كفكرة ومضمون نشأ في رحم الخصوصية الأوروبية وحقبة التقدم "المركنتيلي" من ثم الصناعي ما بين ١٧٥٠-١٨٥٠. وقد جاءت هذه النشأة متأثرة بكلا الثورتين الأمريكية والفرنسية، وما حملته هاتان الثورتان من قيم حول فكرة المواطنة والفرد المواطن في المدينة الحداثية، بما تشتمل من علاقات الانتماء الطوعي الخارجة عن سياق البنى التقليدية العضوية وعن الدولة وأجهزتها كذلك، إضافة لمراعاة الملكية الخاصة وقدسيتها، وما ينتج عنها من مبادئ العقلانية وأسس التفكير والإقتصاد الحُريِن، وكذلك  الحال فيما يتعلق بالتداول "السلمي" للسلطة في الديمقراطيات البرلمانية.

والسؤال؛ هل هناك مجتمع مدني فلسطيني؟

ان القول، أو وجهة النظر التي تشير إلى وجود مجتمع مدني فلسطيني راسخ، تستند في التقييم إلى حقيقة/ظاهرة وجود منظمات مجتمع مدني فلسطينية، أي منظمات أهلية غير حكومية، إلى جانب هيئات العمل المدني الطوعية والنقابات والمؤسسات المعنية بالعمل الأهلي والمدني، إضافة إلى النظر في حيثيات واقع هذا العمل ما قبل قيام جهاز الحكم الإداري تحت مسمى السلطة الفلسطينية . حيث كان لدى م.ت.ف بنية ممأسسة بيروقراطية متمثلة بجيش التحرير ومكاتب التمثيل في غير عاصمةومختلف الاتحادات والمنظمات الجماهيرية العاملة ضمن مظلة المنظمة. وفي سياق موازاة حجم الرمزية الشرعية والسياسية التي تمتعت بها م.ت.ف آنذاك، يمكن مقارنتها للمزية التي تتمتع بها أجهزة الدولة في أي من تجارب استقلال قطر قومي صاحب دولة تعكف على إدارته وشرعية امتلاكها للسلطة بشقيها، ومن هنا يمسي هناك من الشرعية ما يوجب التساؤل حول طابع العمل الأهلي والمجتمع المدني الفلسطيني في ظل جهاز م.ت.ف، الممتلكة للشرعية الرمزية الدولانية، هذا مع التشديد على أن من أبرز ركائز تحديد معالم المجتمع المدني، يكمن في حجم وطابع الاعتراف المتبادل بالشرعية ما بين المجتمع المدني وجهاز الدولة.

أما في حال حصر الجهد التعريفي للمجتمع المدني، ضمن السياق الفلسطيني، على أنه تلك السلسلة أو المجموعة من المؤسسات غير الحكومية والأهلية والنقابية بما يتضمن ذلك القطاعات المهنية وقطاعات العمل النسوي من اتحادات وجمعيات، بالإضافة إلى البنى الحزبية السياسية، والتشكيلات الجماهيرية من حولها؛ هنا يمكن القول بوجود مجتمع مدني، في المقابل هناك وجوب لا مفر منه لمساءلة واقع الاقتصاد السياسي والعلاقة مع الدولة أو مصدر السلطة والتشريع لهذه البنى المشار إليها.

وفي هذا الصدد يدور التساؤل حول طابع وجود مجتمع مدني فلسطيني أو مجتمع مدني فلسطيني بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي السياسي المكتمل للمجتمع المدني كصيغة تجريدية. وبالتالي، بما أن المجتمع المدني في تأصيله النظري، ما هو أساساً إلا فكرة وممارسة سياسيتان، وكذلك من الحاجات المبدئية لوجود مجتمع مدني هو وجود مدينة أو "المدينة" بمعناها الحداثي المعاصر للقرنين العشرين والواحد وعشرين. وهذا ما يحيل إلى ضرورة توافر شرط المواطنة والمواطنين الأفراد في "المدينة". فنواجه حقيقة انعدام وجود لدولة فلسطينية أو كيانية مدينية يمكن التعويل على فضائها المواطني، حتى في نموذج خلق أو إختلاق المدينة كمستعمرة ما بعد المستعمرة في عاصمة السلطة الفلسطينية "رام الله" التي لم تنعتق من ظل السياق الاستعماري المستمر. فالحديث حول وجود مجتمع مدني والإصرار على إثبات هذا الوجود ينبع أساساً من شكل ساحة الوعي والتصورات والتمنيات الطوباوية، أي المشروع المصلحي والأيدلوجي.

هذا، وبالإضافة الضرورية حول سؤال "الحاجة/الضرورة الفلسطينية"!!، بمعنى ما الذي يتربع على سلم الأولوية فلسطينياً، أم أن الحاجة الفلسطينية أقرب إلى جدل المجتمع المدني من إشكالية حسم الصراع فيما يتعلق بالتحرر الوطني وتقرير المصير، على الرغم من ضرورة الجدل حول المجتمع المدني، ولكن ليس بالضرورة أسبقيته. مع الحث على انعدام الإمكانية للفصل ما بين مفردات التحرر وتقرير المصير والمجتمع مدني، والربط مع سؤال الديمقراطية والدمقرطة والهوية الوطنية والقومية وإشكالية الجرح العلماني العربي وليس فقط الفلسطيني. وبالخوض في غمار المجتمع المدني، تطفو إشكالية تفاعل وتناقض العناصر والبنى الحداثية وغير الحداثية. إلى جانب معنى الدولة والتطور الدولاني ضمن السياق الفلسطيني، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الاتفاق الفلسطيني حول ماهية مشروع الدولة الفلسطينية واختلاف الأطروحات في هذا الاتجاه.

سياق الهمينة في المجتمع المدني الفلسطيني!

ان شكل الهيمنة السياسية في الحقل السياسي الفلسطيني ما بعد بناء السلطة الفلسطينية قد تحولت وتداخلت مع طابع الهيمنة الاستعمارية التي يمثلها المشروع الصهيوني في فلسطين. حيث نشأت تركيبة الهيمنة المكملة للعنصر الاستعماري المهيمن أساساً، بشكلها المعروف اليوم، هذا بالترافق مع نشوء شكل جديد للكيانية السياسية الفلسطينية إرتكز إلى القوى والأجهزة "الأمنية" الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كآليات تفعيل الهيمنة في جانب، والى الامساك بمجرى المال في جانب مكمل.

إضافة للإرتكاز على القاعدة الجماهيرية الاجتماعية والتاريخ النضالي لحركة فتح و م.ت.ف وما تمثلان من أبعاد رمزية في الوعي الفلسطيني، مع التنبه للاستيعاب التفريغي لكوادر الحركة الوطنية وانتفاضة 87 ضمن حراك المؤسسات غير الحكومية الممولة. بالتوازي مع مدى قدرة السلطة على احتواء المعارضة السياسية والتيارات اليسارية الفلسطينية وما رحم ربي من مثقفين ومنخرطين في مجال الثقافة، وإرتباط هذا الجانب ببراعة التعاطي مع مفردات القوة الناعمة من قبل السلطة الفلسطينية. وليس مخفياً شكل الإستغلال القائم في توزيع وتقسيم كعكة الثروات والهبات الريعية على المنتفعين من وجود السلطة الفلسطينية والمؤسسات غير الحكومية كذلك، ضمن منطق تقديم الحسنات والصدقات، وليس بمعنى توفير الخدمات وإحترام الحقوق. كذلك لا يمكن اغفال حقيقة السيطرة على صراع الهيمنة في قطاع واسع من مؤسسات العمل المدني والأهلي، إضافة إلى إنتاج وتكرار إعادة إنتاج خطاب وحدوي فلسطيني، أو تناول ضرورات الوحدة ومنافعها ضمن مجمل الخطاب، والإستفادة من البعد الوطني في الخطاب في ظل إستمرارية الصراع مع البنية الإستعمارية الإسرائيلية كمبرر لمحطات وممارسات عدة قامت بها السلطة بشقيها ورأسيها خلال فترة وجودها. حيث يمكن القول بحجم  دور هذه العوامل في تقديم صورة المجتمع المدني الفلسطيني ضمن ما تمارسه من تأثير في رسم واقع عمل ونفاذ تأثير "المجتمع المدني الفلسطيني". اذن؛ أين موقع المجتمع المدني في التجربة الفلسطينية كوسيط بين التشكيلات المكونة للدولة والمجتمع في ظل شكل الهمينة المفروضة على أدواته، سواء من ناحية علاقة هذه الأدوات ب م. ت. ف أو السلطة الفلسطينية لاحقاً، أو ارتكازها إلى المال التنموي الغربي في ناحية أخرى؟

واذا ما تم النظر للسياق الأوسع للقول بالمجتمع المدني الفلسطيني، من الأساسي توجيه النظر عبر عدسة أزمة تفاعل المجتمع المدني الإصطلاحي والممارساتي عربياً، فهذه الأزمة ليست ذات طابع خصوصي فلسطيني، بل إن غياب المجتمع المدني عربياً، يمثل الخلفية الأوسع لأزمة المجتمع المدني فلسطينياًـ إذا ما اضيفت لتراكبية الإستعمار والتمويل الغربي، وهي مجدداً ترتبط بشكل جوهري بغياب المواطنة والأنظمة التي تعبر عن إرادة الجماهير، حتى في الأقطار التي شهدت تحولات "الربيع العربي". كما أن الأهم من ذلك هو غياب الحياة الديمقراطية وممارستها، وهذا ما يحيل بل ويكشف مدى عمق إرتباط تطور المجتمع المدني بمعيقاته، أي حالة أو حالات غياب المساواة والعدالة الإجتماعية. خاصة أن هذا الغياب ينبع من الإشكال البنيوي المتعلق بطابع المرحلة شبه الانتقالية النسبية في المنطقة العربية، التي لم تشهد أي تحول على شكل ونمط بنية الانتاج وعلاقاته، بل احتفظت بالشكل الريعي المعلول على دوائر التبعية المتفاوتة للمركز الرأسمالي العابر للقوميات والقارات. هذا مع حسبان الموقع العربي من البنى التقليدية، والتي لا زال محكوماً بطابعها الأكثر عضوية إثنياً وثيولوجياً، وبحسب شارل عبادي: فإن عطب الديمقراطية مرتبط مركزياً بتجربة تاريخية أكثر من كونه مرتبط بالثقافة.

اذن، وبالنظر إلى جملة المتغيرات والمؤثرات التي عرضنا لها، يمكن الإدعاء أن المجتمع المدني الفلسطيني كتجريد اصطلاحي غير ناجز، وهذا انعكاس لعدم اختمار نضجه في حقل الممارسة والهوية، وعدم جاهزية اقتصاد سياسي له، يهيمن عليه هو لا مموليه؛ إلى جانب عدم توافر الشروط الأساسية لاعتبار وجود مجتمع مدني، كما يظهر أعلاه. كما لا يمكن فصله عن السياق الاستعماري القائم، بل يمكن اعتباره ساحة تكثيف للتناقضات الاستعمارية والطبقية، اذ يتعلق بشكل علاقات التبعية والبنى الاقتصادية الريعية، وما تنعكس فيه أجندات وأشكال تمويل هذا القطاع، اضافة الى غياب الممارسة الديمقراطية وإخفاء هذا الغياب بالخطابة