بقلم: وسام الرفيدي*

مقدمة

لم يحظَ مفهومان/شعاران، منذ ما يزيد على العام، بالهيمنة والتسيد على الخطاب السياسي العربي المعلن قدر شعاري الدولة الدينية والدولة المدنية. وواضح من سياق طرح الشعارين انهما يوضعان في مواجهة بعضهما البعض، كتعبير عن التناقض السياسي/الأيديولوجي بين التيارين الإسلامي على تنويعاته، والعلماني، وأيضا على تنويعاته، وأكثر من ذلك: تعبيرا عن القضية الجوهرية، كما تُصاغ وفق التناقض بين الشعارين، للحركة الشعبية العربية المنطلقة منذ نهاية 2010 في تونس، والمسماة تجاوزا بالربيع العربي!

الشعاران يحيلان على شكل النظام السياسي، وحصرا على التشريعات التي ينهض عليها هذا النظام، ومن خلفه الدولة، أي فيما إذا كان التشريع دينيا أم مدنيا. وهنا بطبيعة الحال لا يدور النقاش كما يبدو بوضوح حول الطبيعة الطبقية للدولة بقدر ما يدور حول شكل النظام السياسي. كيلا يوضع سؤال ماهية التشريع في غير سياقه، نسارع للقول انه ليس في هذا أي تقليل من أهمية شكل النظام، فمرجعية التشريع تُلقي بظلالها على الحياة الاجتماعية والسياسية والدستور والنظام القانوني والحريات والتعددية، وبالتالي هي لا شك مسألة هامة وأساسية، ولكن ليست، كما نسعى للتبيان. المسألة الجوهرية هنا، لا كما نتخيلها، بل كما طرحتها الجماهير المنتفضة في الميادين لحظة نزولها للشارع، وكما يتطلبه، حسب وجهة نظرنا، إحداث التغيير الجذري في حياة الناس المنتفضين.

تسعى هذه المقالة لتبيان الظروف السياسية المتعلقة بموازين القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة، الداخلية والخارجية، والتي حصرت النطاق المعلن للحركة الشعبية في هذا النطاق، نعني نطاق الشعارين. وتاليا، نسعى لإظهار ان حصر الخطاب هذا في نطاق هذين الشعارين إنما لم يكن دون توجه مسبق من التيارات الأساسية الفاعلة في الحركة، ليس فقط لحصر الخطاب في هذا النطاق بقدر ما يتضمن أيضا إخراج ما ينبغي إخراجه من هذا النطاق، لاعتبارات طبقية اساساً. وأخيراً سيتمكن التحليل من الوقوف على مسؤولية القوى الغائبة، كثقل وكقيادة، عن هذا الإنحراف عن المطالب/الشعارات الأساسية للحركة منذ إنطلاقتها، وبالتالي عن تحول (الربيع العربي) إلى خريف للهيمنة الإسلامية المتحالفة مع حكام الخليج والإمبريالية والدور العثماني المعاصر.

في القوى والتيارات السياسية الفاعلة

غلب الطابع الشبابي على الحراك في أيامه الأولى مستخدما تلك التقنيات التواصلية المعولمة والتي أتاحت، بذكاء وفطنة الشباب المتعلم، والمتحدر من أوساط الفئات الوسطى، ممكنات حشد هذا الكم الهائل من المنتفضين في الساحات. هنا يمكن اعتبار الحالة المصرية نموذجية. فحسب محمد حسنين هيكل، فقد تجمع ما ينوف عن 70 ألف شاب عبر الصفحات تلك عند التحضير لتظاهرة 25 يناير، ويمكن الاستدلال بتفاصيل كثيرة حول تلك الحقيقة من كتاب مجدي غنيم، احد أبرز نشطاء الشباب حينذاك.

لقد لعبت تلك الصفحات دورا أساسيا باعتبارها آليات للتواصل والتنظيم وإدارة تفاصيل متعلقة بحشد القوى وإختبار سلوك الخصم...الخ، الأمر الذي مكن، امام دهشة بل ورفض القوى السياسية التقليدية، من إطلاق شرارة حركة شعبية عامة وواسعة النطاق. والوقائع كثيرة تلك التي تدعم رفض القوى للحراك في بداياته، وتحديدا يوم 25 يناير: فاليسار المصري الكلاسيكي الممثل بالتجمع التقدمي رد على الدعوة بأن 25 يناير عيد وطني للشرطة فلا يعقل أخلاقيا وسياسيا التظاهر ضد سلوك الشرطة في يومهم الوطني مذكرا، باعتبار الجيل الشاب صغير وغافل عن التاريخ! وبان يوم 25 يناير هو ذكرى انتفاضة الشرطة ضد الإحتلال الإنجليزي! كان موقف اليسار السلطوي هذا تذكيرا آخر للمدايات التي يمكن أن يذهب لها يسار ارتهن في سلوكه في حدود شرعية النظام ذاته دون أن يجرأ على الخروج عنها.

أما الإخوان المسلمون، وكما عبر شبابهم مرات فكان موقفهم: لا نتبنى الدعوة رسميا ولا نشارك كجماعة ونترك لشباب الجماعة حرية المشاركة من عدمها. كان واضحا السلوك الإنتظاري، الإنتهازي: إن نجحت الحركة فشبابنا هناك ونسارع للقفز كجماعة رسميا! وإن فشلت فبالنهاية نحن لم نتبناها رسمياً. مرة أخرى: مَنْ القائل أن الإسلاميين لا يتميزون ببراغماتية عالية كما الليبراليين؟

لهذا السبب، ولما سبق تقديمه من طغيان الطابع الشبابي ابتعدت التحليلات السياسية سريعا في تقدير طابع الحركة وقواها فأكدت غياب القوى تماما، بل تأكد عدم الحاجة لها أصلاً، وجرى النفخ في أهمية الفيس بوك وتويتر ليغدوان بديلا للحزب السياسي! إن تلك التحليلات المنفلتة من عقال الصحافة والموضوعية لم تنتبه، أو أهملت عامدة المعطيات التالية:

1-    ليس الشباب المحركون للحدث الأولي 25 يناير خارج إطار التنويعات السياسية والفكرية المصرية، فهم إما متحزبون أو منحازون حزبيا، أو ببساطة تشكل وعيهم السياسي في العلاقة مع تلك التنويعات. لقد أسهبت التقارير الصحفية التي تناولت أبرز النشطاء وخلفياتهم، الإسلامية والشيوعية واليسارية والقومية والليبرالية. إن انتشار لقب (شباب كذا) يؤشر لذات المعطى: فهناك شباب الإخوان وهناك شباب التجمع وشباب الوفد وشباب 6 إبريل... والعديد العديد من المجموعات اليسارية الصغيرة.

2-    لم تدم قيادة الشباب للحدث سوى بضعة أيام، إذ تدخلت بعدها القوى السياسية بثقل وخاصة الإخوان، خاصة بعد الدعوة الناجحة للنزول إلى ميادين المحافظات وعدم الاقتصار على ميدان التحرير في القاهرة. سلسلة من التحركات السياسية بدأت حينذاك أوضحت أن الشباب المنتفض والمنظم بات في خلف الصورة وعلى الأقل يجري الإلتفاف عليه. صحيح أن محاولات عديدة للالتفاف لم تنجح ولكنها كانت مؤشرا ان عهد قيادة الشباب للحركة بدأ يولى! فمن إجتماع (قيادات القوى) مع عمر سليمان، إلى الموافقة الخجولة على حكومة شفيق الأولى، كان يتضح معطيين: تسعى القوى السياسية الكبيرة، وخاصة الإخوان، لإيجاد معادلة وسطية بين الحركة ونظام مبارك، تأكدت بعد ذلك في صفقة تشكيل لجنة الدستور، بممثل واحد من القوى السياسية هو ممثل الإخوان، وإعلان الإخوان عدم ترشيح مرشح عنهم للرئاسة، والمعطى الثاني عزل الحركة الشبابية وشعاراتها التي باتت تنظم العديد من المطالب الجزئية (54 مطلبا) بعضها يتوشح بملامح طبقية: حد أدنى للأجور، تأميم القطاعات الاقتصادية الأساسية، ووقف بيع ما تبقى من القطاع العام.

3-    أما دور شبكات التواصل الإجتماعي فقد لعبت وبحق دورا تعبويا وإداريا/ تنظيميا هائلا ولكن هل بلغ ذلك إلى مدى يمكن الإستنتاج بأنها باتت بديلا لدور الحزب السياسي ووسائل التعبئة الأخرى؟ ينبغي التنويه هنا أنه وبعد أن إمتدت المليونيات لتتجاوز حدود ميدان التحرير توقفت شبكات التواصل تلك عن لعب الدور الأساسي، فالملايين من العمال والفلاحين الذين تجمعوا في الميادين من أسوان وأسيوط حتى الإسكندرية لا تتمتع بترف التواصل التقني الذي تمتلكه الفئات الوسطى، وهنا يمكن النظر للدور الذي لعبته الفضائيات مثلا، والجزيرة تحديدا، في توحيد المواعيد والشعارات والهتافات عبر البث المباشر الأمر الذي يفسر إجراءات نظام مبارك ضد شبكة الإنترنت (القطع لأربع وعشرون ساعة) وإغلاق مكتب الجزيرة واتخاذ خطوات ضد مراسليها.

وعليه، يمكن الاستنتاج أن الدور الريادي للشباب في اطلاق الحركة سرعان ما إنتزعته القوى المختلفة، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين بعد شعورها بأن الأمور ليست فقط تظاهرات ضد سلوك الشرطة القمعي بل ضد النظام كنظام، وبالتالي يمكن القول بأنها التقطت سريعا المتغير ونجحت باقتناصه لأجندات سنأتي على ذكرها.

فرض الشباب في الميدان الشعارين الأساسيين (إسقاط النظام وشعار إرحل)، كشعارين أساسيين ناظمين للحركة وموجهين أساسا، كما بدا من مزاج المنتفضين، ضد شخص الرئيس المخلوع أكثر من تركيبة نظامه وجهاز دولته. عند هذه النقطة بالذات يمكن الحديث عن محدودية الوعي السياسي الموجه للشباب من جهة وعن قدرة الإخوان، والنظام نفسه وخلفائه، من إيجاد الطريق الممهدة لحصر الثورة في نطاق محدد هو بالحقيقة نقطة إلتقاء أطراف عدة فاعلة: إسلاميين وليبراليين وأوروبيين وامريكيين وقطريين وأتراك.

فإذا كان الشعار إسقاط النظام لا إسقاط دولة التبعية، وترحيل مبارك لا ترحيل كل البنية الاجتماعية/الاقتصادية لنظام مبارك، فحينها نكون أمام تغيير في شكل النظام الرأسمالي التابع لا في جوهر النظام التابع المرتبط بالرأسمال العالمي، تغيير باتت تتطلبه ليس فقط ضرورات إمتصاص غضب الشارع من تأثيرات سياسة التبعية، بل وأيضا للحفاظ على جوهر علاقات التبعية، السبب الرئيس في تردي الوضع الإقتصادي والإجتماعي في مصر.

ليس لدى الإمبرياليين، كما اتضح من اليوم الأول، من مشكلة مع المنتفضين سوى قضيتين جوهريتين: الحفاظ على الإستثمارات الأجنبية من جهة، وعدم المس بالاتفاقيات الموقعة مع الكيان الصهيوني من جهة أخرى. وما عدا ذلك، يعد نوافل لا قيمة لها ويمكن استخدامها من باب التغطية وركوب الموجه من نوع الحديث عن الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان. فرأس المال الأمريكي ومن خلفه العالمي، لا يعنيه ملابس النساء في الشارع، ولا حقوق الفئات المهمشة، ولا الديمقراطية السياسية والتعددية؛ بقدر ما تعنيه مصالحه السياسية والاقتصادية في المنطقة. ويمكن اعتبار التحالف الاستراتيجي بين الرأس مال العالمي وأنظمة الخليج، مثالا صارخا على تلك السياسة من موقع تبعية الثاني للأول بالتأكيد! وعليه فما تباكي الرئيس الخائن لبشرته، أوباما، على الديموقراطية، ولا داعية تحديد النسل في العالم الثالث، كلينتون حول حرية المرأة، سوى فذلكات ذكية إعلاميا، نجحت بلا شك في حشد قوى أساسية خلفها!

نقطة الإلتقاء بين الليبراليين والإسلاميين

كل الضجيج الفكري حول الصراع بين العلمانية والدين، بين الدولة المدنية والدولة الدينية أخفى حقيقة التلاقي الطبقي بين شعاري الدولة المدنية والدولة الدينية، وطرح مسألة (الربيع العربي) وكأنها منذ البداية تدور هنا بالذات، وفي ذلك مغالطة! نقول (الضجيج) ونعني به تحديدا تعمد تركيز الصراع هنا بالذات إن كان من جهة الإسلاميين أو العلمانيين دون أن يعني هذا تقليلا من أهمية الفارق قطعا بين العلمانية كنظام سياسي وبين الدولة الدينية أيضا كنظام سياسي.

لماذا انتفضت الجماهير العربية؟ على سذاجة هذا السؤال لكنه يعيدنا للبدايات وذلك غاية في الأهمية الآن بالذات. من الزاوية الرمزية فحسب، وتلك لها دلالاتها، فمحمد بو عزيزي عندما أحرق نفسه لم يكن محركه معاداة (العلمانية) المزعومة لبن علي، بل احتجاجا على وضعه الاقتصادي كخريج جامعي لم يجد سوى بسطة للبيع في الشارع ومع ذلك سحبتها البلدية منه! أما محركو يوم 25 يناير فلم يكن في حساباتهم إسلامية أو علمانية الدستور مثلا، ولا مكانة الأزهر ودوره في التشريع القانوني للأحكام؛ بل سلوك الشرطة وأمن الدولة الهمجي ضد النشطاء السياسيين وحالات التعذيب وتزوير الإنتخابات، ولاحقا بلوروا شعاراتهم بشعار تكرر كثيرا (حرية، عدالة، وكرامة وطنية)، قبل أن يتبلور في شعاري (إسقاط النظام ورحيل مبارك). وبالتالي، لم تكن حسابات العلمنة والدين مطروحة، اللهم في زاوية واحدة هامة: الحريات السياسية وتلك قضية تحايل على العلمانية ولكنها لا تفسر كل ما يحمله شعار (حرية، عدالة، وكرامة وطنية)، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة إغفال الخطابين الإسلامي والليبرالي عنها بتصميم: عرفت مصر طوال العام 2010 أكثر من 450 إضراب وإعتصام وإحتجاج عمالي، وقبل ذلك نشأت حركة 6 إبريل أصلا على قاعدة دعم الإضراب العمالي. فالحركة الشعبية السابقة ل 25 يناير كانت تجمع أساسا بين مطالب طبقية للعمال ومطالب سياسية بالحريات والحقوق، أي بين المطالب الديموقراطية والمطالب الطبقية.

هنا تحديدا كان الإلتقاء بين التيارين الليبرالي والإسلامي؛ تحديدا في إسقاط المحتوى الطبقي للحركة وحشره في إطار علمانية أو دينية الدولة. وسواء كانت الدولة علمانية، ككل العامل الرأسمالي في المركز، أو دينية كالسعودية مثلا، فالنظام الإقتصادي ذاته: مركز رأسمالي متحرك في الأول، ونظام رأسمالي تابع في المحيط، السعودية هنا نموذجا. فمسألة مرجعية التشريع، المسألة الجوهرية في النظام العلماني، لا تطرح المسألة الطبقية أصلاً، فهي بالإستناد لميزان القوى الطبقية وللهيمنة الإقتصادية لرأس المال تضمن أن التشريعات، بعلمانيتها، لن تمس حق الملكية المقدس!

كل معطيات المواقف والتحركات بعد سقوط مبارك أكدت هذا. من أول إجتماع عقده الإخوان المسلمون في مصر مع المستثمرين الأجانب لطمأنتهم حول إستثماراتهم، إلى اول لقاء عقده الغنوشي في الخارج مع اللوبي الصهيوني في أمريكا ( منظمة الإيباك)، وإعلان الإخوان في مصر إحترام الإتفاقات الموقعة مع الصهاينة، وصولا إلى إستجلاب الإستثمارات القطرية والسعودية لمصر وتوقيع اتفاقية القرض مع البنك الدولي تحت شعار (الضرورات تبيح المحظورات- ولنقرأ الدولارات تبيح المحظورات)؛ كل ذلك كان يصب في مجريين ليس مع الليبراليين مشكلة فيهما، ومن الخلف ليس مع الأمريكان والصهاينة أيضا مشكلة معهما: الاول، الحفاظ على بنية وآليات وأداء النظام الرأسمالي التابع، والثاني الحفاظ على اتفاقات كامب ديفيد! هنا بالذات إلتقى الليبراليون والإسلاميون في المنطقة، كما يلتقون اليوم في ما يسمى بالمعارضة المسلحة: ليبراليو حلف الناتو مع السعودية وقطر وسلفيو القاعدة، فالعرعور ليس من مشكلة عنده بالتحالف مع برهان غليون! كما ليس من مشكلة لدى مرسي أن يأخذ معه للصين المئات من راسماليي النظام المباركي لتوقيع الإتفاقات التجارية، فالحديث يدور عن أكثر من 400 رأسمالي من أصل 700 رافقوا مرسي للصين!

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الإندراج المعلن، على الأقل كما عبر عنه مرسي في السعودية بحديثه عن حماية الإسلام الوسطي السني! وفي كيل المديح للخلفاء الراشدين في عقر دار الشيعة في إيران، نقول الإندراج المعلن في خطة أمريكية- إسلامية سنية لمحاصرة الشيعة  (إيران/ وسوريا وحزب الله)، إذا أخذنا ذلك بعين الإعتبار يمكن فهم ذلك التحالف الليبرالي الإسلامي المدعوم أمريكيا والمتجاوز لحدود بلد واحد ليطال المنطقة ككل!

الدولة الوطنية الديموقراطية

رغم طرح مطالب طبقية من هنا وهناك؛ إلا أنها لم ترتقِ لمستوى الموجه لحركة الشارع. مرة أخرى تتأكد المقولة اللينينية: دون حامل حزبي لا قيمة للبرنامج السياسي! ففي مصر وتونس تكرر هنا وهناك دعوات لفتح الطريق أمام مسار أعمق وأكثر جذرية للثورة يتجاوز حدود النقاش المفتعل (الصراع الإسلامي الليبرالي حول مدنية الدولة ودينيتها)؛ يتجاوزه باتجاه نظام ديموقراطي شعبي، ديموقراطي معاد للإمبريالية والصهيونية ويبتغي بناء اقتصاد وطني مستقل يفتح الطريق لتطبيقات إشتراكية، وهذا يتطلب ليس فقط تغييراً ديكورياً في رأس النظام، ولا إسقاط النظام فحسب؛ بل تغييرا في جهاز الدولة ذاته.

في تونس يبرز هنا دور حزب العمال الشيوعي باعتباره الفصيل الأبرز والأقوى بين فصائل اليسار والقوى القومية، ولكنه الأضعف على المستوى الوطني، لذلك فإن شعاراته حول لجان شعبية ثورية كبديل لجهاز الدولة البرجوازي لم تتحول لقوة مادية تؤثر في المسار العام للثورة. أما في مصر، فأمام الانتهازية المعلنة والمفرطة لحزب التجمع التقدمي، الفصيل (اليساري) الأبرز في المعارضة (العلنية)، لم يتبق في واقع الحال سوى مجموعات حزبية محدودة التأثير لها بعض النفوذ بين النقابيين والمثقفين من أمثال: الحزب الشيوعي، الحزب الاشتراكي، حزب التحالف الشعبي (وقادته منسحبين من التجمع أصلاً) والإشتراكيين الثوريين (منظمة تروتسكية صغيرة) وغيرها العديد. وبالتالي فإن بعض الشعارات الطبقية التي تكررت هنا وهناك ظلت محصورة في دائرة المهتمين ولم تتحول لقوة في الشارع.

لذلك، يمكن اعتبار هشاشة دور اليسار الجذري في المنطقة العربية إحدى أهم الأسباب التي سمحت بالتالي بسرقة الثورة بعيداً عن مصالح الجماهير الأساسية بالتغيير الجذري للبنية الإجتماعية، وسهلت الطريق بالتالي لقوى إسلامية ولليبراليين المتأمركين لقيادة الشارع، ونجاحها بحرف الشعار الأساس الواجب: دولة وطنية ديموقراطية، واستبداله  بشعار أو بجدل الدولة المدنية والدولة الدينية!

يمتاز شعار/ برنامج الدولة الوطنية الديموقراطية بثلاثة أمور أساسية:

1-    من جهة فهو يطرح مسألة الدولة على بساط البحث بإعتبارها هي المسألة الإساسية في الثورة حسب التعبير اللينيني الصحيح تاريخيا، فلا ثورة حقيقية تعيد تشكيل البنية الإجتماعية والإقتصادية دون تغيير جهاز الدولة من دولة رأسمالية تابعة لدولة تمتلك قرارها الإقتصادي والسياسي وتفتح الطريق للإشتراكية.

2-    ومن جهة ثانية فإن الشعار يتضمن أصلا علمانية الدولة لإعتبار وطنيتها، خارج نطاق التصنيف والتشريع الديني، ويضمن ديموقراطيتها وتعدديتها، وبالأخص ديموقراطية العمال والفلاحين لقيادة التحولات الإجتماعية والاقتصادية. فديمقراطية الدولة الوطنية هنا تستوعب، وتتجاوز التصنيفات الطائفية أو المذهبية أو العرقية وغيرها من التصنيفات التي لا تؤثر في ماهية وجوهر الدولة.

3-    إنه شعار يطرح على طاولة البحث ضرورة اتخاذ موقف قطعي مع التبعية كعلاقة ناظمة بين راس المال المحلي والرأسمال العالمي، تلك العلاقة المتسببة أساساً في تردي الوضع الإقتصادي والإجتماعي وبؤس العمال الفلاحين. فعلاقة التبعية هي ذاتها التي تفتح الطريق على مصراعيه لعملية النهب المحلي للقيمة الزائدة والتي بدورها تتسبب في مزيد من الإفقار والتخلف وفي إدامة التبعية، سواء جاء النهب مستندا لفتاوى التجارة الحلال أو جاء مستندا لآخر الصيحات في نظريات السوق الرأسمالية.

--------------------

*وسام الرفيدي: باحث ومحاضر جامعي فلسطيني.