بقلم: ضياء أيوب*

لعب النظام السوري دوراً أخذ في التزايد منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي في مختلف مراحل النضال الوطني الفلسطيني، والثورة الفلسطينية المعاصرة، إذ عزز هذا الدور الموقع الجيوسياسي لدمشق على خارطة الصراع العربي الإسرائيلي، والخطوط القومية العامة التي رسمها حزب البعث الحاكم لسياسة البلاد الخارجية من جهة أخرى. وكان لوجود أتباع لهذا الخط السياسي ضمن فصائل العمل الوطني الفلسطيني، على اختلاف المراحل والمنابع، أثراً كبيراً في محاولة فرض وجهة النظام الحاكم في دمشق على قيادة م.ت.ف. وتحريكها بما يتفق ورؤيتها للأساليب والاستراتيجيات الواجب إتباعها في إدارة دفة الصراع.

والحقيقة أن فلسطين لم تكن غائبة رسمياً ومنذ اللحظات الأولى عن مشهد الحراك الشعبي السوري، الذي تحول لاحقاً إلى اضطرابات واسعة لا يتردد العديد من المحللين في وصفها بـ "الحرب الأهلية". ففي حين كانت فلسطين حاضرة في النسبة الساحقة من الأحاديث والتصريحات الصحفية لمسؤولي النظام منذ بداية الأزمة السورية، باعتبار أن ما حصل ويحصل على أرض سورية كان دوماً يهدف إلى إسقاط نظام المواجهة والممانعة الأخير ضد المشروع الصهيوني في المنطقة، والانخراط الكامل في المشاريع الاستسلامية التي تعدها الإدارة الأميركية للمنطقة، كانت المعارضة السورية تتهم النظام باستخدام القضية الفلسطينية، وأطروحة الممانعة والمقاومة لإدامة فرض قبضته الأمنية على الشعب، وقتل أي نوع من أنواع الحياة المدنية التي يمكن أن تنشأ في البلاد.

الفلسطينيون والحراك الشعبي

إن المواقف الفلسطينية الرسمية والشعبية المؤيدة أو المعارضة للنظام في سورية ما كانت لتحصل على الضجيج الإعلامي الذي حظيت به خلال عام ونصف من عمر الأزمة المتفجرة على أرض سورية، لولا العامل الديمغرافي المتمثل بوجود 581,000 لاجئ فلسطيني على أرض سوريةـ وهذا الرقم حسب آخر الإحصائيات لعدد الفلسطينيين في سورية-موزعين داخل 10 مخيمات، وفي عدد من التجمعات داخل المدن السورية الرئيسية.

إن واقع الحال يقول إن الفلسطينيين في سورية، ومهما حاولوا النأي بأنفسهم عما يدور على أرضها من صراعات وتجاذبات باعتبار أن قضيتهم الوطنية أولى بهم، ومن منطلق رفض التوطين والانصهار في المجتمع المضيف، فإن للجغرافيا والتاريخ الطويل الممتد 64 عاما من العيش على أرض سورية، ونوع العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الناشئة عن طول المقام في أرض سورية، عوامل كانت ستجر الفلسطينيين إلى لب الصراع المحتدم على الأرض، إن بطرق مباشرة أو غير مباشرة. هذا بغض النظر عن مواقف الطرفين في الحكومة والمعارضة على حد سواء، والتي سعت إلى جر الفلسطينيين، ومنذ البداية إلى موقف واحد وصريح مما يحصل في سورية، فإما (مع)، وإما (ضد).

النظام والفلسطينيون في سورية

إن الحديث عن المعاملة الخاصة للاجئين الفلسطينيين في سورية، وتميزها عن المعاملة التي يلقاها اللاجئ الفلسطيني في بلدان عربية أخرى، مع استثناء حالة الأردن ـ كانت تعني في المستوى العملي حصول اللاجئين الفلسطينيين من أبناء موجة اللجوء الأولى عام 1948،[1]على حقوق مساوية للمواطنين السوريين، باستثناء حقوق الترشح والانتخاب، والعمل في المراكز الحكومية الرسمية العليا. إلا أن الامتيازات التي كانوا يحصلون عليها فيما يخص حقهم في التظاهر في المناسبات الوطنية الفلسطينية، واحتفال الفصائل الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها بذكرى انطلاقتها سرعان ما حجبت عنهم مع تقدم الحراك في عمره الزمني، واتساع نطاق الأزمة الداخلية. فألغيت جميع الموافقات لأي تجمع سياسي فلسطيني اعتباراً من حادثة يوم النكسة في 6/6/2011.[2]

منذ الأسابيع الأولى للحراك الشعبي في درعا، ومع انتقالها إلى مناطق أخرى متفرقة، ـ ومحدودة في ذلك الحين، اتهم النظام، عبر مستشارة الرئيس لشؤون الإعلام بثينة شعبان عبر صحيفة الوطن شبه الرسمية، الفلسطينيين بافتعال أعمال شغب.  كما في مخيم درعا، واستخدام السلاح في أعمال القنص كما في حالة مخيم الرمل باللاذقية. هذا الأمر أثار امتعاضاً على المستوى الشعبي في صفوف اللاجئين الفلسطينيين، واعتبار الاتهامات تنصب دوماً، وفي أي بلد عربي عند وقوع أي اضطراب داخلي ضد الفلسطينيين باعتبارهم الحلقة الأضعف، فيما رفضت الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها الجبهة الشعبية- القيادة العامة،  تصريحات شعبان في حينه على لسان أمينها العام أحمد جبريل. ومن جهة أخرى، أكد النظام على تحالفه مع قوى المقاومة في الساحة الفلسطينية التي مثلت حركة حماس حتى المراحل الأولى من عمر الأزمةـ إضافة إلى باقي قوى "تحالف الفصائل (القريبة من الخط السياسي للنظام في دمشق، أي محورها).[3]

المعارضة والفلسطينيون في سورية

حاولت المعارضة السورية، ومنذ البداية نفي تهمة النظام عنها بـ(العمالة، واعتبارها يداً للمشروع الصهيوني في سورية يحاول إسقاط محور المقاومة، والممانعة)، فأكدت على محورية القضية الفلسطينية في تطلعاتها السياسية ما بعد سقوط النظام، واتهمت النظام بالوقت عينه باضطهاد الفلسطينيين واستخدامهم، معتبرةً أن المقاومة التي يعلنها النظام هي مقاومة لفظية للاستهلاك الداخلي ليس إلا. غير أن ذلك لم يكن ليمنع بأي حال من الأحوال من أن تتخذ أطراف تم تعريفها على أنها "متشددة" مواقف عدائية في بعض الأحيان من اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وأن تذهب باتهامها الفلسطينيين على أنهم "عملاء للنظام". إضافة لاتهامهم بالمشاركة الفردية ًأو عبر  التنظيمات بعمليات "التشبيح ضد المتظاهرين السلميين"ـ فاتهمت القيادة العامة، وحركة حماس بشكل أقل بممارسة القمع ضد المتظاهرين في مراحل سابقة، كما تشير الاتهامات إلى أن هذه الأطراف قد توعدت المتظاهرين بالحساب.

والحقيقة أن تعاطف صف شعبي واسع من اللاجئين الفلسطينيين مع المطالب الشعبية، التي اعترف حتى النظام بأحقية الكثير منها، لم يتم ترجمته إلى انخراط في صفوف الحراك الشعبي، انطلاقاً من التخوف السائد من نوايا المعارضة السورية تجاه اللاجئين الفلسطينيين في سورية. وإن ذهب ولا يزال بعض اللاجئين الفلسطينيين إلى الاعتقاد أن الحسم لأي طرف من طرفي الأزمة السورية سينتهي غالباً بانتقام من الفلسطينيين. بيد أن آراء أخرى، وإن بنسبة قليلة، تغالي في مخاوفها من حسم المعارضة، معتبرة أنها ستمارس بحق اللاجئين الفلسطينيين ما مارسته المليشيا الطائفية في العراق ضد الفلسطينيين من تنكيل وقتل وتهجير.

وتذهب هذه الأصوات بشكل عام في البرهان على مخاوفها إلى الموقف الضبابي لقسم ليس بقليل من المعارضة السياسية، والكتائب المسلحة من اللاجئين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية عموماً. يضاف إليها عمليات الاغتيال لضباط جيش التحرير الفلسطيني إلى واجهة الأحداث، وعملية ذبح 16 مجنداً من جيش التحرير الفلسطيني في منطقة ريف إدلب (16/7/2012)، التي تعتبر معقلاً رئيسياً للمعارضة المسلحة أثناء عودتهم في إجازة نهاية الأسبوع إلى مخيم حندرات في حلب. كل ذلك في وقت تتهم الحكومة المعارضة المسلحة "الجيش الحر" بتنفيذ هذه الأعمال، ونفي كتائب الجيش الحر لأي مسؤولية عن هذه الأعمال، وتحميل النظام المسؤولية في محاولة لـ"فك الوحدة الفلسطينية-السورية، وإحداث الفتنة".

المواقف الرسمية الفلسطينية

يمكن القول بأن اختلاف المواقف الرسمية للفصائل الفلسطينية، ورغم تعبيرها بشكلها الظاهري عن حالة الانقسام التي تعيشها الساحة الفلسطينية، فإنها وبشكل آخر تجسيد للاختلاف والانقسام الذي تعيشه الساحة السورية أيضاً. ففي حين تأخذ السلطة الوطنية الفلسطينية موقفاً واضحاً منحازاً للحراك الشعبي الذي تحول بشكل أكبر إلى مسلح لاحقاًـ عبر مؤسسات جامعة الدول العربية، وتصويتها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة نهاية العام الماضي لمصلحة قرار يدين النظام السوري، ويطالبه بوقف القمع، وإفساح المجال لعملية الإصلاح التي يطالب بها الشعب السوري، فإن مواقف فصائل م.ت.ف، التي تتخذ من دمشق مقراً لها، أخذت شكلاً حيادياً من الصراع الدائر، وطالبت في بيانات عدة الشعب الفلسطيني في سورية "عدم فقدان البوصلة" على اعتبار أن القضية الوطنية هي     "وجهة نضالنا"، وفي حين تقلب موقف حماس من مؤيد للنظام إلى محايد  أو معادٍ في بعض الأحيان  له في مراحل لاحقة لانتقال قيادات الصف الأول والثاني إلى خارج سورية. بقيت الجبهة الشعبية القيادة العامة، تمثل الحليف التاريخي للنظام، كما هو الحال مع تنظيم الصاعقة ذو الوجهة السياسية البعثية.

مخيم اليرموك... النقطة الفارقة

لم يكن قصف منطقة الرمل ومخيمها، ومخيم "الطوارئ" في درعا، ووقوع مخيمات حمص وحماة في أوقات أخرى على خط النار ليشكل فارقاً كبيراً في الموقف الشعبي والسياسي الفلسطيني، أو مواقف النظام والمعارضة منهم بأي حال من الأحوال. لكن دخول مخيم اليرموك باعتباره "العاصمة السياسية" للاجئين الفلسطينيين في سورية على خط الاحتجاجات يوم 14 تموز (يوليو) 2012، في جنازة رمزية للشهداء الفلسطينيين الـ 7 الذين سقطوا قبل ذلك بيوم في المظاهرات التي شهدتها منطقة دوار فلسطين الواصلة بين منطقة مخيم اليرموك والتضامن ويلدا، كان لها الكلمة الفصل، في اعتبار أن الموقف الشعبي الفلسطيني انتقل من الحياد، أو التأييد غير العلني للحراك إلى الموقف العلني المعلن. والواقع أن أكثر من 250 فلسطينياً كانوا قد سقطوا حتى ذلك التاريخ على أرض سورية، مؤيدين ومعارضين على حد سواء. لكن الشهور الأربعة الأخيرة إن اتفقنا على اعتبار يوم 14 تموز (يوليو) علامة فارقة، حملت رقماً يصل إلى أكثر من 300 ضحية جديدة أغلبهم من أبناء مخيم اليرموك.

ولا بد أن التحول الدراماتيكي الأهم كان في الأيام القليلة اللاحقة، والمتمثل في اتخاذ كتائب "الجيش الحر" من المناطق المحيطة بمخيم اليرموك، (التضامن، يلدا، الحجر الأسود، الميدان، القدم) مراكز لها، وخصوصاً بعد اغتيال "خلية الأزمة" التي ينتمي أعضائها إلى الحلقة الضيقة المقربة من الرئيس السوري في (19/7/2012)، أثراً كبيراً في تحول المخيم ساحة خلفية لكثير من المواجهات عسكرياً بين قوات النظام وكتائب الجيش الحر، ومركزاً رئيسياً لاستقبال النازحين من المناطق سابقة الذكر تجاوزوا في عددهم عدد النازحين إلى تركيا منذ بداية الأحداث وحتى الآن.

خاتمة

مع دخول مخيم اليرموك كجغرافيا ساحة المواجهات؛ انتقل وضعه الأمني كأكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سورية إلى وضع بالغ التعقيد والدقة، فمن جهة أعلنت الجبهة الشعبية-القيادة العامة عن تشكيل "لجان شعبية" مسلحة في أحياء المخيم مهمتها حفظ الأمن في المخيم، ومنع "عصابات" الجيش الحر كما صرح أمينها العام أحمد جبريل من العبث بأمن المخيم. في حين تحول التعاطي، ولو لفترة موجزة، مع اللاجئين الفلسطينيين من قبل النظام سياسياً وأمنياً من اعتبارهم حلفاء، إلى "ضيوف يسيئون التصرف" كما عبر عنه الناطق باسم وزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي. في ذات الوقت، انتقلت تصريحات المعارضة من تحذير الفلسطينيين الوقوف إلى جانب النظام، وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي إلى امتداح الفلسطينيين واعتبار أنهم كانوا فاعلين، ومنذ البداية في الحراك الشعبي وتحويل المخيمات قاعدة دعم خلفية للجرحى والنازحين.

كل ذلك مصحوباً بمواقف لم ترق إلى المستوى المطلوب من رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية ومثلها منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم يكن لها ولو موقف واحد واضح تجاه الموقف الضبابي الذي يلف وضع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وسقوط العشرات منهم ضحايا القصف المدفعي الذي يتبادل طرفا الصراع في سورية المسؤولية عنه.

بينما الحال هكذا، فإن كثيراً من الاعتداءات التي حصلت ضد اللاجئين الفلسطينيين اتسمت بالغموض لجهة الفاعل، مع تضارب المواقف بين وتجاه اللاجئين الفلسطينيين في سورية، من قبل مختلف الأطراف الفاعلة على الأرض. هذا إذا لم نتذكر نفي كل طرف مسؤوليته عنها. أما الأرقام فتتحدث عن عمليات نزوح، وهجرة للاجئين الفلسطينيين جماعية في بعض الأحيان، وأرقام تتجاوز البضعة آلاف، في ظل أزمة مفتوحة على الأسوأ.

-------------------------

*ضياء أيوب: صحفي وناشط حقوقي فلسطيني مقيم في دمشق.



[1]يمكن مراجعة العدد (47) من جريدة (حق العودة) ومقال الكاتب «اللاجئون الفلسطينيون في سورية» لمزيد من المعلومات حول موجات اللجوء الفلسطينية التي شهدتها سورية.

[2]عندما تحول تشييع شهداء اليوم السابق الذين سقطوا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجولان السوري المحتل، إلى منحى مختلف، حيث توجه قسم من المشيعين الغاضبين إلى مقر الجبهة الشعبية-القيادة العامةـ في المخيم (الخالصة)، وقاموا بإحراقه متهمين الفصيل بإرسال أبناء المخيم إلى الموت مدفوعاً بمصلحة تصدير أزمة حليفه النظام السوري، وما أسفر عن هذه الأحداث المأساوية من سقوط ضحايا من الطرفين.

[3]يطلق على "تحالف الفصائل" اسم تحالف العشرة، وفي معظم الأحيان يتحول العشرة إلى ثمانية مع استثناء الجبهتين الشعبية والديمقراطية، اللتين كثيراً ما تأخذان موقفاً متمايزاً، ووسيطاً، من القضايا الوطنية الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية، وموقف النظام في دمشق، ولاحقاً لمرحلة التسعينيات التي تلت توقيع اتفاق أوسلو، صار يعبر عن الخلاف السياسي الفلسطيني ـ السوري، بصيغة فلسطينية - فلسطينية تزعمت الطرف المناهض للسلطة الوطنية الفلسطينية فيها حركة حماس، وخصوصاً بعد أن غادرت العاصمة الأردنية عمان، وانتقلت بثقلها إلى دمشق بداية العام 2001 في مرحلة أولى، ثم وفي مرحلة متقدمة من خلال ما تم التعبير عنه بصيغة الانقلاب في قطاع غزة على مؤسسات السلطة، والدعم السياسي الذي لقيته من دمشق باعتبار حركة حماس تعبر عن الجناح المقاوم، والممانع في الساحة الفلسطينية.