المسيرة النقابية في فلسطين ودور الشباب

بقلم:غريب زهران*

ارتبط تطور النقابات العمالية العالمية عبر التاريخ مع تطور طبيعة وواقع العمل، إذ إنها تشكلت بهدف تنظيم وتطوير علاقات الإنتاج عن طريق إدارة التناقضات الناشئة عن العمل ما بين جانب العمال من جهة وأصحاب العمل من جهة أخرى. وإذا ما نظرنا لبذور النشأة؛ فان الثورتين الزراعية والصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا، تعدان من أبرز الأحداث التي أسهمت في تطور نشأة وعمل النقابات العمالية، حيث تحول الاقتصاد الأوروبي إلى نمط الإنتاج "الرأسمالي الحر" كنتيجة لاستخدام المكائن والآلات في الإنتاج الزراعي والصناعي، الأمر الذي شكل قفزة نوعية في واقع العمل ودفع باتجاه تطور أوسع في المزارع والمصانع، مما أدى إلى زيادة طاقتها الإنتاجية وتشغيل أعداد ضخمة من العمال، وهذا ما احدث ازدهار اقتصادي وتضخم في العوائد.

برزت حاجة العمال إلى تشكيل والانضمام إلى منظمات نقابية تدافع عن مصالحهم وتطلب ترجيح كفة الميزان فيما يتعلق بأوضاعهم المعيشية، واستمرت النقابات العمالية في أوروبا وأمريكا الى يومنا هذا وراكمت تجربتها الحديثة لأكثر من مئة عام، الى ان وصلت بعض النقابات والاتحادات العمالية إلى قوة مؤثرة او حتى مسيطرة على صنع القرار على المستوى الوطني في بعض من تجارب الدول الصناعية المتقدمة.

هذا وقد عرفت فلسطين أول تنظيماتها النقابية في عشرينات القرن الماضي، حيث تأسست "جمعية العمال العرب" ومرت بعدة مراحل وعقبات نتيجة موقف سلطات الاستعمار البريطاني منها، بالإضافة إلى الصراع العربي الصهيوني وما تولد عنه من نكبة للشعب الفلسطيني عام 1948. وقد جاءت جملة العناصر السالفة الذكر، كنتيجة للصراع على الأرض، حيث يمكن اعتبارها عوامل قد حدت من التطور الطبيعي للحركة النقابية العمالية في فلسطين بالإضافة إلى تأثيراتها المباشرة أيضا على الاقتصاد الفلسطيني في حينه، وبالتالي على إعاقة تطور العمل والإنتاج الفلسطيني في الطريق إلى زيادة الهيمنة الاقتصادية وإبقاء الاقتصاد الفلسطيني خاضع لهذه الهيمنة.

وبعيدا عن الخوض في تأثيرات الانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي على الحركة النقابية في فلسطين، أود في هذا المقال الإشارة إلى تطور الاقتصاد الفلسطيني وتأثيره على التطور التاريخي للحركة النقابية في فلسطين، والدور المطلوب من الشباب ليشكل أداة الضغط النقابية لحل مشاكله الرئيسية الناجمة عن العمل.

يمكن الادعاء؛ بأن الاقتصاد الفلسطيني كان قبل انتهاء الحقبة العثمانية وأثناء الانتداب البريطاني وحتى متوسط عمر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يعتمد بغالبيته على الزراعة، والتي كانت تشكل الدخل الأعظم للاقتصاد الفلسطيني، وكان للصناعة نصيب أقل إذا ما قورنت بالنشاط الزراعي. وبهذا المعنى نجد أن الإنتاج الزراعي الفلسطيني أعتمد على الأسرة والعائلة كذلك، كقوة عاملة، آذ كانت الأسرة بأكملها تتصدى لمهمات العملية الإنتاجية الزراعية كاملة، "هذا في غالبية المجتمعات الزراعية الفلسطينية"، وبالتالي كان الدخل يتوزع على أعضاء الأسرة لضمان استقرار وتطور حياتها. بناءً عليه، يمكن القول بان الإنتاج الزراعي اعتمد على طرف واحد، ألا وهو الأسرة مالكة الأرض، والتي تزرعها وتعتني بها، أو المقيمة فيها باختلاف شكل العقد مع المالك/المالكين. هذا بالإضافة إلى وجود منظومة تضامنية اجتماعية فاعلة ما بين الأسر والعائلات لتنظيم وحل مشاكلهم الإنتاجية الناتجة عن عدم تساوي القدرة الإنتاجية للأسرة بحجم الإنتاج المطلوب منها، وهو ما كان يعرف بالمعونة أو العونة-أي العمل التطوعي باللغة المعاصر. لم تتشكل بناء على هذا النمط علاقات إنتاج/عمل مبنية على أساس طرفي الإنتاج الرئيسين وهما العمال وأصحاب العمل، وبالتالي لم يكن هناك داع ومبرر فعلي لتشكيل منظمات نقابية قائمة على أساس العمل في غالبية هذا القطاع، وهذا الأمر انطبق على المشاريع الصناعية الصغيرة في ذلك الوقت في فلسطين بما تشتمل من ورش أولية في مختلف القطاعات، لاعتمادها أيضا على الاقتصاد الأسري والعائلي في سوادها الأعظم.

وبشكل نسبي صغير، ظهرت علاقات العمل القائمة على طرفي الإنتاج بوجود عمالا أجراء يعملون لدى أصحاب عمل في الإقطاعيات الكبيرة والمتوسطة، والتي كانت مملوكة من قبل العائلات الكبيرة المالكة لمساحة واسعة من الأراضي الزراعية والذين كانوا بحاجة إلى طاقة إنتاجية عالية لتحقيق مستوى إنتاجي كفؤ، فكانوا يلتجئون لاستخدام عمال إجراء لتحقيق ذلك. ولم يشكل هذا النمط نسبة كبيرة في الإنتاج الزراعي الفلسطيني؛ لذا بقي النشاط والنضال النقابي محصورا في هذا النمط الإنتاجي صغير الحجم.
أصبحت أعداد العمال الفلسطينيين الذين يعملون لدى أصحاب عمل مقابل اجر تزداد تدريجيا، نتيجة توزيع الأراضي على قطاع أوسع من السكان ونتيجة لنظام توزيع الملكية القائم على قواعد الإرث أساساً، فلم تعد المساحة المخصصة للأسرة الواحدة تكفي لسد احتياجاتها ومتطلباتها المعيشية المتزايدة، بالإضافة إلى احتلال جزء كبير من الأراضي الفلسطينية من قبل الحركة الصهيونية وبناء دولتهم عليها ومصادراتهم للأراضي من اجل التوسع الاستيطاني المستمر حتى يومنا هذا، وسيطرتهم على منابع المياه الحيوية اللازمة للزراعة في فلسطين.

لقد أدى كل هذا إلى تحول جزء كبير من الفلسطينيين من شركاء في الإنتاج (الاقتصاد العائلي) إلى إجراء لدى أصحاب عمل تربطهم فيما بينهم علاقة الأجر مقابل العمل. وتحول جزء كبير من العمال الفلسطينيين، الذين بقوا في فلسطين، للعمل داخل الأرض المحتلة عام 1948 ولاحقا في مستوطنات الاحتلال المقامة على الأراضي المحتلة عام1967.

وبدءاً من هذه الحقبة، أي حقبة إقامة إسرائيل، غلب الطابع السياسي المقاوم للاحتلال على عمل المنظمات النقابية في فلسطين أكثر من النشاط النقابي التقليدي، حيث كان الهم الأكبر لدى الفلسطينيين هو الانعتاق من الآلة الاستعمارية وإجراءاتها الاحتلالية المستمرة، والتي تؤثر على حياة السكان في مختلف المجالات كما في العمل.

ومع تزايد عدد العمال الفلسطينيين، الذين تحولوا من فلاحين إلى عمال، بالترافق مع احتلال باقي فلسطين التاريخية وفتح سوق العمل العبري أمام اليد العاملة الفلسطينية كعوامل مسببة لهذه الزيادة، وامتداداً حتى نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، وتحملها لمسؤولية إدارة المناطق التي تخضع لإشرافها، احتاجت السلطة إلى العديد من الموظفين من الفلسطينيين الموجودين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليكونوا موظفين حكوميين وعسكريين..الخ. كما وظهرت قطاعات أعمال جديدة لم تكن موجودة أو كانت ضعيفة ما قبل السلطة مثل قطاع العمل الأهلي والسياحي والمالي، هذا دون نسيان التطور النسبي الحاصل في كل من القطاع الصناعي والخدماتي والتجاري. فقد فرضت حاجة العاملين في تلك القطاعات إلى التنظيم النقابي في مواقع عملهم، وهنا بدأت تتشكل اللجان العمالية والنقابات الوطنية والتي تضم عمال القطاع الواحد، وبدأ التنظيم النقابي يأخذ الطابع النضالي الاجتماعي لتحقيق ظروف وشروط عمل أفضل لدى العاملين في المنشاة الواحدة أو في القطاع الواحد. ولا تزال التجارب النضالية الاجتماعية في العمل النقابي في فلسطين حديثة التجربة والتطور؛ اذ لا يزال هناك نسبة كبيرة من العمال الفلسطينيين غير منضويين في إطار النقابات التي تمثل المهنة التي ينتمون لها، وبالتالي يسبب ذلك عجزا، بل حالة من القصور في أداء وقوة المنظمة النقابية نفسها، كما ولا يزال من هم خارج عملية التنظيم النقابي نتيجة تشتت عملهم وعدم انتظامه مثل عمال البناء والزراعة الموسمية والعاملين البسطاء لحسابهم الخاص والمتعطلين عن العمل والعاملين بعقود عمل مؤقتة، لا تزال غالبية هذه الفئات خارج عملية التنظيم النقابي، وان وجد تنظيم لبعضها فانه ضعيف لعدم تمتع قطاع واسع من الفئات المذكورة بعمل واحد مستدام.

وأما فيما يتعلق بفئة الشباب الفلسطيني؛ فإن الفئة العمرية من 20 -29 سنة تشكل ما نسبته 17.7% من مجموع السكان، وتبلغ نسبة البطالة فيما بين الخريجين منهم نسبة 45.5%، وفقاً لإحصائية العام 2011. مما يعني أن نسبة البطالة في نطاقها الأوسع، تشتمل الشباب ممن هم خارج سوق العمل، وبالتالي هم خارج العملية التنظيمية النقابية. وهذا من شأنه أن يضعف ويؤثر على كافة المنظمات النقابية، كما يؤثر على مراكمة الخبرات والتجارب النضالية النقابية في فلسطين.
وعلى الرغم من استهداف مؤسسات المجتمع المدني في فلسطين، والاستهداف الحكومي الموجه من وزارة العمل، تحديدا لقطاع الشباب من اجل إعدادهم وتأهيلهم لسوق العمل، إلا أن الأثر لهذا الاستهداف غير ملموس، والنتائج المتحققة ما زالت أقل بكثير من المخاطر والمهددات، والتي من أبرزها تزايد أعداد الشباب بنسب أعلى بكثير من تزايد فرص العمل، لذلك يبقى لزاماً على المجتمع بكافة مكوناته ايلاء الاهتمام العالي لمعالجة هذه المشكلة الآيلة للانفجار في أية لحظة، هذا اذا ما حصرنا القياس بمن هم متواجدين من الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، دون إغفال طبيعة الأزمات التي تعصف بفلسطيني الشتات فيما بتعلق بقطاع العمل، حيث يبقى ابرز الأمثلة ما هو قائم في حالة اللجوء الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، ودون نسيان ما يعانيه فلسطينيو 48 من تمييز وإقصاء في مختلف المجالات.

وعليه؛ نجد أن عدم القدرة على معالجة المشكلات الاجتماعية أو إهمالها، بشكل خاص قضية البطالة بين الشباب، من قبل أصحاب العلاقة والمسؤلية الرئيسيين سيؤدي إلى نتائج كارثية على المجتمع الفلسطيني. ولست هنا بصدد تحليل وبحث نتائج مشكلة البطالة بقدر ما سأقوم بالتأشير على مسؤوليات الأطراف الرئيسة ذات العلاقة، تجاه هذه المشكلة.
بما أن مشكلة البطالة في المجتمعات هي مشكلة ناتجة عن العمل وسببها الرئيس هو عدم توفر العمل، وبما أن القوانين المحلية الفلسطينية لا تضمن الحماية من البطالة لفئة من هم قادرين على العمل، وبسبب ان الأنظمة المعمول بها في غالبية المنظمات النقابية العمالية لا تجيز انضمام وانتساب من هم خارج المهنة لها، وفي أحسن الأحوال فان المنظمات النقابية تركز في عملها على تحسين وتوفير ظروف وشروط عمل أفضل للعمال الذين تمثلهم. وبسبب انعدام وجود استراتيجيات موحدة على المستوى الوطني ما بين المنظمات النقابية العاملة والممثلة لفئة العمال فيما يخص التحرك لمعالجة مشكلة البطالة، فان المطلوب من فئة الشباب، وتحديدا العاطلين منهم عن العمل، القيام بدور مؤثر في المجتمع باتجاه تحقيق مصالحهم، وتحديداً المتعلقة بحقهم في العمل أو الحماية من البطالة، من خلال رفع قدراتهم التنظيمية وتمثيل أنفسهم بأنفسهم، وقيادة العمل من خلال تحركات منظمة تهدف إلى رفع الصوت عاليا للتعبير عن المشكلة الأم لجزء كبير من مشاكل مجتمعنا الفلسطيني المختلفة، ألا وهي البطالة وانعدام الحماية منها.

أما فيما يتعلق بالدور الحكومي لرفع الاهتمام بهذه القضية؛ فنرى أن انخفاض الموازنات المخصصة للتشغيل هي أحد الأسباب الرئيسية لإخفاقات الوزارات والدوائر الحكومية التي تعمل على زيادة التشغيل، كما أنه قد آن الأوان لأن يدرك المشرع ويولي اهتماما عاليا لإقرار قانون حماية من البطالة. كما ان الاتحادات النقابية العمالية تتحمل نصيبا من المسؤولية، فتشتتها وغياب أهداف إستراتيجية موحدة لها على المستوى الوطني يجعلها قاصرة وعاجزة عن تحقيق الأهداف المتعلقة بالعمل للطبقة، أو الطبقات الأكثر فقراً، والتي أنشئت هذه المنظمات لأجل تحقيقها. وربما آن لها الأوان أيضا بأن تدرك أن حل مشكلة البطالة في فلسطين يجب أن يعطى الأولوية في عملها، لأن تطوير وتحسين شروط وظروف عمل من تمثلهم من العاملين، لا يمكن ان يتحقق في ظل نسبة عالية جدا من البطالة، الأمر الذي يزيد عرض الأيدي العاملة وشدة المنافسة على فرص العمل وبالتالي صعوبة تحسين وتطوير ظروف وشروط العمل وبقاءها كما هي او تراجعها.
إن العمل النقابي ومسيرته المشار إليها أعلاه، لم تكن لتبصر النور دون الجهد الشبابي الذي ضخ فيها على مر العقود الماضية من حياتها، فكما كان الدور الفاعل والأساسي في تغذية مسيرة النضال القومي الوطني للشباب فان لهم ما بذلوه على الصعيد الاجتماعي ومنه العمل النقابي الذي طالما وظف تنظيميا وسياسيا في معارك المواجهة المباشرة مع الاحتلال. لقد آن الأوان، رغم عدم انجاز مرحلة تقرير المصير، ايلاء حقوق الشباب ودورهم النقابي ما يستحقه من اهتمام، كما آن الأوان أن ينتظم الشباب للدفاع عن حقوقهم.

-----------------
*غريب زهران: صيدلي وناشط نقابي فلسطيني، مقيم في رام الله.