بقلم: جوزف أنطونيوس*
لم يكن إحراق "البوعزيزي" نفسه بداية الحراك العربي الذي طبع عام 2011، بل كان تعبيراً عن اللحظة الفارقة التي انتظرها شباب كانوا يتململون، كأن عملية الاحتجاج الانتحارية-الاستشهادية هذه كانت كلمة السرّ التي انتظرها التونسيون للتنفيذ. ما كان أحد يجرؤ على أن يتوقّع، قُبيل الحادثة، أن يسقط بن علي. الشباب التائه في قرى صفاقس هربًا من أجهزة أمن "زعبع" يذكر جيدًا أن الحراك كان مبدئيًا، لا أمل منه إلا "تسجيل موقف للتاريخ". في المقابل، بدت الأحداث التي انطلقت من سيدي بوزيد وامتدّت إلى مختلف أنحاء تونس، مفضية حتمًا إلى التغيير؛ فالأمور كانت تتطوَّر بصورة لا رجعة فيها، وسقوط بن علي كان مسألة وقت لمن كان قادرًا على المراقبة والقراءة. كانت الاحتجاجات مثل كرة ثلج تكبر في الصقيع، لا سبيل إلى إذابتها أو تفتيتها إلا بصدمة كبرى... فجاء سقوط بن علي.

في حالة مصر اتسع الفارق وأتى التأويل مختلفًا؛ ففي حين أتى سقوط بن علي مفاجئًا وسريعًا، بدا الوقت ثقيلًا جدًا في ثورة مصر، مع أن شباب مصر احتاج إلى وقت أقلّ مما احتاج إليه التونسيون لإسقاط الطاغية: البوعزيزي استُشهد في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 وبن علي هرب في 14 كانون الثاني 2011 – أي في اقل من شهر- في حين اندلعت أحداث مصر في 25 كانون الثاني وتنحى مبارك في 11 شباط/فبراير 2011، نحو أسبوعين! ما يعني أن الثورة الأولى استمرت أكثر من الثانية، لكن المفاجأة التي أسقطت بن علي زال وقعها مع مبارك، وبدا سقوطه مسألة وقت مرَّ مروراً ثقيلًا.

ما بعد الثورتين كانت اليمن وأحداث ليبيا وما تلاها في أقطار أخرى، وقد اتخذت منحًى مغايرًا وأثارت جدلًا حول كونها حربًا أو حروبًا أهلية أو صحوة "إسلامية" أو "أصولية" ... يضيق المجال هنا للحديث عنها؛ فنتائجها ليست واضحة، وتعقيداتها كثيرة، ولا يجوز تناولها في مقدّمة مقالة أو في لمحة مقتضبة.
لكنّ المتابع لأحداث مصر وتونس خلال السنتين الأخيرتين قُبيل الثورتين، يلاحظ أن ثمة جيلًا جديدًا قد نشأ، وربما كان العالم العربي يحتاج إلى هذه المدّة الزمنية لكي يُصبح من وُلدوا بعد تولي مبارك وبن علي الحكم أو كانوا أطفالًا يومها، قادرين على الفعل؛ بل ربما على القيادة، فهؤلاء قد باتوا في العقد الرابع من العمر، وهم قادرون على التأثير في من يصغرهم بعقد وعقدين من الزمن، وقد عاش هؤلاء جميعًا تحت ذلّ الدكتاتورين منذ الولادة، ولم يرَوا "أيام العزّ" التي طُبعت في مخيلات جيل "عابري القناةسواء أكان عبور القناة وهمًا أو حقيقةً.

جيل الشباب هذا كان رافضًا لما يعيشه، كما رفض أن يعايشه مراراً، غيرَ راضخٍ لا بحكم "البروبغندا" التي حكمت من سبقه، ولا بحكم النظام العسكري الذي كان قد بدأ يتفتت لانصراف العسكر إلى الفساد ولأسباب أخرى لا تُستثنى منها إرادة الدكتاتورَين. هذا الرفض توافرت له مقوّمات الانتقال إلى الفعل، فـ"جيل الإنترنت" كان قادرًا على التواصل بوسائل عجز الحكّام بشبكات استخباراتهم عن تتبعها أو إيقافها، بل إنهم استخفّوا بها حتى قضت عليهم.

لم يكن الوضع في مصر هادئًا قبل الثورة، كما لم يكن هادئا كذلك في تونس. في الأولى كانت التحرّكات العمّالية والمطلبية قائمة، فقد كانت مصر تغلي، أكان رفضًا للخصخصة أو رفضًا للأحوال المعيشية أو حتى رفضًا للفجوة التي كان الشباب يعيشها بين ما يطمح إليه وما يصل إليه عملياً، بين الثقافة التي اختزنها بحكم ثورة المعلومات، وما يراه على أرض الواقع بحكم الرجعية التي كانت تطبق على البلاد.

لم تكن الأحوال المعيشية وحدها ما دفع البوعزيزي مثلًا إلى الثورة. من يحمل شهادةً جامعية أمضى سنوات في التحضير لها لينتهي به الأمر بائع خُضَرٍ ملاحَقًا ممنوعًا حتى من الحصول على لقمة عيش مغموسة بالذلّ؛ ليس ثائرًا لأسباب معيشية فحسب، بل لأسباب مبدئية أيضًا، لطموح إنساني بالكرامة ولمغزى علمي بدا مستحيلًا حتى مجرّد التفكير فيه في ظل الظروف المعاشة تونسياً.
لكن السؤال الذي لا بدّ من طرحه حول هذا الواقع: بعد أن آتت الثورات ثمارها على الأقل في دولتين عربيتين، ما دور الشباب في إصلاح ما أفسده النظام القمعي العربي؟

يكتسب السؤال أهميته من كون الماضي قد مضى، ولا أهمية لدراسته إلا لناحية تجنُّب مساوئه واستقراء العبر. أما المستقبل فهو ما ينتظرنا وينتظر الشباب عمومًا، الذين ربّما ينعمون بفرصة إعادة البناء. الاستفادة من درس الماضي إذن هي الهدف من استرجاعه، ومن المفيد هنا الحديث عمّا على النخب الجديدة إجادة "السير بين النُقَط" في شأنه. جيل الثورات العربية أو الانقلابات التي أسقطت الأنظمة الملكية وأخواتها، هو جيل استفاد من اطلاعه على الثقافة الغربية عمومًا، وحاول سحبها على أو إلى الشرق: نجح هنا وفشل هناك، حاول الإصلاح من فوق وأهمل الإصلاح على مستوى القاعدة، فرض العَلمانية من فوق من دون أن تكون العَلمانية مزروعة في النفوس، فعبد الشعب الزعيم بدلًا من عبادة الإله، ولما خسر الزعيم هالته عادوا إلى الدين؛ وهذا ما على جيل الشباب، النخب الجديدة، تجنُّبه.

الدين مكوِّن أساسي من مكوّنات الثقافة العربية، وإذا ما أراد الشباب خلق مجتمع جديد، فالوسيلة لا تكون في محاربة الدين بقدر ما تكون بالاستفادة من إيجابياته، وحصره في الصروح الدينية وإن خرج فجزء كبير من الأيديولوجيا الدينية يدعو إلى التكافل والانفتاح على الآخر، وهذا ما يجب الاستفادة منه؛ على العكس مما يحصل الآن ويُخشى التمادي فيه.
الموجة الدينية الآن ناتجة عن القحط الثقافي الذي ثار ضدّه البوعزيزي، ومن "عَلمانية" الدكتاتوريات التي حوّلتها أنظمة القمع إلى شاخصة مرورية لها، إلى أن آل الامر للتعاطي معها كرمز من الرموز التي قامت الثورة ضدّها... علمًا أن نواة الثورة ــ التي لم تبدأ مع استشهاد البوعزيزي ــ هم الشباب اليساري؛ منذ أحداث غزل المحلّة إلى انتفاضات الحوض المنجمي، من ثم الأحداث التي وقعت قُبيل رحيل بن علي، خصوصًا في فترة انتخابات 2009. لا يُنسى محمد سوداني من حزب العمال الشيوعي التونسي، ولا نشطاء الحزب التقدُّمي الديمقراطي الذين حُرموا المشاركة في الانتخابات التشريعية برفض ترشيحاتهم، والرئاسية بواسطة قانون فُصِّل خصيصًا ضدّ أحمد نجيب الشابي. ولا يخفى أن مناضلي التقدُّمي الديمقراطي أنفسهم تعرّضوا للاضطهاد خلال الانتخابات التونسية الأخيرة على يد مختلف التيارات الدينية، بما فيها حزب النهضة!
التعويل المركزي في إصلاح المجتمع إذن هو على الشباب، تواجههم معوِّقات أصعبها ما عليهم تغييره في أنفسهم، فمرحلة الثورة تنتهي، لكن ما بعد الثورة، مرحلة إعادة البناء، هي الأصعب، بل هنا مكمن التحدي كما التناقض. بيد أن المعوِّقات الخارجية لا تقلّ أهمية؛ فالشباب في مواجهة مجتمع قد لا يتقبَّل أفكارهم غير التقليدية، وقد لا يؤمن بقدراتهم... هم يواجهون مجتمع فصلته عنهم هوّة زمنية لا يزيلها إلا الاحتكاك والحوار، لا بالتلاقح وإنما بالتفاعل. واجب المجتمع اليوم تأمين الفرصة للشباب حتى ينجحوا، واجب المجتمع أيضًا رعاية هؤلاء الشباب وعدم الانبهار بمعرفتهم الإلكترونية. هذه المعرفة مع حماسة الشباب وطاقتهم وتوقهم بنَهَمٍ نحو المستقبل ممزوجة بخبرة من يفوقونهم سنًّا، هي ما يُعوَّل عليه للإصلاح والرقيّ بالمجتمع. على المجتمع أن يعرف أن بين هؤلاء الشباب المثقف وغير المثقف، النشيط وغير النشيط، المناضل والوصولي، العامل ولاعب الميسر... كلهم قادرون على الإبهار، وكلهم يحتاجون إلى خطّ سير.

على المجتمع أن يفهم أيضًا أن هؤلاء الشباب، على حماستهم وقدراتهم العالية، يظنّون أنفسهم قادرين على تحقيق أيّ شيء. هي نقطة قوة ونقطة ضعف في الوقت نفسه، فما عجز عنه من قبلهم حققوه كاسرين حاجز الخوف، لكن ما قد يفشلون في تحقيقه ربّما يكون مدمّرًا لطاقاتهم واندفاعاتهم. "المايسترو" في هذه الحالة هو المجتمع، عمله لا يُقتصر على ترشيد الحماسة بالمعنى العام، بل ثمة تفاصيل يجب الانتباه إليها؛ فهل كلّ ما هو قديم مرفوض؟ هل يجب هدم كل العادات والتقاليد القديمة أو إعادة بنائها؟

لكن الإصلاح ليس كل المطلوب من الشباب اليوم، فمصطلح "الثورة المضادّة" الذي استُخدم في مصر، ويصحّ استخدامه في أي عصر وفي أيّ ثورة، لم يأتِ من عدم. واجب مواجهة الثورة المضادّة يقع على عاتق الشباب، مشعلي الثورة. ولا تُقتصر الثورة المضادّة على تآمر المنظومة الحاكمة سابقًا ومحاولة عودتها إلى الحكم، أكان في هذه المنظومة العسكر أو التجّار أو المتنفذون السابقون كبارًا وصغارًا، أو حتى رجال الدين. الثورة المضادة حاضرة في أيّ كبوة قد تواجه الثورة، حاضرة في المشاكل الاقتصادية، والاجتماعية، وتحديات السياسة الدولة، وفي البطالة، والبرامج التربوية، والبحوث العلمية، حاضرة في إعادة صوغ الدستور، وفي قانون الانتخاب، حاضرة في قضايا المرأة وفي القضاء على الفقر والتشرُّد وأزمات السكن... في كل ذلك ثورة مضادّة، ومواجهة ذلك تحتاج إلى الشباب، على الأقل إلى طاقاتهم.

في غمرة كل ذلك، ثمة ما يُقلق، وهو غياب الحديث عن القضايا القومية، عن الاستقلال الوطني. لم يعد مفهوم القضايا القومية مقتصرًا على فلسطين، بل يمتد إلى كل شبر من العالم العربي، وكل مسألة من مسائله. دكتاتورية أنظمة الحكم السابقة، أو التي ستصير سابقة، كانت غطاء للاستعمار الذي لم يُغادرنا إلا قليلًا، إن لم نقل إنه لم يغادرنا مطلقًا، هذه الدكتاتوريات عبارة عن استعمار مقنَّع، أو استعمار بالوكالة، ومحاربة هذا الاستعمار جزء من القضية القومية الكبرى، "ليسقط القناع عن القناع". على الشباب العربي وعي هذا الأمر، عليهم أن يعوا أنهم في محاربتهم الدكتاتورية إنما يسعون إلى وطن مستقل، عليهم أن يعوا أنهم يقومون بواجبهم داخل دولهم مثلما يقوم المقاوم بواجبه دفاعًا عن فلسطين... هذا هو ما يُعطي حراكهم أهميته. ما يُخشى، بعد عودة الحراك السياسي إلى مصر وتونس (ولنَقُل ليبيا) بعد الثورات، هو سرقة الثورة مجددًا لمصلحة الاستعمار، من هنا فإن واجب الشباب هو حماية الثورة، لئلا يتحوّل الاستعمار المقنَّع الذي قام باسم "القومية العربية" على مدى العقود السابقة، إلى استعمار مقنَّع يقوم باسم "الدِين أو الديمقراطية وحقوق الإنسان".

شبع الشباب من شعارات "حمية الشباب" و "طاقة الشباب" و "أنتم المستقبل"... هم بحاجة اليوم إلى مجالات تُفتَح أمامهم، إلى خبرة "شيوخ" لم تتسخ أيديهم بفساد العقود الماضية، إلى ما يساعدهم على فتح عيونهم وعقولهم وقلوبهم. الشباب اليوم بحاجة إلى المجتمع، تمامًا كما يحتاج المجتمع إليهم.
-------------------------
*جوزف انطونيوس: صحافي لبناني ومحرر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ بيروت.