كلمة 
الحركة النسوية الفلسطينية: من الحزب السياسي إلى عولمية التمويل

بقلم: نضال الزغير*
عبر المجتمع الفلسطيني ككل متكامل، خلال دهليز تحولات رهيبة أصابت واقعه وأثرت في وعيه، بل قلبت جملة متغيراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية عبر قرن من الاستعمار، ومن خصوصية الواقع الفلسطيني، ومما يفرض وجوب توخي الخصوصية الشديدة في التعاطي وإياه، كان وما زال تأثره بالسياق الاستعماري، الذي تخلق استمرار يته سلسلة من الدلالات والأبعاد المتباينة، حيث تتدخل في تشكيل الظواهر الاجتماعية وأنساق الحياة بمجملها في المجتمع الفلسطيني المتعدد في مناطق تواجده، وتسهم في مسيرة إنتاج الوعي وإعادة إنتاجه.

لذلك فان محاولة التعرف على اصطلاح” الحركة النسوية الفلسطينية ”، وتقديم توصيف لطابع هوية وممارسة هذه الحركة، كما محاولة قياس مدى القدرة على اعتبار هذا التجمع المؤسساتي النسوي يمثل تعبيرا عن حركة اجتماعية ذات حراك اجتماعي سياسي في المجتمع الفلسطيني، خاضع بشكل كامل للنظر إليه عبر طبيعة هذه التحولات في سبيل فهمه. وهنا لم تكن الحركة النسوية بمنآى عن هذه التحولات التي أصابت المجتمع الفلسطيني، كونها أحد البنيات التي يقع وجودها في حيز وجوده. وفيما يتعلق بطبيعة هوية هذه الحركة فان الخلاف حاصل ضمن مثلث علائقي تركن زواياه ما بين ثلاثة قطاعات هي:

- قطاع العمل الجماهيري الشعبي/ الخيري،

- صفة وجودها كفاعل من فواعل المجتمع المدني أو قطاع المؤسسات غير الحكومية،

- ارتباطها بالحزب السياسي تاريخيا، كمحور ثالث للاختلاف في التحليل الأخير.

وبالعودة لتاريخ بدايات العمل النسوي الفلسطيني، نجد انه امتاز بحراك اجتماعي ثقافي سياسي مبكر نسبياً. حيث كان هذا الحراك مرتبط بمتغيرات مطلع القرن العشرين، وهذا بدوره يؤشر على البداية المبكرة للحراك النسوي فلسطينياً. كما ارتبط هذا العمل منذ البدايات بواقع العمل الخيري، دون إغفال الإسهام السياسي له. وقد كان الاتحاد النسائي الفلسطيني الذي تأسس عام ١٩٢١، يعتبر أول منظمة نسائية متبلورة عبر أهدافها المعلنة وخطابها المفعل. والأمثلة القائمة تاريخيا على مشاركة المرأة الفلسطينية في النشطات النضالية ضد الانتداب البريطاني ومن بعده الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، شاخصة بسجلات واسعة من الأسيرات والشهيدات والناشطات السياسيات.

أما اليوم فتختلف طبيعة التأصيل والتأطير للحركة النسوية، ومنبع هذا الاختلاف قادم من خلفية تباين محدداتها. لكن الصورة الحالية للعمل النسوي الفلسطيني، تتركز في التبعثر ما بين العمل التنظيمي في اطر الفصائل الفلسطينية عبر المنظمات النسوية المنبثقة عنها، وما بين العمل المؤسساتي ضمن حقل المجتمع المدني الفلسطيني والمؤسسات غير الحكومية. وهذا احد محاور البون الشاسع في التآصيلات حول الحركة النسوية، أي بمعنى آخر، هناك تداخل في التوصيف بشكل خاص فيما يتعلق بالمؤسسات النسوية التي تشهد حالة من التشابك الهوياتي بين ارتباطاتها الحزبية، وواقعها كمؤسسات أو منظمات أهلية، مما من شانه التأثير في صورة عملها وأشكال التأثير التي تعمل من خلالها.

مرت فلسطين التاريخية بمرحلة صراعية مكثفة في عهد الانتداب البريطاني، مع بنية الانتداب بحد ذاتها، إضافة إلى التنافس -إن جاز التعبير- بين الفرقاء من قيادات محلية ومنظمات قائمة بمختلف أشكالها، فكانت اصطفافات هذا التنافس تبرز تبعا للموقف من القضية الوطنية والأفق السياسي لها، مع ارتباط هذا الاصطفاف بأجندة عشائرية إلى حد ما فيما يختص بالقيادات المحلية، وطائفية في بعض الأحيان، مثل حالة بعض النوادي والفرق الرياضية التي كانت تسمى باسم الطائفة وتعمل في إطارها، وكانت العتبة الفارقة بعد هذه المرحلة تتمثل في إقامة الدولة الصهيونية على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وعلى اثر نكبته وتغريبته عام ١٩٤٨، بحيث أعادت هذه الواقعة الكارثية تشكيل مجمل حالة الوعي والممارسة الفلسطينية، كما نقلتها إلى مستويات أخرى.

وتبعاً لذلك فقد انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة والكفاح المسلح بشكل متبلور بعد النكبة بأكثر من عقد من الزمن. وكانت لهذه الانطلاقة دورها الواسع والملموس في إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني وتركيبات الممارسة السياسية، بشكل خاص أنها كانت ثورة كفاح مسلح. وهذا بدوره قد استقطب ما كان قائما بالأساس من بقايا الحراك النسوي قبل النكبة، وحينها امتزج هذا الحراك بواقع فصائل الحركة الوطنية، إضافة إلى اشتراك النساء كعنصر أساسي في مشروع العمل السياسي المقاوم. ومما ساعد في ذلك، الحالة الواسعة من التمتع بالعضوية الحزبية، بل تجاوزن ذلك بالانخراط في العمل العسكري بشكل مباشر وكثيف. وكنتيجة لهذا العمل على ارض الواقع إلى جانب الحاجة، فقد تم التأسيس لبنية المنظمات النسوية الملحقة لفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، ليتم تأطير النساء من خلالها كأحد مقتضيات العمل الحزبي. وظهرت هذه الأطر النسوية الحزبية بشكل أكثر وضوحا مع مطلع الثمانينات في داخل الأرض المحتلة.

وقد ازدهرت المشاركة النسوية في عهد الانتفاضة الأولى بصفتها الشعبية الديمقراطية، مما أسهم في توفير هامشاً أوسع للمشاركة النسوية عبر اللجان الشعبية والمنظمات النسوية التابعة للفصائل الفلسطينية ولجان العمل الانتفاضي؛ إذ تعتبر الانتفاضة الشعبية عام ١٩٨٧ عتبة فارقة في مسار الحراك النسوي الفلسطيني، كذلك فيما يتعلق بالعمل السياسي الاجتماعي الفلسطيني بكامل بنيته. بحيث يمكن التأشير على التحولات في هذا المسار بما قبل الانتفاضة وبما بعد الانتفاضة، هذا أنها اتبعت باتفاقيات إعلان المبادئ في أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية. وهذا المتغير بدوره قد أسهم، بل كان عاملا حاسما في التحولات الطارئة في الحقل السياسي الفلسطيني،مما انعكس على طابع العمل النسوي.

وبعد، نجد أن لصعود تيار الإسلام السياسي في فلسطين تأثيرا ملموسا على الحراك النسوي كغيره من الوقائع الحيوية، وخاصة انه ترافق مع دخول حقبة جديدة ذات محددات مستجدة على الواقع الفلسطيني بمختلف مظاهره، والمقصود هنا بناء مشروع السلطة الفلسطينية إلى جانب الانحسار في الوجود والتأثير لليسار الفلسطيني، وبالتالي للمنظمات النسوية العاملة في أطره.

وهنا شهد الشارع الفلسطيني تمددا واسعا لتأثير ودعم التيار السياسي الإسلامي، في ظل غياب من يحمل مشروعا بديلا وفاعلا على ارض الواقع اليومي. وكان لهذا العامل من الأهمية، أن أسهم في إعادة تشكيل، جانب من السمات العامة للعمل النسوي الفلسطيني، وبروز مؤسسات عمل نسوي ذات خلفية أو مرجعية سياسية إسلامية بالمعنى الحزبي.

وهكذا؛ بتكالب الأزمات ذات الطابع البنيوي سياسياً واجتماعياً، وانعكاسها الجدلي -وفقاً لمفهوم لوكاتش- في الوعي والموقف الفلسطينيين؛ فقد أصبح ميدان العمل المؤسساتي مفتوحاً بشكل أوسع أمام ضخ المال في وجه المحرك التمويلي، على اختلاف المشارب والرؤى التمويلية. وكجزء من هذا الميدان، فان ساحة العمل النسوي، قد تفاعلت بدورها مع المحيط من متغيرات. وقد وثبت من واقع العمل الاجتماعي الخيري في بداياتها، منتقلة إلى إطار العمل السياسي المباشر من خلال فصائل الحركة الوطنية وأطرها الجماهيرية، وصولاً إلى المزيد من الاستقلالية والتخصص عبر مأسسة الجسم النسوي بمحددات مختلفة عن سابقتها. وشهد ليس فقط استمرارية الفواعل النسوية الموجودة أساسا، بل إن هناك توسع على صعيد استحداث منظمات ومؤسسات نسوية، تعمل من خلال حقل المجتمع المدني والعمل الغير الحكومي.

بناءً عليه؛ فان التطرق للمسار التاريخي للعمل النسوي فلسطينياً، إنما يقود إلى الشهادة له بصفة انعدام الاستمرارية، من حيث الطابع العام لهذا العمل، بل وبشكل امتاز بالقطع المتتابع في الاستمرارية بمفهوم حسين مروة، كما تلاحظ حالة الانتقال ما بين العمل الخيري الجماهيري إلى الحزبي السياسي وصولاً للعمل المؤسساتي غير الحكومي والمجتمع المدني، هذا دون السير بموازاة وتناغم بين هذه الخطوط، بل إن الانتقال ما بينها امتد على مسار تاريخ العمل النسوي الفلسطيني وفقاً لما عاصره من تحولات في السياق الفلسطيني الأعم. و في ظل موجة التمويل لقطاع العمل النسوي في حقبة ما بعد اتفاقيات اوسلو، تبقى الحاجة ملحة لتبنى علاقة نقد وندية من قبل قطاع العمل النسوي مع المنهجية النسوية الغربية، المهيمنة بدورها على أجندة "تنمية المرأة".

-----------------------------------
* نضال الزغير: منظم أنشطة الإعلام والتواصل في مركز بديل.