ما هو أثر التراجعات في مواقف م.ت.ف على الهوية الوطنية الفلسطينية؟

بقلم: أحمد ابو غوش*
قبل الإجابة على السؤال المطروح، يتوجب إبراز عدة نقاط متعلقة بتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، والنظرة إليها من قبل الشعب الفلسطيني والقوى السياسية المتشكلة في صفوفه، قبل تشكيلها وبعده، وتلك المتعلقة بأثر م.ت.ف على الهوية الوطنية الفلسطينية.

1. تشكلت م.ت.ف في ظل موجة صعود قومي عربي يسعى إلى التحرر من القيود الاستعمارية القديمة وإلى التقدم والوحدة. وبرز نقاش حاد وخلاف عميق حول أولوية التحرير والوحدة والعلاقة بينهما، وكان لتشكل م.ت.ف، وما طرح في المادتين الثانية عشر والثالثة عشر من ميثاقها الوطني حسما لهذا النقاش على المستوى الفلسطيني. في ظل نهوض وطني وقومي عربي كان إبراز الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني، أي هويته الوطنية ومقوماتها، ضروريا حتى في الفكر القومي العربي الداعي إلى إنهاء الهويات القطرية لمصلحة الهوية القومية. لذلك يمكن القول، أن تشكيل م.ت.ف بميثاقها ونظامها الأساسي كما طرحا عام 1964، كان له أثر مهم في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية، بل يمكن القول بثقة أكبر، أن م. ت. ف صارت مكونا أساسيا للهوية الوطنية لأنها شكلت حالة كيانية للشعب الفلسطيني في ظل احتلال أرضه وتشريده وتشتيته.

2. هنالك فرق بين النظرة إلى م.ت.ف ككيان معنوي لكل الشعب الفلسطيني وإطار بان للهوية الوطنية الفلسطينية، حيث "الفلسطينيون جميعا أعضاء طبيعيون في م.ت.ف" وفق هذه النظرة، وبين النظر إليها كإطار جبهوي عريض يضم في صفوفه قوى الشعب الفلسطيني السياسية ممثلة في هذا الإطار ومجتمعة على برنامج سياسي وأساليب ومفاهيم وأهداف. وصارت تقاد وتتأثر وتتلون بفكر وأهداف وبرامج هذه الأطر، وتحديدا بالإطار السياسي الأكبر والأقوى. هذه المسألة لم تثر نقاشا وتساؤلا حادا إلا بعد أن تفارقت البرامج السياسية مع الميثاق الوطني، مما أدى إلى تفارق بين دور م.ت.ف كإطار مشكل ومبلور للهوية الوطنية، وبين دورها كإطار جبهوي برنامجه هو برنامج الأغلبية السياسية.

من المفارقات المهمة هنا، أن دور م.ت.ف المعزز للهوية الوطنية كان أكبر عندما صارت إطارا جبهويا واسعا لأطر مختلفة، لأن م.ت.ف كانت في تشكلها امتدادا وإفرازا للقوى السياسية العربية التي هزمت في حرب سنة 1967، ولأن نهوض القوى الوطنية الفلسطينية ودورها النضالي بعد الهزيمة الرسمية للأنظمة العربية عزز الهوية الوطنية، ولأن برامج القوى السياسية حتى تلك اللحظة لم تتناقض مع ميثاق م.ت.ف. أما الآثار السلبية (وهذا كان طبيعيا) على الهوية الفلسطينية، فقد بدأت عندما تغلبت هوية الإطار السياسي على الهوية الكيانية للشعب الفلسطيني، وتفارقت البرامج السياسية مع الميثاق الوطني.


من زاوية أخرى هنالك نقاط متعلقة بالهوية الوطنية يجب إبرازها لتكون الإجابة على السؤال المطروح واضحة، وهي:
الهوية الوطنية مرتبطة بالعلاقة مع الآخر، وخاصة بالتهديد من آخر. وهي أساسية وشرط أساسي للانتصار في ظل النضال الوطني. أما بعد الاستقلال فقد تتشكل هويات وطنية مختلفة وقد تتناقض هذه الهويات وتتصارع وتتقاتل.
الهوية الوطنية الفلسطينية نشأت وتطورت وتبلورت على أساسين رئيسيين هما: الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني والعلاقة التاريخية بينهما. لذلك، يعد التفريط بجزء من الأرض الفلسطينية المحتلة هو مس بالهوية الوطنية، وكذلك الأمر في حال تهميش أي جزء من الشعب الفلسطيني.
نشأت الهوية الوطنية الفلسطينية وتبلورت في ظل النضال الوطني من أجل حقوق الشعب الفلسطيني. والقول بأنها "هوية مضمخة بدم وتضحيات الشهداء" صحيح تماما. لذلك، فان التراخي في النضال الوطني أو التنازل عن أهداف الشعب الفلسطيني يوهن الانتماء الوطني، ويضعف الهوية الوطنية.
هناك علاقة وطيدة بين الممكن على المدى المنظور والممكن على المدى الاستراتيجي والهوية الوطنية. فالهوية الوطنية لها علاقة بالتكون التاريخي للشعب (أي بالبعد التاريخ والثقافي والقيمي) وبالأهداف التكتيكية والإستراتيجية. فالهوية تعيش حالة دينامية دائمة، وهي قابلة للتماسك والتبلور والانتعاش، وقابلة أيضا للانقسام والتشظي والتمييع. وهي بقدر عمقها التاريخي ودور الثقافة الوطنية في بنائها وتماسكها، مرتبطة أيضا بمستقبل الشعب وبما تسعى إلى تحقيق من أهداف، وبالأدوات المستخدمة لتحقيقها. وهنا سنؤكد أن عدم الترابط بين التكتيكي والاستراتيجي من الأهداف عامل يوهن الهوية الوطنية ويضعفها، والعكس صحيح. والتضحية بالأهداف الإستراتيجية لصالح الأهداف المرحلية أو الآنية، والناجم غالبا عن ضعف، أو تحقيق مصالح ضيقة لفئة محدودة من الشعب، يثير دائما حالة انقسام وتشرذم ويضعف دائما الهوية الوطنية. كما أن تعزيز القدرة وتحقيق انتصارات يقوي ويعزز الهوية الوطنية، والهزائم والنكسات توهن الهوية الوطنية وتضعفها. أما أخطر ما يؤثر على الهوية هو التنازل للأعداء والرضوخ لمطالبهم.

أما بخصوص التراجعات في مواقف م.ت.ف فهي كثيرة ومتنوعة. إذ يعتقد البعض أنها بدأت بموافقة المجلس الوطني الفلسطيني على ما اصطلح على تسميته البرنامج المرحلي، أو برنامج النقاط العشر. أما نحن فنعتقد أن تلك النقاط لم تكن تراجعا في المواقف، بل كانت برنامجا سياسيا مرحليا لم يتناقض في أي من نقاطه مع الميثاق الوطني، وذلك لأن هذا البرنامج رفض القرار 242 كأساس للحل، وأكد على حق م.ت.ف في استخدام كافة أشكال النضال وعلى رأسها الكفاح المسلح، وأكد على نضال م.ت.ف ضد أي مشروع فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح، والحدود الآمنة، والتنازل عن الحق الوطني، وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وتقرير المصير". وجاء تأكيد في البرنامج على أنه حلقة لمتابعة تحقيق إستراتيجية م.ت.ف في إقامة الدولة الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس السابقة. كما أكد في النقطة الثانية على أن السلطة الوطنية التي ستقام "ستناضل من أجل اتحاد أقطار المواجهة في سبيل اكتمال تحرير كامل التراب الفلسطيني. إلا أن النقطة العاشرة هي التي كانت أخطر ما في هذا البرنامج، لأنها أعطت الضوء " لقيادة الثورة" بأن تضع التكتيك الذي يمكن ويخدم تحقيق هذه الأهداف.

وتحت بند التكتيك، اعتبر المجلس الوطني في دورته السادسة عشر أن قرارات مؤتمر القمة العربية في فاس تشكل الحد الأدنى للتحرك السياسي العربي. وأيد المجلس في نفس الدورة مشروع الرئيس السوفييتي ليونيد بريجينيف. تأييد هذا المشروع كان متعارضا مع البرنامج المرحلي والميثاق الوطني. وفي الدورة التاسعة عشر في الجزائر أُعتمدت وثيقة إعلان الاستقلال. وذهبت م.ت.ف إلى مؤتمر مدريد، وعقدت اتفاقية أوسلو. أما في الدورة الواحدة والعشرين فقد تمت الموافقة على تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وإلغاء عدد من بنوده.

التراجعات السابقة وصولا إلى اتفاقية أوسلو أثرت بشكل كبير على فلسطيني 1948 حيث خرجوا من دائرة اهتمام م.ت.ف ومظلتها الوطنية في نفس الوقت الذي تعرضوا فيه لأشرس هجمة تمييز وتهميش عليهم من قبل الاحتلال. وهذا انعكس على هويتهم بشكل خطير. إن تمسك جزء مهم منهم بهويته الوطنية يشكل معجزة، ولكن هذا لن ينجيهم من الإفرازات السلبية التي من المرجح أن تظهر بعد أن يظهر أفق واضح لحل الدولتين.

أما أثر التراجعات في مواقف م.ت.ف على الهوية الوطنية فقد ينعكس باتجاه سيناريوهين


الأول ـ ويأخذ أبعادا ثلاثة هي:

1 ـ إعادة عدد بسيط من اللاجئين إلى وطنهم (الضفة الغربية وقطاع غزة).
2 ـ دمج وتوطين جزء مهم منهم في الأقطار العربية.
3 ـ تهجير جزء من اللاجئين إلى دول العالم وتوطينهم فيها.

الثاني ـ رفض التراجعات وتشكيل أطر بديلة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وهنا نشير إلى أن المجال هنا ضيق لبحث السيناريوهات السابقة وفرص تحقيقها. إلا أننا متأكدين من أن المواقف الإسرائيلية المتعنتة من إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران، أو حتى أقل من ذلك، وربما استحالة تحقق ذلك من الناحية العملية، سيعيد بشكل أو بآخر زخم الحالة النضالية في الساحة الفلسطينية. وربما كان هذا أهم الأسباب التي أبقت على الهوية الوطنية، إذ لم يغير اتفاق أوسلو جوهريا واقع الشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال. وبسبب طبيعة