ضرورة وطنية واجتماعية ورسمية وحقوقية ومعيشية اللجان الشعبية في مخيمات لبنان: متى وكيف نفعّلها؟

بقلم: سامر منّاع*
خلال الستة عقود الأخيرة ومنذ نكبة الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه؛ تعددت الأطراف المسؤولة عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. فالبعض يعتبر منظمة التحرير الفلسطينية بما تحمله من تراث نضالي هي المرجعية الوحيدة للشعب الفلسطيني، وخصوصاً في الشتات، والبعض الآخر يتخذ من فصيل أو آخر مرجعية، نظراً إلى انسجام أيديولوجي أو عقائدي معيّن، هذا من الناحية السياسية. أما من الناحية الاجتماعية والقانونية، فهناك من يعتبر وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) هي المرجعية، كونها تقدم الخدمات الصحية والتعليمية، إضافة إلى الالتزام القانوني اتجاه اللاجئين الفلسطينيين من حيث تسجيلهم وتصنيفهم. وفي لبنان من يعتبر أن مديرية الشؤون السياسية واللاجئين التابعة لوزراة الداخلية اللبنانية هي أيضاً مرجعية، خصوصاً من الناحية القانونية المتمثلة بتسجيلهم وإقامتهم في لبنان. هذا التنوع أصاب الحالة الفلسطينية في لبنان باختلال متعدد الاتجاهات.

في المخيمات، يلجأ كثير من الفلسطينيين إلى اللجان الشعبية للتشاور بشأن مشكلة خاصة ذات صلة بأوراق ثبوتية أو غير ذلك، ويذهب آخرون أبعد من ذلك، فيعتبرون اللجان الشعبية إحدى الجهات الرسمية المعنية بشؤونهم، فيوقعون لديها اتفاقات أو أوراق ثبوتية معيّنة، خصوصاً إذا لم تكن هناك قدرة على توقيعها في مكان آخر. على سبيل المثالً؛ في حال أراد فلسطيني أن يتملّك شقة، أو عقاراً صغيراً داخل، أو حتى خارج المخيم أحياناً، فلا يجد إلا اللجان الشعبية، بسبب القانون الذي صدر في عام 2001 ومنع الفلسطينيين من التملّك، كذلك فإن البعض من الفلسطينيين فاقدي الأوراق الثبوتية يقصدون تلك اللجان للمصادقة على أوراق ولادة، أو زواج، أو غير ذلك.
ويظهر السؤال: هل تحظي تلك الأوراق بأي بُعد قانوني أو رسمي؟
من الناحية القانونية لا يؤخذ بتلك المصادقات، وتعتبرها الجهات الرسمية مجرد حبر على ورق. لأسباب عدة، أهمها:
أولاً: إن هذه اللجان محلية ومشكّل معظمها من الفصائل الفلسطينية، ولها مسؤوليات شبه عرفية ومحددة بمسؤوليات تجعلها نقطة تواصل بين اللاجئين والهيئات الرسمية كالدولة اللبنانية ومؤسساتها المعنية باللاجئين ووكالة الغوث الأونروا.
ثانياً: إن الدور الرئيس لهذه اللجان مقتصر على الاهتمام بشؤون المخيم من تأمين ماء وكهرباء وإصلاح البُنية التحتية بالتنسيق مع وكالة الغوث والدولة اللبنانية في بعض الأحيان.

ثالثاً: إن هذه اللجان غير مخوّلة قانونياً بالتوقيع على أي أوراق رسمية، كونه لا يوجد اتفاق أو معاهدة مع أي جهة رسمية أخرى بهذا الخصوص.
رابعاً: إن هذه اللجان غير مُنتخبة من الناس، وهذا من شأنه إضعاف كفاءتها وشرعيتها على المستوى التمثيلي.
وإذا كانت الانتخابات تعتبر الوسيلة الأكثر تعبيراً ضمن الأطر الديمقراطية، لأنها تهدف إلى تفعيل الحياة السياسية والاجتماعية وتعزيز الشرعية في الهيئات القيادية المسؤولة بشكل سلمي وعادل، ففي الوقت عينه تضع نتائج الانتخابات حداً لحالة عدم الاستقرار والفوضى في أي مجتمع من المجتمعات وفقاً لمدى انسجامها مع التركيبة السكانية لهذه المجتمعات.

في لبنان، لم يُمارس الشعب الفلسطيني أي تجربة انتخابية خلال نيفٍ و63 عاماً، باستثناء محاولة متواضعة لانتخاب اللجنة الشعبية في مخيم شاتيلا عام 2005، حيث تم التنسيق بين المجتمع الأهلي والفصائل على تنظيم انتخابات، وبالفعل جرى انتخاب ممثلي الأهالي والاتحادات، وكانت نسبة المشاركة مرتفعة من قبل اللاجئين في المخيم، إضافة إلى انتخابات النقابات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، مثل انتخابات نقابات الأطباء والمهندسين والقانونيين الفلسطينيين التي تتسم عادةً بمعركة ديمقراطية مناسبة للظروف في ظل ضعف الإمكانات، يضاف إلى هذا، الانتخابات النقابية للعاملين والموظفين في الأونروا... وغيرها.
لكن العملية الانتخابية الفلسطينية في لبنان لم تتسع لضبط الحياة الاجتماعية، خصوصاً أن تركيبة القوى الفلسطينية مختلفة تماماً عن مثيلاتها في الداخل الفلسطيني. كما أن القطاعات الفلسطينية في لبنان شبه المؤطرة كنقابات الأطباء، المهندسين، الحقوقيين... إلخ، هي التي تنظم نفسها وفقاً لقوانين خاصة بها، ومنها البند الانتخابي، الذي يجب أن يشكل نموذجاً مناسباً للانطلاق نحو تفعيل المجتمع الفلسطيني في لبنان، والحاجة ملحة إلى ذلك الآن أكثر من اي زمن مضى.
بعض اللجان الشعبية الموجودة حالياً والتابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، تعتبر نفسها المرجعية القانونية للمخيمات كونها إحدى الهيئات الأساسية المرتبطة بدائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير وفقاً لأنظمتها الداخلية. لكن هل ما زالت فصائل المنظمة تلتزم ببنود تلك الأنظمة، كبند الانتخاب من الجمعية العمومية مثلاً الوارد في المادة الخامسة، أو بند الاستعانة بأصحاب الاختصاص من مهندسين وأطباء وقانونيين... إلخ؟ كذلك، هناك من يعتبرون أن وجودهم كقوى لا يقل حضوراً عن القوى المنضوية في منظمة التحرير، وبالتالي لهم الحق بلجنة موازية.

في داخل المخيمات معظم اللجان الشعبية الموجودة الآن نجدها إما مقتصرة على فصائل م.ت.ف، كما في مخيم المية ومية، أو غير موجودة كما في مخيم ضبية، أو موجودة من خلال لجنتين كمخيم عين الحلوة، أو ضعيفة الحضور كما في مجمل المخيمات الأخرى. بناء عليه، فإن غياب البرامج، وعدم وجود آلية أو آليات للمحاسبة والاختيار العشوائي لأعضاء هذه اللجان يحتم ضرورة البدء بوضع برنامج خاص لانتخاب اللجان الشعبية من خلال الاتفاق على تشريع لتكون شعبية بحق.
من هنا تأتي الحاجة إلى عملية ديمقراطية حقيقية تتيح للمجتمع الفلسطيني اختيار ممثليه بنفسه، أسوة ببقية المجتمعات. هذا بوجه خاص بعد إلغاء اتفاق القاهرة الذي أبرم بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، حيث تكرّس دور المنظمة في لبنان كمرجعية تجاه الدولة اللبنانية، حتى ألغي الاتفاق من قِبَل البرلمان اللبناني في عام 1987.

إذن، وفي سبيل التلخيص؛ لا بد من تفعيل عمل اللجان الشعبية، بالنظر إليها على أنها تجسيد للوحدة الوطنية في المخيم، وأن ينبثق عن ذلك انتخابات ديمقراطية تضمن تمثيل القوى الفاعلة والكفاءات داخل المخيم، أو التجمّع الفلسطيني، واعتبار تلك اللجان أداة لتنظيم طاقات الشعب وتعبئته لحل مشكلاته بنفسه. ونجاح عملها يتوقف على مدى انخراط جمهور المخيم، أو التجمع في شبكة وطنية منظمة لمعالجة كافة جوانب الحياة الاجتماعية اليومية.
حيث إن نجاحها يتوقف على قدرتها في إقامة شبكة مستندة إلى صلة يومية حيوية مع سكان المخيمات، عبر اللقاءات والمؤتمرات الدورية مع أهالي المخيم، بهدف الوصول إلى تشخيص حقيقي للمشكلات وبلورة حلول ناجحة.

إن هذا يتطلب تطويراً جاداً ومنهجياً لانتخاب وتنظيم عمل اللجان الشعبية وبنيتها وتعميق طابعها الديمقراطي عبر المشاركة السياسية للاجئين أسوةً بالفلسطينيين في الداخل. إن ذلك مدخل أساسي لتجاوز الكثير من الثغرات وتعزيز ثقة الجماهير الفلسطينية في قياداتها باختلاف تصنيفاتها.
الحالة الفلسطينية في لبنان اليوم، تعتبر الأمس حاجةً - أكثر من أي زمن مضى- إلى التنظيم -وإعادة الترتيب بعد الانفلات الأمني، واستغلاله على المستويين الداخلي والخارجي- في سبيل مصلحة الشعبين الفلسطيني واللبناني. وقد يساعد مجتمع اللاجئين في بحثه عن وسائل متطورة وديمقراطية بتأليف لجنة من فصائل منظمة التحرير وقوى التحالف الفلسطيني في لبنان، وممن يرون ضرورة تمثيله لإجراء انتخابات دورية للجان شعبية بالتفاعل مع المجتمع المدني، بحيث تكون هذه اللجنة هي المرجعية المباشرة لأهالي المخيمات. هذا التوجه، يجب ان يوضع في برنامج لوقف معاناة أهالي المخيمات الذين تستمر معاناتهم في ظل غياب المرجعية الموّحدة، بشكل خاص ما بعد التساؤلات الكثيرة حول أزمة مخيم نهر البارد وتنظيم "فتح الإسلام"، الذي نشأ وترعرع بطريقة خارجة عن المألوف، أدت في نهاية المطاف إلى توجيه البعض الاتهامات إلى الفلسطينيين، نظراً إلى غياب المرجعية الموّحدة، وبالتالي غياب الرقابة والمساءلة والحساب و انعدام الوضوح في حيثيات العمل السياسي والاجتماعي.

كما يبدو أن الوقت قد حان، بعد أكثر من ستة عقود من اللجوء إلى تنظيم المجتمع الفلسطيني بمبادرة فلسطينية تضبط الإيقاع الأمني والسياسي داخل المخيمات، بإقامة انتخابات تضم مختلف فئات الشعب الفلسطيني تكون عنصراً مكمّلاً في إعادة تفعيل الحوار الفلسطيني- اللبناني المعرّض دائماً لتقلبات ومشاكل الداخل اللبناني، وضمان الحلول للكثير من المشاكل التي تحتاج إلى مرجعية محلية منتخبة للاجئين، تخفف عنهم المعاناة والقهر اليومي.

-----------------------------------
* سامر مناع: صحفي، ومدير البرامج في مركز التنمية الإنسانية – لبنان.