رافقتكُم السلامة... ويا ليتَكُم لا تعودوا أبداً! مُخيم نهر البارد مَدخلٌ واحدٌ، ومخارِجُ عِدَة

بقلم: روبير إبراهيم عبدالله*

تكادُ تمضي خمس سنوات على تدمير مخيم نهر البارد، وسنة بعد أخرى يتأكد بُهتان وعد رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي أشرف على تدمير المخيم وزيّن تهجير أهله بعبارته الشهيرة "النزوح مؤقت والعودة أكيدة"؛ ليسهِّل تشتيتهم بسرعة لا يضاهيها إلا البطء بتنفيذ وعد العودة، حتى بات مجرد بكائهم على أطلال منازلهم دونه عوائق وعراقيل شتى، وباتت معه العودة إلى فلسطين أقرب من عودة المخيم إلى أهله وإلى سابق عهده.

وبالترافق مع مرور خمسة سنوات على تدمير المخيم، تطرح إضافة إلى خصوصية إعادة إعماره وسائر حيثياته المرتبطة، مشكلات اللجوء الفلسطيني إلى لبنان التي تطرح بأبعاد مضاعفة في مخيم البارد. التعليم أزمة، والصحة أزمة، والفقر أزمة، والسكن، والبيئة الاجتماعية أزمتان، والتجول كذلك، حتى إن القبور ضاقت بجُثث الموتى، وخرج من يسأل مفتي الجمهورية اللبنانية عن فتاوى تبيح حرق الجثث أو إلقاءها في البحر!

للمخيم مدخل واحد مقابل مخارج عدة. لا عوائق للخروج من المخيم أبداً، من الناحية الجنوبية، أو من الناحية الشرقية، حيث المخارج متعددة على طول أوتوستراد طرابلس - سوريا المحاذي للمخيم. أما الدخول عبر المعبر الوحيد المتاح من ناحية الشمال، فيبدأ بالمرور عبر مخابرات الجيش اللبناني، وتسليم الهوية بالنسبة إلى اللبنانيين، وتصريح المرور للفلسطينيين. وفي حال أي نقص، الحل هو بعودة الوافد من حيث أتى، سواء أكان قادماً من مخيم في الجنوب اللبناني أم من بيروت، وسواء أكانت الزيارة بداعي المرض أم الوفاة أم العمل أم أي أمر آخر. بالتالي تنتهي عملية العبور بالتدقيق بدوافع الزيارة وحيثياتها، كما بتفتيش السيارة والمتعلقات في بعض الأحيان، فيستغرق الأمر ما بين الدقائق الخمس والربع ساعة. وكأنما المقصود تسهيل مغادرة أي كان حيثما يريد مع التمنيات بعدم العودة إذا أمكن.

بمطلق الأحوال من يستطيع مغادرة المخيم من دون رجعة سيفعلها من دون تردد، إذ لا يبدو أن أزمات المخيم في طريقها إلى الحل، وخصوصاً ملف إعادة الإعمار، الذي يحتاج بدوره إلى أربعين عاماً لختمه كما يبدو، حيث لم يتم الانتهاء سوى من الرزمة الأولى من أصل ثماني رُزَم. هذا بعد مرور خمس سنوات على تدمير المخيم. وفي السياق، يُضرِب عمال المخيم المستخدمون في إعادة الإعمار عن العمل بسبب التأخر المستمر بدفع مستحقاتهم، والأسوأ أن ما من أحد بين المضربين يجرؤ على الإفصاح عن اسمه خشية أمرين: الأمر الاول يتمثل في الطرد الفوري من العمل، أما الأمر الثاني فيتمثل بحرمانه من تصريح الدخول إلى المخيم القديم. علماً أن اتفاقاً أعلن في آذار/مارس 2011 بين ممثلين عن اللجنة الشعبية في المخيم ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين-الأونروا- والشركات المتعهدة، قضى بعدم جواز سحب ترخيص أي عامل نتيجة خلاف مع المقاول، وبدفع الأجور بعد أسبوع على الأكثر. لكن الظاهر أن تلك الاتفاقات ذهبت أدراج موازين القوى المختلة لغير صالح العامل الفلسطيني.

انعكس التلكؤ في إعادة إعمار المخيم على تمديد غياب اللاجئين عن مخيمهم، وهو غياب يخشى ان يمسي مُستداماً بحكم وقائع الأمور. أما من عاد ولم يجد له مأوى فقد أقام في مستوعبات حديدية سُمّيتْ "براكسات"، درج على توصيفها بعبارة "شتاؤها غريق وصيفها حريق". ربما يجدر التنويه إلى أن الحياة الناشئة في تلك العلب غير صالحة للعيش الآدمي إطلاقاً، فإلى جانب الأمراض والأوبئة والمشاكل النفسية المتراكمة بشكل مستمر، هناك تفشّي ظواهر وإشكاليات اجتماعية وأخلاقية متنوعة نتيجة التفسّخ العائلي الناجم عن عملية الشرذمة والتهجير المتكرر لمجتمع المخيم، هذا لأن سكان "البراكسات" جرى تجميعهم دون مراعاة الحد الادنى من الروابط العائلية والأسرية التي كانت معتمدة في التجاور السكاني بين الأقرباء في المخيم. كما وتعزّز هذا الأمر حتى في القسم الذي أعيد إعماره، حيث لم تراعَ مرة أخرى علاقات القربى في اختيار المساكن، أو الكيفية التي كان الفضاء الاجتماعي للمخيم قائما عليها قبل تدميره.

أما على الصعيد الصحي، فقد كان مخيم البارد مشفى المناطق الفقيرة حول عكار الواسعة، علاوة على توفير الخدمات الطبية لأبناء المخيم، بوجه خاصً فإن أطباء كثر من عكار وطرابلس والقرى المحيطة، فضلاً عن أطباء المخيم، استطاعوا أن يضطلعوا بمسؤولية تغطية الخدمات في كل من "مركز ناجي العلي الصحي" و"مستوصف القدس"، وهما من أهم وأنشط المراكز الصحية في المخيم، وغيرهما (كان يوجد في المخيم قبل تدميره في عام 2007 نحو عشرة مراكز صحية، من بينها مستشفى الهلال الأحمر وكذلك عيادة وكالة الغوث –الأونروا-، إضافة إلى عشرات العيادات الخاصة لأطباء من المخيم، المحظورين من العمل خارج نطاق المخيم). غير أن صعوبة الحركة من وإلى المخيم حالت دون استمرار البيئة التي كانت سائدة، حتى إذا ما قامت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بتسليم إحدى العيادات الطبية المنجزة حديثاً إلى جمعية الهلال الأحمر الوطني الفلسطيني، تبيّن أن تلك العيادة أعجز من مواجهة حجم الكارثة الصحية التي أفصحت عنها وكالة الغوث، والتي تقدر أن نسبة الإصابة بارتفاع ضغط الدم تجاوزت الثلاثين بالمائة من مرضى المخيم.

وبحضور الحديث عن تسليم العيادة المذكورة، كشف حفّار القبور في المخيم، سعيد سويدان؛ الذي يشرف على تنظيم ما يتعلق بالمدافن في مقبرة خالد بن الوليد-الملاصقة لعيادة الهلال الأحمر الفلسطيني-، أن 13 حالة وفاة من أصل 17 هي حصيلة وفيات أقل من شهر واحد، كانت بسبب نوبات قلبية، والأسوأ من ذلك فيما أفصح عنه "سويدان"، يكمن في تململه من ضيق المساحة المتبقية لحفر مدافن جديدة، علماً أنه كان يلجاً لجمع جثتين في مدفن واحد توفيراً للمساحة. وللتوضيح؛ فلم يكن قد بقي حتى أواخر كانون الأول/ديسمبر 2011 من مساحة سوى لعشرة قبور جديدة.

لم يضعف هذا الواقع من عزيمة سكان البارد، بل زاد صلابتهم، حتى إذا ما طرحت واحدة من أهم قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهي قضية حقوقهم المدنية والاجتماعية، اندفعوا بحماسة، ميّزتهم عن باقي اللاجئين. ففي يوم التظاهرة التي أطلق عليها "مسيرة الحقوق المدنية الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين"، كانت لافتة نبرة أهالي البارد المشاركين في المسيرة انطلاقاً من معاناتهم، إذ قال أحد أبناء المخيم، وهو أبو نجيب درويش: "البهائم لا تعيش في براكسات البارد"، مطالباً النائب في البرلمان اللبناني، بطرس حرب (من جماعة 14 آذار المعارضة والمقربة من تحالف الحريري – جعجع) بإرسال وفد من "لجنة الرفق بالحيوان"، تعليقاً على ما أعلنه هذا الأخير من فصل بين الحقوق الإنسانية والحقوق المدنية.

كما لم يتنكر أهالي البارد يوماً لقضية شعبهم المركزية، أي قضية فلسطين، على الرغم من معاناتهم التي تجاوزت في بعض حيثياتها معاناة القابعين تحت حراب الحصار الإسرائيلي المباشر، بشهادة محمود الزهار (عضو المكتب السياسي في حركة حماس) في زيارته مخيم البارد، حين قال: "بالرغم من الحصار والقتل اليومي لأهل غزة، لكن نحن في غزة نعيش في جنة بمقياس ما أنتم فيه". ومع ذلك يوم أُنجزت عملية التبادل بين الجندي الإسرائيلي شاليط والأسرى الفلسطينيين، عاش البارد عرساً شعبياً صاخباً، حيث رفعت لافتات في الشوارع العامة، كُتب عليها "بالمقاومة نحرر أسرانا"، و"المقاومة طريق الانتصار"، كما نُصبت حواجز لتوزيع الحلوى على المارة في الشارع الرئيس، وفي بعض الشوارع الفرعية الأخرى. كذلك انطلقت مسيرات حاشدة جابت شوارع المخيم، كما أقيمت تجمعات لاستقبال المهنئين بخروج الأسرى.

وفي الذكرى الثالثة والستين لنكبة عام 1948، لم يتوانَ فلسطينيو البارد عن المشاركة بمسيرة العودة نحو فلسطين عبر الحدود اللبنانية، في الخامس عشر من أيار/مايو عام 2011، بل حفر هذا التاريخ عميقاً في وجدان أهل البارد حتى أن العديد من اللافتات رفعت وسط المخيم حملت شعار: "ما بعد الخامس عشر من أيار 2011 ليس كما قبله". طمأنت مسيرة العودة كبار المخيم إلى أن الجيلين الرابع والخامس من أبناء الثورة ما زالوا يملكون الحلم الثوري الكامل من أجل استعادة فلسطين، وما زال حلم العودة يلمع في عيون أطفال لم يعرفوا عن فلسطينهم سوى ما يرويه الأهل والأجداد وما يلاحظ من تعابير الوجوه لدى ذكر ذاك الوطن.

وكأنه لا يكفي أبناء المخيم معاناة الفقر والجوع والمرض، حتى تضاف إلى ذلك كله مآسي معنوية ليس أقلها اعتبارهم من زاوية الدولة اللبنانية ملفاً أمنياً ليس إلا، حيث تستمر الإجراءات الأمنية المشددة على الرغم من مرور خمس سنوات على أحداث المخيم. هذا على الرغم من أن فلسطينيي المخيم براء من تنظيم "فتح الإسلام" الذي أساء إلى الفلسطينيين بمقدار إساءته إلى اللبنانيين، كما يردد أبناء المخيم أنفسهم. ويُعزز من استهجان الفلسطينيين تشييد نصب تذكاري على المدخل الشمالي لشهداء الجيش اللبناني، حيث كان يتمنى الفلسطينيون أن يكون على مسافة خمسين متراً تخليداً لشهداء الجيش الذين اغتالتهم الآلة العسكرية الإسرائيلية، على أن ينتصب على مدخل المخيم ما يخلّد ذكرى الشهداء من الأطفال الفلسطينيين الذين طاولتهم طائرات الغدر الإسرائيلية نفسها.

وإذ شكا أبناء المخيم ظلم الدولة اللبنانية، وتراجع الخدمات المقدمة من جهة وكالة الغوث، إلى جانب عدم إيفاء ما يُسمى بالدول المانحة بتعهداتها تجاه ملف إعادة إعمار البارد، إلا أن الظلم الأكبر جاءهم من ذوي القربى، من "السلطة الوطنية فلسطينية". فحين حضر وفد تلك السلطة إلى لبنان في تموز/يوليو 2011، وفي مقدمته الرئيس محمود عباس، الذي التقى رئيس الجمهورية اللبناني، ميشال سليمان، غاب المخيم، فلم يسأله عن مأساة مخيم البارد، ولا عن أسبابها وأبعادها ومآلها وتاريخ انتهائها، بل كان همّ الرئيس عباس التفتيش عن صوت إضافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة يعترف بـ"دولة فلسطين"، وبـ"عضوية كاملة في المنظمة الدولية". ولأن دولة فلسطين هي للفلسطينيين من داخل فلسطين والشتات، ولان "الحل السياسي النهائي والعادل" لا يكون بمجرد التأكيد على حق العودة، كان على الرئيس أن ايلاء الأولوية لسؤال ما هي أحوال نهر البارد، وسكانه؟ كان الأولى طرح كيف يمكن تحقيق العودة بدل البحث عن وهم الدولة في أروقة القمم. بالنسبة لأهالي نهر البارد، ليس الخلل في البحث عن الدولة، ولكن ما حدث في القمة اللبنانية الفلسطينية بتركيز البحثً عن صوت إضافي لولادة "دولة فلسطين"، أبكاهم. فلا لوم عليهم إن استذكروا ما قاله مظفر النواب بعد تدمير مخيم تل الزعتر: "خلوا تل الزعتر يعتاد الظلمة... لن أبكي إطلاقاً، أبكي من يبحث في القمة عن دولته".
-----------------
*روبير ابراهيم عبد الله: باحث وصحفي لبناني، عضو لجنة التضامن الدولية مع شقيقه الأسير في السجون الفرنسية جورج ابراهيم عبد الله.