بقلم: د. سلمان أبو سته*

في شهر كانون الأول الماضي، اجتمع فرقاء المصالحة في سبيل البدء بإعادة الحياة إلى مسيرة الشعب الفلسطيني السياسية، التي عُطلت خمس سنوات دون اي مبرر وطني، بالإضافة إلى أنها وقعت دونما مساءلة كل طرف عن دوره ومسؤولياته أمام الشعب الفلسطيني بأكمله.

وكنا قد فهمنا أن في هذا الاجتماع سيقرر الأمناء العامون للفصائل، وأهمها فتح وحماس، كما باقي الفصائل القديمة والجديدة، برنامج انتخاب مجلس وطني جديد يمثل الشعب الفلسطيني في مجمله، والذي من المؤمل أن يتم خلال النصف الأول من العام 2012.

ولكن تعثرت محاولات المصالحة مرة أخرى، وأصبحت الحياة السياسية للشعب الفلسطيني مشلولة مرة أخرى. وأصبح الشعب الفلسطيني كله في الشتات وعلى أرض الوطن رهينة هذه الاختلافات، مع الاحتفاظ برأينا عن المسؤول عنها.

وفي هذه الأثناء، تؤخذ إجراءات لدى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتعقد اجتماعات برعاية وكيل إسرائيل تحت مسمى 'اللجنة الرباعية'، كما تعقد اجتماعات مع إسرائيل مباشرة، رغم البيانات الصارمة بأنه لا مفاوضات مع إسرائيل دون إيقاف الاستيطان.

وعلى الرغم من تقديرنا الكبير للنجاح الكبير في عضوية فلسطين في اليونسكو، إلا أن كل هذه التحركات والإجراءات تمت دون تفويض من الشعب الفلسطيني. وهنا مكمن الخطأ والخطيئة.

وحتى لا نستمر في هدم أو تجاهل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية منذ إتفاق أوسلو المشؤوم، يجب الأخذ في الاعتبار الحقائق الآتية:

أولاً: إن سبعين في المائة من الشعب الفلسطيني أضحى مغيّب عن الأخذ بزمام أمره، منذ انتخابات السلطة في رام الله، وهي السلطة التي يقتصر دورها على الشؤون المعيشية للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي. إضافة إلى تضخم أدوار هذه السلطة تحت الاحتلال، وهذا بتشجيع من الدول الغربية وإسرائيل، بحيث أصبحت تدعي تمثيل الشعب الفلسطيني كاملاً، إذ تجدر الإشارة هنا إلى أن قيادتها لم ينتخبها أحد، خارج مناطق السلطة المحتلة، ناهيك عن ان قرار تأسيسها الصادر عن المجلس المركزي الفلسطيني لم يمنحها ية صفة تمثيلية.

الشلل الذي يعتري م ت ف، ومن ثم تغييبها وانتزاع صفتها التمثلية في الممارسة العملية، بالاضافة الى جملة عوامل اخرى، أدى إلى حالة من الإحباط الشديد لدى باقي الشعب الفلسطيني، وإلى عدم الاعتراف بقرارات تلك السلطة من خلال بيانات ومؤتمرات وقرارات تصدر بين الحين والآخر ضد تصرفاتها. وأصبح الحال أن غالبية الشعب الفلسطيني في واد، وأن رموز السلطة – والذين قد يكوننون في ذات قيادات في م ت ف، في واد آخر مع الدبلوماسية الغربية والعربية. هذا الانفصام القاتل جرد الشعب الفلسطيني من مكاسبه التي وصلت إلى قمتها في الأمم المتحدة عام 1974، حيث نالت م ت ف صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني باعتراف دولي صريح اتاح لها نيل مرتبة عضو مراقب في الامم المتحدة.

ثانياً: في حال استمرار هذا النهج في تجاهل الشعب الفلسطيني، وترك زمام انتخابات المجلس الوطني لفصائل بعضها لا وجود له على أرض الطبيعة، وبعضها لا يحظى بدعم شعبي، فمعناه أن المجلس الوطني الجديد سيفصّل على مقاس الحاضرين فيه من الفصائل القديمة والجديدة، إما باستعمال نظام "الكوتا" -المرفوض جملة وتفصيلا-ً، أو عبر المساومات والترضيات، وهذا مرفوض بطبيعة الحال كذلكً.

ثالثاً: إن كافة أعضاء الفصائل المنظمة تنظيماً حزبياً، بمن فيهم الفصائل الفعالة اليوم على المسرح السياسي والأخرى غير الفعالة، لا يتجاوز عددهم 100.000 شخص بأي حال. وعليه فإن مسؤولية اختيار قيادة الشعب الفلسطيني، يجب أن تقع على عاتق المكوّن الشعبي الواسع الذي سينتخب هذه القيادة، ولا يعود اختيار القيادة على الراغبين في انتخاب أنفسهم. كما إن تعارض المصالح بين الطرفين خطأ سياسي ومخالفة قانونية. ولذلك فإن من الواجب، أن تساهم هذه الغالبية الشعبية غير الممثلة في إتخاذ القرارات الآن بالدور الأكبر في التحضير للانتخابات، وذلك عن طريق تمثيل جميع الجاليات الفلسطينية في هذا العمل.

رابعاً: إن ظروف الانتخابات في بلدان الشتات مختلفة، ولا يدرك أبعادها ولا يقدر على حلّها إلا الفلسطينيون في كل من هذه البلدان على حدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترك هذه المهمة للجنة أو مجموعة فصائلية بعيدة عن الواقع جغرافياً وفكرياً لن يؤدي إلى أي نتيجة مفيدة. وبكلمات أخرى، يتوجب انخراط الفلسطينيين في الشتات أو الجاليات نفسها في عملية الاعداد للانتخابات وذلك لمراعاة الظروف الخاصة بكل بلد وجالية. ويترتب على هذا أن الحالة الفلسطينية تستدعي وجود نظام للتسجيل والترشح وربما البرنامج الانتخابي، ومن ثم الانتخاب والفرز...الخ خاص بكل وضع لا يمكن جمعه في اتفاق فصائلي، أو قانون عام.

خامساً: إن تجاهل الشعب الفلسطيني في الداخل (فلسطين 1948)، الذي تمسك بأرضه ولم يغادرها عام 1948، أمر لا يغتفر، كأنما اعتبر هؤلاء وافدون أو غرباء. لقد مرت مرحلة في بداية التسعينيات كان يبدو فيها أن هذا الرأي صائباً، ولكنه الآن خطيئة. أما المحذورات في هذا الموضوع فهي معروفة وبالإمكان معالجة هذا الأمر بشيء من الحكمة.

سادساً: إن ما أسميه 'اغتيال' دوائر المنظمة ما بعد أوسلو، وخصوصاً دائرة اللاجئين، هو من أكثر الأعمال تخريباً للمنظمة. فالمنظمة أنشأها عام 1964 اللاجئون المطالبون بالعودة إلى ديارهم. وهي بذلك منظمة اللاجئين. وتقلصت المنظمة بعد التشبث بفكرة حل الدولتين إلى حجرها في دائرة 'اللاجئين' مفرغة من محتواها، لا تتولى دوراً لخدمة اللاجئين ولا نفوذ لها عندهم وليس لها أي تواجد ذو شأن في المخيمات، وليس لها أي دور سياسي أو برلماني أو قانوني. وقد قامت بسد هذا الفراغ، حينما تخلت المنظمة عن واجباتها، لجان حق العودة التي انتشرت في جميع أنحاء الشتات، وقامت بدور رائع في التعريف بقضية اللاجئين وحق العودة. ولذلك فإن غياب اللاجئين عن القيام بدورهم في اختيار ممثليهم لا يمكن القبول به تحت أي ظرف. ولقد أحجم اللاجئون عن إتخاذ أي إجراء انفرادي سابقاً، كيلا يقال أن هذا يشق المنظمة الغائبة، وذلك انتظاراً لليوم التي تتم فيه انتخابات نزيهة للمجلس الوطني.

سابعاً: إن مساهمة الشتات في التحضير للانتخابات وتنفيذ إجراءاتها هو أيضاً تذكير لهؤلاء الذين فقدوا الذاكرة من 'السياسيين المحترفين' الذين خلقوا كارثة أوسلو، بأن فلسطين تمتد من رأس الناقورة إلى أم الرشراش ومن رفح إلى البحر الميت، وأن أهلها هم الفلسطينيون الذين يعرفون أين هي ديارهم وقراهم، وأنهم لن يقبلوا تحييدهم عن هذا المسار. وأن قضيتهم ليست مقايضة دونم بأرض محتلة عام 1967 بأرض محتلة عام 1948، وليست نزاعاً على حصتهم من المياه، وليست قضية تنظيم المعابر تحت الاحتلال الإسرائيلي. يجب أن تعود فلسطين التي نعرفها إلى الواجهة. وهؤلاء الذين فقدوا الذاكرة يجب أن يذهبوا هم إلى عالم النسيان.

ثامناً: إن من أول واجبات المجلس الوطني الجديد هو العودة إلى الجذور واسترجاع الحقوق، وهذا يستدعي محاسبة كل من أخل بهذا الواجب خلال العشرين سنة الماضية. إذن، فكل من عليه شبهة معروفة يجب ألا يتمتع بأي دور في الانتخابات. وبناء عليه، فمن غير المعقول أن يكون بعض المنظمين للانتخابات أو المسيطرين عليها بشكل أو آخر، هم ذاتهم من الذين يعلم الجميع أنهم سيخضعون للمحاسبة على إخلالهم بالواجبات الوطنية.

تاسعاً: يجب أن تكون برامج ولجان انتخابات المجلس الوطني مستقلة استقلالاً تاماً، وأن لا يكون لدى السلطة أي دور فيها، إلا فيما يتعلق بتنظيم الانتخابات محلياً في الضفة المحتلة.

عاشراً: باستثناء دوائر التعليم والصحة والبلديات التي كانت تعمل بكفاءة قبل وصول السلطة، حتى تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، فإن بعض دوائر السلطة الجديدة تحتاج إلى تنظيف بالكامل، وحتى الإلغاء والمحاسبة القانونية، وبها من الفساد الوطني والأخلاقي والمالي ما يجب اجتثاثه من جذوره.

لقد عششت الجرائم الجنائية في بعض مناطق السلطة (أ) وفي بعض مناطق الضفة (ج) التي لا تسيطر عليها السلطة. وعمليات المحاسبة يجب ان لا تقتصر على الخلل المالي الذي قد يبدو الأبرز للعيان، إنما يجب أن تتناول الاخلالات الإستراتيجية على مستوى الحقوق والبرامج السياسية الوطنية، والتنسيق الأمني الذي لم يصب إلا في خدمة إسرائيل وعلى نحو يخجل له كل من كان فخوراً بالتاريخ الفلسطيني. ويكفي أن نستذكر هنا أنه عندما عاقبت أمريكا فلسطين بسبب عضوية اليونسكو، قطعت عن الشعب إعانات المعيشة والخدمات، وأعادت تمويل ما يتصل بالتنسيق الأمني لان في ذلك خدمة لها ولإسرائيل.

إن من المحزن حقاً أن القطاع الشرقي من فلسطين (المعروف باسم الضفة الغربية) الذي أشعل ثورة 1936 وأبقى على أرضه نظيفة من الاستيطان اليهودي، إلى حين ضمه إلى الأردن عام 1950، يصبح الآن بؤرة لكل أنواع الفساد، يعاني فيه الشعب من حالة خمول وتهجين تمس جوهر هويته الوطنية.

إننا نعول كثيراً على وطنية العديد من أبناء الشعب الفلسطيني وهم كثر والحمد الله. ويجب ألا نجعل من الإحباط الذي يسود بعض الأوساط الفلسطينية اليوم، أو من الاستفراد بالقرار خارج التمثيل الفلسطيني فرصة أو عذراً لاستمرار الأحوال التي أودت بنا إلى الوضع الحالي. إضافة إلى ذلك، يتوجب علينا أن ندرك فعلاً، وليس قولاً، أن فلسطين أكبر بكثير من أي من مكونات أحزابها السياسية، التي مهما كبرت فهي لا تزال صغيرة جداً، وهذه الأخيرة بالطبع لا تملك حق القرار المنفرد نيابةً عن شعب فلسطين، ولا تملك الخبرة أو الحكمة الشاملة التي يوفرها لها دور الشعب الفلسطيني كله في تقرير مصيره.

كما أن أفراد الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجدهم مطالبون أيضاً بالقيام بدورهم الحقيقي والفعلي، وتسلّم زمام أمورهم؛ عن طريق تكوين لجان ومجموعات في كل أماكن الشتات للمطالبة بتمثيلهم، إذ لا تكفي الأعمال السلبية من انتقاد أو شكوى. ولو قام كل فرد بدوره لما وصلنا إلى هذا الحال. والثقة عظيمة في أن هذا الشعب المناضل منذ مائة عام لن يتخلى عن دوره التاريخي في تحقيق عودته وحريته.
-------------------------------
* سلمان ابو ستة: المنسق العام لمؤتمر حق العودة.