إرادة الحياة انتصرت على إرادة الموت الاسرائيلي الأسير خضر عدنان... بوبي ساندز فلسطين

بقلم: عيسى قراقع *
في اليوم السادس والستين بتاريخ 21/2/2012 علق الأسير الفلسطيني خضر عدنان ابن قرية عرابة قضاء جنين ملحمته الإنسانية الفريدة؛ إضرابه عن الطعام الذي خاضه احتجاجاً على اعتقاله الإداري التعسفي واحتجاجاً على معاملته اللا إنسانية التي تعرض لها خلال اعتقاله، وذلك بعد أن تراجعت حكومة الاحتلال ووافقت على الاكتفاء بمدة اعتقاله الإداري (4 شهور) وعدم تجديد هذا الاعتقال له.

خضر عدنان حمل مهمة إنسانية كبيرة وهو يواجه وحده سياسة الاعتقال الإداري التي تستخدمها سلطات الاحتلال في مخالفة لأحكام القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف الرابعة. انتصر خضر، إذ سيفرج عنه في 17 نيسان يوم الأسير الفلسطيني ليضيء شعلة الحرية للأسرى والمعذبين القابعين في سجون الاحتلال.
منذ عام 1967 زجت قوات الاحتلال ما يقارب مائة ألف مواطن فلسطيني في الاعتقال الإداري الذي استخدم على أوسع نطاق وخاصة خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، حيث وصل عدد أوامر الاعتقال الإداري إلى 50 ألف أمر.

وعلى الرغم من الحملات الدولية والقانونية التي انطلقت ضد سياسة الاعتقال الإداري واستطاعت في مراحل معينة أن تنجح في تقليل أعداد المعتقلين إداريا؛ إلا لم تفلح في إلغاء هذا القانون المستمد من قوانين الطوارئ البريطانية لعام 1945.

التضحية الفردية التي قام بها الأسير خضر هي الأولى منذ بداية الاحتلال، والأولى التي يقف فيها أسيرا في مواجهة سياسة رسمية إسرائيلية وأحد قوانينها وإجراءاتها التعسفية المطبقة بحق الأسرى الرازحين في السجون.

الأسير خضر عدنان في رحلة الجوع الصعبة التي خاضها تحول إلى رمز فلسطيني، وحالة نضالية إنسانية عالمية، سلط الضوء والانتباه إلى ما يدور خلف قضبان سجون الاحتلال. وضع المجتمع الدولي والإنساني والأمم المتحدة وقراراتها أمام امتحان عسير في مدى قدرتها على صون العدالة وتطبيق القانون الدولي على الأسرى الرازحين في السجون.
لم يمر في تجربة الحركة الأسيرة أن خاض أسيرا منفردا إضرابا طوال هذه المدة. كانت تجربة الأسيرة عطاف عليان في إضرابها المفتوح عن الطعام لمدة 40 يوماً عام 1997 ضد اعتقالها الإداري هي التجربة المماثلة، وقد رضخت حينها سلطات الاحتلال لمطلبها بعدم تجديد اعتقالها مقابل تعليق إضرابها عن الطعام.

الأسير خضر يقف إلى جانب المناضل الاممي الايرلندي الأسير بوبي ساندز الذي خاض إضرابا مفتوحاً عن الطعام لمدة 66 يوماً عام 1981 وقد سقط شهيداً في سجن (ميز) في شمال ايرلندا؛ ليصبح بذلك رمزا للمناضلين من اجل الحرية والاستقلال، ولتترك خطوته تلك أثرا كبيراً في مسيرة استقلال ايرلندا الشمالية والإفراج عن جميع الأسرى المحتجزين.
لا عجب ان تتشابه مطالب بوبي ساندز بالمطالب التي يطرحها الأسرى الفلسطينيين، فحكومة إسرائيل أخذت الكثير من اسوأ القوانين والتعليمات التي وضعتها الحكومة البريطانية إبان عصر استعمارها للشعوب، واستمرت في تطبيقها على الأسرى الفلسطينيين ومنها الاعتقال الإداري.
بوبي ساندز كان يطالب برفض ارتداء زي السجن معتبراً نفسه أسير حرب. رفض العمل داخل السجن لصالح الحكومة البريطانية. كان يطالب بحقه في الحصول على الزيارات، والحق في تنظيم الحفلات والنشاطات داخل السجن.

لقد أظهر قادة وكوادر الجيش الجمهوري الايرلندي استعدادا عارما للتضحية بحياتهم من أجل قضيتهم. وهنا يأتي الحديث عن (ساندز) الذي قام بالإضراب عن الطعام هو ورفاقه الشباب من أجل الحصول على صفة "سجناء سياسيين"، وبالتالي حصلوا على اعتراف بريطاني بجماعتهم. وأثناء إضراب (ساندز) عن الطعام، قام الأيرلنديون بانتخابه لمجلس العموم البريطاني! ورغم عضويته في "المجلس"، إلا أن الحكومة رفضت الخضوع لمطالب الجيش الجمهوري. توفي (ساندز) بعد 66 يوما قضاها ممتنعا عن الطعام، وتبعه على درب الموت تسعة من رفاقه على مدى الأشهر الثلاثة التالية. وفي نهاية المطاف، استسلمت الحكومة البريطانية للأمر الواقع واعترفت بكون أسرى الجيش الإيرلندي أسرى سياسيين.

لقد مثلت تجربة (ساندز) ورفاقه المصداقية الكفاحية والثقة بالقدرة على النصر، وعززت الإيمان لدى المقاتلين بحتمية النجاح. ذلك أن (ساندز) الذي أصبح وهو في السجن، وقبل شهر واحد من وفاته، عضو برلمان، ترك أثرا بالغا في مسيرة الجمهوريين، الأمر الذي حفزهم على الانخراط بصورة أكبر في خوض الانتخابات واستخدامها كسلاح جديد. وتتضح قيم ساندز الفكرية والفلسفية، في حق الإنسان - وبالتالي الأيرلنديين (وغيرهم) - بالمقاومة حين تتعرض بلادهم الى الاحتلال، وحق مقاتلي جيش إيرلندا الجمهوري السري بالمعاملة كمعتقلين سياسيين وليس كمجرمين. أضحى الإضراب عن الطعام تعبيرا عن الاحتجاج السياسي، وكشف عن تحول كبير في ثقافة المقاومة السلمية.

منذ البدايات، جمع الشعب الفلسطيني في النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي، بين فلسطين وإيرلندا. فالقضيتان أيضا متشابهتان بحكم كون الصراع في إيرلندا أيضا صراع تحرير للبلاد من المستعمر. وهو أمر جعل كلا من الشعبين يتعاطف مع الآخر ماضيا وراهنا، حيث تكفي الإشارة إلى النجاحات الكبيرة التي تحققت مؤخرا في ايرلندا بشأن حملات مقاطعة اسرائيل.
المهمة النضالية التي قام بها الأسير خضر أصبحت اكبر من مجرد النضال لإلغاء قانون الاعتقال الإداري، وإنما المطالبة بالتعامل مع الأسرى الفلسطينيين بكرامة وفق القوانين الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، باعتبارهم مقاتلي حرية لا يحق لدولة الاحتلال تطبيق قوانينها وإجراءاتها العسكرية عليهم.
الجسد الذي يذوب، والروح التي تحلق وقد أصبحت في خطر، استدعت المجتمع الدولي برمته إلى الإسراع في التدخل لتوفير الحماية القانونية للأسرى داخل سجون الاحتلال والذين يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات والممارسات الوحشية التي تمس حقوقهم وكرامتهم الإنسانية.

ليس غريباً أن يتضامن الايرلنديون مع خضر عدنان، فهم يجدون فيه مشروعهم الذي دفعوا من اجله ثمناً غالياً في سبيل حريتهم واستقلالهم. لقد أضاءوا الشموع وهتفوا للحرية مطالبين أن لا يذهب خضر ضحية سياسة استعمارية مثلما ذهب بوبي ساندز حتى استيقظ العالم أمام جريمة ترتكب في ظل العجز الدولي عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وسياساته.
خضر عدنان وضع الإسرائيليين في مأزق أخلاقي وإنساني وقانوني. استطاع أن يحاصرهم عالميا ويفضح سياساتهم العنصرية. لقد اسقط الرهان الاسرائيلي، فلم يتعب ولم ينكسر برغم التحريض والمحاولات الاسرائيلية اليمينية لعدم الاستجابة له ولقتله.

صحيفة "إسرائيل اليوم" الإسرائيلية حذرت من الاستجابة لمطالب الأسير خضر، وقالت: إذا نجح الأسير خضر فهذا يعني إلغاء قوانين الاعتقال الإداري وتحويل قضيته الى صهريج وقود في وجه اسرائيل وفضحها على المستوى العالمي.
ستة وستون يوماً وسلطات الاحتلال تتعاطى بلا مبالاة مع حياة ومطالب الأسير خضر، مستهترة به وبكل التدخلات والنداءات التي طالبتها باحترام حقوقه وبإلغاء إجراءات الاعتقال التي اتخذت بحقه كونها غير قانونية وغير شرعية.

الأسير خضر، الذي لم تقدم له لائحة اتهام ولا يعرف تهمته التي استدعت اعتقاله، يضع دولة الاحتلال أمام محك أخلاقي وقانوني، يفجر في أعماقها تاريخاً متكدسا من الجرائم والممارسات اللا إنسانية التي ارتكبتها. خضر يفتح أبواب السجون وزنازينها وظلمات غرف التحقيق فيها أمام مؤسسات المجتمع الدولي لتأخذ دورها ومسؤوليتها في مواجهة استعلاء إسرائيل على القيم والمبادئ والثقافة الإنسانية.

الآن انتصر الأسير خضر بجوعه وصموده على الدولة النووية المتضخمة عسكريا، فهل تتعظ إسرائيل وتطلق سراح الاسرى الفلسطينيين كما حدث في التجربة الايرلندية كما يقول الصحفي الإسرائيلي يهود ليطاني الذي دعا دولته إلى وقف "الرقص على السلالم" والاستفادة من التجربة الايرلندية وتحرير الأسرى كطريق حقيقي نحو السلام؟
بوبي ساندز استشهد في السجون البريطانية. وخضر عدنان تغلبت إرادة الحياة لديه على إرادة الموت الإسرائيلي. ومن هنا علينا أن نبدأ؛ من حيث انتهى لنكمل مسيرة الحياة والنضال حتى الحرية وإنهاء الاحتلال وقوانينه الاستبدادية.
* عيس قراقع: وزير شؤون الأسرى والمحررين، عضو الجمعية العامة لمركز بديل.