أثر اللجوء على الهوية الفلسطينية

بقلم: رفعة أبو الريش*

التاريخ من وجهة نظر ميشيل فوكو، هو نسيج غير بريء يحمل بداخله رؤى وقراءات وتقييمات تتحكم فيها وجهة نظر معينة لها تأويلها وقصدها. فهو من المؤمنين بالخطاب المناهض للتاريخ، خطاب حرب الأعراق المناهض لخطاب التاريخ الرسمي، أو لتلك الممارسة التي تربط رواية التاريخ بطقوس السلطة. يرى فوكو " أن الخطاب التاريخي ومنذ القدم كانت مهمته ووظيفته أن يقول حق السلطة، ويؤكد الزواوي بغورة أن فوكو لا ينكر التاريخ وإنما ينكر تاريخا معينا أو تصورا معينا للتاريخ، بل انقراض ذلك الشكل من التاريخ الذي كان يحيل ضمنيا إلى النشاط التركيبي للذات". (ميشيل فوك، 1969,ص15، في الزواوي بغورة،2007, ص225).

ويضيف بغورة: "عندما يتخلص المؤرخ من مفاهيم التاريخ الشامل، يجد نفسه كما يقول فوكو" أمام ميدان رحب يمكننا في تعريفه القول بأنه يتكون من المنطوقات الفعليةمنطوقة أو مكتوبة- في انتشارها كأحداث وفي اختلاف مستوياتها". ويكون المطلوب من المؤرخ، وصف وتأويل تلك الأحداث الخطابية والإجابة عن سؤال أساسي هو: ما الذي يجعل منطوقا معينا يظهر، دون منطوق آخر بدلا منه؟ مما يعني النظر إلى المنطوق، أو الملفوظ، أو إلى الخطاب في مجمله كحدث، وتحديد شروط وجوده، وتعيين مختلف وظائفه. من هنا وجب إلغاء الوحدات الكبرى والفروع المعرفية من أجل أن نعيد للمنطوق وظائفه التي تميزه كحدث". (الزواوي بغورة،2007,ص225).

ماذا يكتب الفلسطيني عندما يبحث في موضوعة اللجوء والهوية؟ بناءا على أفكار فوكو الأنفة، يجب أن تقدم فلسطين على أنها لحظة تاريخية ضد التاريخ العالمي الاستعماري، وأيضا في هذه المحاولة الكتابية يجب أن تكون ضد العادة، لأن الشعوب التي تنضج معاناتها وتتشبع بالوعي التاريخي تتجه إلى اعتبار التاريخ وسيلة أساسية للتغيير، وللكشف عن تاريخها المصادر، والمغيب بفعل المحتلين. ففي "البحث التوراتي الغربي أستخدم مصطلح (فلسطين) دائما، إلا أنه تمت تعرية المصطلح من أي معنى حقيقي إزاء البحث عن (أرض إسرائيل) القديمة. وليس لفلسطين معنى جوهري قائم بذاته، ولا تاريخ خاص بها، لكنها تقدم خلفية لتاريخ إسرائيل. ويتساوى مع غياب التاريخ غياب آخر لسكان الأرض، وأن تاريخ فلسطين وسكانها بشكل عام مهمش، ومسكت نتيجة الاهتمام والبحث عن إسرائيل القديمة " (كيث وايتلام، 1996، ص40-45، في نور الدين مصالحة، 2003، ص19).

لنبدأ من النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948 - مع أن معاناة الفلسطينيين ومآسيهم بدأت قبل ذلك الحدث بكثير- لنرى كيف أصبح ذلك الحدث المفصلي صاحب الأثر الأكبر في حياة الفلسطينيين؛ "لا شك في أن النكبة عام 1948 قد شكلت عنصرا أساسيا مكونا للهوية الفلسطينية وبقعة في الذاكرة الفلسطينية الجماعية التي تربط كل الفلسطينيين بنقطة معينة، في وقت أصبح لهم الحاضر الخالد (السعدي، 2002, ص177)، لكن روز ماري صايغ تناقض وصف السعدي للأثر الذي خلفته النكبة قي تشكيل الهوية وتوحيدها، فتقول: "قد تأصل حتى قبل تسجيل الحدث، وقبل أن يتم تدوينه لمعرفة العالم، ودون أن يتطرق إلى تجربة الفلسطينيين أثناء فترة التهجير. في حين أنه يمكن أن تفهم أسباب النكبة بطريقة كافية عن طريق تحليل عوامل سياسية إقليمية وداخلية عدة. فغياب الأصوات الفلسطينية من معظم هذه الاعتبارات والعوامل يوازي ويماثل على المستوى النصي استبعاد الشعب الفلسطيني الأصلي من قبل الإمبرياليين والمستعمرين على حد السواء. على الرغم من أن هذا الصمت عن أحداث التجربة الفلسطينية الشعبية في الفترة ( 1947- 1948) بحاجة إلى تغيير، فإن الاعتراف بأن الشعب الفلسطيني تفاوت في معايشة النكبة – سواء أكان ذلك بالطريقة أم بالعواقب- وهو جزء أساسي لا بد منه لتفهم أثار الكارثة؛ فالنكبة في أحد جوانبها حدث موحد للفلسطينيين، أنها تركتهم جميعا دون وطن، ولكن هذه التجربة تفاوتت بشكل واسع بينهم وفق الطبقة والمنطقة والموقع وفترة الهجوم. كما أنها اختلفت لدى الرجال والنساء، الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، هؤلاء الذين هاجروا وأولئك الذين بقوا في أراضيهم، وكذلك فرقت النكبة بين الناس من حيث مصيرهم اللاحق وفرصهم في الحياة، كيف وأين يمكنهم العيش، ومع أي نظام، مع أي درجة من التقبل أو الرفض. لا بد من أن تخط هذه الفروقات الداخلية على القصة الجماعية غير المكتوبة للفلسطينيين. ( روز ماري صايغ, 2008, ص26).

تناقش كارن يوغرست، كيف تمس الأفكار المتعلقة بأهمية الذاكرة الجماعية في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، تساؤلات عن الهوية الجماعية، وعن التاريخ مثلما تمس كتاب التاريخ والأيديولوجيا، والمكان، والزمان، وليس آخر ذلك التساؤل عن ظاهرة القومية والهوية القومية على السواء، لا يدركان على أنهما ظاهرتان طبيعيتان محددتان من الوجهة الثقافية، بل أنهما تركيبان مشتقان من موقف سياسيتاريخي محسوس (كارن يوغرست,2007، ص 309).

يؤكد أندرسون على أن ظاهرة القومية، والدول القومية ليست إلا تطورا حديثا يرتبط أساسا بالمرحلة الرأسمالية وبنشأة الطباع السلعية ( أندرسون, 1999,ص 21). وأن هذه السمات القومية والدول القومية والهوية القومية لم تكن معروفة في الحقب التاريخية السابقة، وضمن هذا السياق يحذرJoel CANDA في كتابه identite" et Memoire" أن المدى الذي يشغله فن الذاكرة في العالم الحديث خطير جدا؛ حيث يستفيد منه المؤرخون والمؤسسات والمواطنون المثقفون منهم والعاديون، غير أنه يساء استخدامه، واستغلاله إلى حد كبير، لأن الذاكرة ليست ممثلة في شيء ساكن يمتلكه أي امرئ أو يحتويه، بل هي شيء قابل للتركيب وإعادة الصياغة ( Pierre nova,1984,p.1)

الذاكرة من وجهة نظر إدوارد سعيد لا تكون بالضرورة ذاكرة أصيلة؛ بل على الأصح ذاكرة نفعية، حيث يلاحظ تصرف الإنسان في الإرث بالإختلاق والحذف، وهو منهج واقعي في استخدام الذاكرة الجمعية من خلال طمس قطع معينة من الماضي القومي وإبراز البعض الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى، وخير مثال على ذلك الكيفية التي وظفت بها قضية الهولوكوست لتعزيز الهوية القومية الإسرائيلية بعد سنوات من عدم الإكثراث بها (إدوارد سعيد، 2000 , ص122). نتيجة للتوظيف الإيديولوجي الواعي لذكرى المحرقة من قبل الحركة الصهيونية، أصبحت المحرقة عنصرا مركزيا من عناصر الهوية الجماعية اليهودية، وبحكم كونها الأساس الأهم من بين أسس التسويغ لوجود إسرائيل. مع أن توصيف توم سيغف للمحرقة بأنه لم يكن لأحد في إسرائيل أن يسمع شيئا عنها، ولم يتحدث الآباء للأبناء عنها، ولم يكن المجتمع الإسرائيلي يعرف على الإطلاق كيف ينبغي له أن يتعامل معها، وكان القوم يشعرون بالعار من جراء المحرقة ومن جراء ضعفهم (كارن يوعرست، 2007,ص 320).

بيد أن الكتابة التزييفية المتقنة للتاريخ وسيطرة الرواية التاريخية الصهيونية في التاريخ العالمي الإستعماري، وقدرتها على تغييب الرواية التاريخية الفلسطينية لسكان الأرض الأصليين، حدا بالكثير من الباحثين ومن بينهم الباحثة الألمانية أستريد إرل إلى إعتبار أن المصادر التاريخية "العلمية" لم تكن يوما من الأيام انعكاسا نزيها وصادقا للماضي، فالكتابة التاريخية تبقى في نهاية المطاف نتاجا "مصطنعا" يسعى إلى تفسير الماضي منظورياً، أي وفق منظور محدد بل وأحادي. إلى جانب هذا، فإن عمل المؤرخ ليس أبدا تحقيق الإنصاف الموضوعي، بل الكتابة التاريخية فقط. علاقة المؤرخ بموضوعاته التاريخية هي إذن علاقة شخصية إلى حد ما، فهو يتعامل معها وفق منظوره الشخصي الانتقائي حتى أن البنية السردية التي تظهر فيها الأحداث التاريخية مجددا هي من اختياره الشخصي. على هذا الأساس، ترى أسترد إرل أن اتصاف الكتابة التاريخية ب: "الموضوعية" و"الحيادية" العلميتين هو أمر ليس من المستحب التسليم به بسهولة ( أسترد إرل، ص 41-45، في زهير سوكاح، 2008، ص81).

الذاكرة الجمعية والهوية

تتشكل الذاكرة الجماعية كما حددها هلبواكس بفعل الإطار الاجتماعي ويتم تقييدها في الإنسان، وتنبثق من الفرد بموجب تواصله مع الآخرين وانتمائه إلى المجموعات الاجتماعية. وكل ذاكرة فردية تحتاج بناءً على ذلك إلى إطار التعلق الاجتماعي لتضرب بجذورها وتترسخ وتحافظ على ذاتها. والإطار الجماعي لا يعتمد في أثناء ذلك على ذاكرة ذات حدة متراصة وتناغم كلي، غير أنه يحدد ذكريات أعضائه كل على حدة، ويحدد هو نفسه من جراء ذلك. مع ذلك فيما يختلف في الذاكرة لا يكون كيفما أتفق أو على نحو تعسفي؛ والحق أنه بينما يتذكر الفرد، تقرر الفئة الاجتماعية ما هو جدير بالتذكر. أما الفرد فيستبين كل هذه الأطروحة عن طريق الأحداث المنقولة. في هذه الأثناء، يستطيع الفرد أن يتذكر ويكون له ذاكرة مطبوعة بالطابع الاجتماعي، وهنا على وجه الخصوص تتضح السمة التواصلية في مفهوم هلبواكس، فلولا النقل التواصلي لما أمكن الحفاظ على ما يمكن تذكره. وفي الذاكرة الاجتماعية لا يبقى من الماضي إلا ما يستطيع المجتمع وفي كل حقبة يريد أن يركبه في إطار تعلقه في كل مرة. في هذه الأثناء لا يتم الحفاظ لا على الأحداث بما هي أحداث ولا على بعد المدى التاريخي الخاص بالتجارب والذكريات في المجتمع، وفي الذاكرة الجماعية بل يتم الحفاظ في المقام الأول على المعنى الذي تحمله هذه الجماعة عن مجتمع ما، وبموجب ذلك تكون الذاكرة الجماعية قبل كل شيء هي مؤسسة لإضفاء المعنى وإنشاء الهوية (موريس هلبواكس،1985، ص121-290, في كارن يوغرست،2007، ص311-314).

تخبرنا روشيل ديفيس عن فائدة الذاكرة، بصفتها مرتبطة بالثقافة في أنها تسمح لنا بأن نفهم الماضي وتجلياته الحالية. أخذة في الاعتبار السياسات التاريخية والاجتماعية والثقافية التي صاغت الماضي، بالإضافة إلى أن ذلك الأسلوب القصصي الذي يتم من خلال التعبير عن الذكريات شفويا أو خطيا أو رمزيا، يعتبر مكونا ضروريا من مكونات الذاكرة الثقافية. وتعتقد ديفيس أن الكتابات الفلسطينية التي تصف حياة الفلسطينيين قبل عام 1948 تعتبر ممارسة اجتماعية وثقافية لاستذكار الماضي، وتستخدم أساليب قصصية تخضع للمعايير الثقافية والاجتماعية التي يمكن عبرها إمتلاك السلطة التاريخية لسرد القصص التاريخية ( روشيل ديفيس,2007, ص 175-178). وترى ديفيس أيضا أن التاريخ الفلسطيني قد روى إلى حد كبير عبر قصص فردية تعبر عن التاريخ الجماعي وتشكل محطات في الحياة الفلسطينية الحديثة مثل وعد بلفور، ثورة 1936، وحرب 1948. ليس من المفاجئ أن تركز عملية فهم هذا التاريخ على إنخراط الفلسطينيين في هذه الأحداث السياسية وتأثيرها فيهم. تبين تركيبة هذه النصوص رؤية الفلسطينيين لآثار حرب 1948، كما تراها النخبة المثقفة والاجتماعية والسياسية التي تناقلت الجزء الأكبر من الروايات الشخصية عن الخسارة الفلسطينية الجماعية ( روشيل ديفيس،2007، ص 175-176).

أما الهوية فهي كيفية تعريف الفرد لذاته، وهي حقل متعدد الأبعاد، ذو طبيعة جدلية يضم متناقضات واختلافات تتحرك داخل عملية صيرورة؛ فبهذا المعنى الذي نستمده من حقل الهوية المتعدد والمختلف، منه يحدد كل شخص موقعه الخاص داخل العملية الاجتماعية، أو على الأقل انطلاقا منه يتحدد موقعه. نظرا لهذا التشابك الموجود بين الذات وحقل الهوية ضمن السياق الاجتماعي العام، فإنه كلما أضيف عنصرا إلى هذا الحقل، أو مسه من قريب أو بعيد، فان الذات والسياق العام الذي ينتمي إليه ينفعل بالضرورة بهذا العنصر، أو يتفاعل معه حسب منطق الصراع والاختلاف الذي يميز حقل الهوية ( محمد نور الدين افاية، 1988، ص 22).

بما أن النكبة والتهجير تركت آثارها على ذاكرة الفلسطينيين وهويتهم بصور متفاوتة، كما أشارت روز ماري سابقا، تبعا للمصير الذي لحق بهم وتبعا للبلدان التي لجأوا إليها وغيره من الأسباب التي سبق ذكرها؛ مما عرض الهوية الفلسطينية إلى التشويش والإضعاف، فأصبحت هويتهم مركبة ومزدوجة وأصبح لديهم إنتماءات أخرى متعددة للبلد الذي يعيشون فيه، وهذا يعني أن في داخل كل فلسطيني يعيش في المنفى صراع تلتقي فيه الإنتماءات المتعددة وتتصارع فيما بينها وترغمه على القيام بخيارات مؤلمة (للمزيد من الاطلاع أنظر إلى أمين معلوف: الهويات القاتلة، الطبعة الأولى، 1999).
بالنسبة للذاكرة الجمعية فهي مرتبطة بالطابع الاجتماعي للتذكر الفردي كما يفسرها هلبواكس، إن استناد الأفراد في استعادتهم، وتجديدهم للماضي إلى الإطارات المرجعية الاجتماعية، يجعل ذكرياتهم ذات طابع مرجعي جمعي. ويعتبر هلبواكس الذاكرة المشتركة لجماعة بشرية معينة شرطا لا حياد عنه لوجود هذه الجماعة نفسها؛ حيث تؤسس هويتها عبر التذكر الجماعي. هذه الهوية الجماعية هي نتيجة للتفسير المشترك للماضي الخاص بتلك الجماعة، وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الذاكرة الجمعية هي ذاكرة الذاكرات الجماعية، أو الجمع الرمزي لهذه الذاكرة في مجتمع بشري ما. وهنا تتجلى بوضوح وظيفة الذاكرة الجمعية في علاقاتها مع المجتمع كما يراها هلبواكس؛ وهي تأسيس المجتمع وضمان صيرورته (موريس هلبواكس, 1985,ص149- 271). بذلك تكون السير الذاتية والروايات الشفوية للاجئين الفلسطينيين عن ماضيهم المغيب والمصادر صوتا جماعيا، أي إعادة تعريف للإنسان المضطهد، بشكل يحيل على ما كان، وعلى ما يجب أن يكون عليه ( فيصل دراج، 2002,ص82).

فالأصوات الجماعية هذه، عدا أنها وسيلة لحفظ الهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية، فهي حصيلة التجربة الإنسانية لهم في أراضيهم (فلسطين التاريخية)، عبر الزمن التاريخي التراكمي لهم. فالوطن من خلال سيرهم الذاتية ورواياتهم الشفوية هو الوقود اللازم لإعادة تشغيل التاريخ وشحنه بالذاكرة، ذاكرة المكان، لأن المكان يمثل للاجئين الفلسطينيين معنى الوجود كبشر مقتلعين من أراضيهم وبموجب ذكرياتهم عن المكان سيتم إستعادة صوتهم المغيب من التاريخ، وتفعيل ذواتهم كذوات فاعلة في الزمن الممتد كتاريخ من خلال المعاني التي تحملها ذكرياتهم للمكان، ولأدوارهم المختلفة في المجتمع والتي تجاهلها التاريخ وأسقطها منه. ومن خلال ذاكرة المكان التي تعكسها ذكريات اللاجئين الفلسطينيين عبر سيرهم الذاتية