الانعكاس في النص: الهوية محل الفاعل والمفعول به

بقلم: نضال الزغير*

ترافقاً ومطلع القرن العشرين وحتى اليوم، وضع الإنسان المعاصر في مواجهة مستمرة مع تحولات جوهرية في أنماط إنتاجه؛ بحيث تميزت هذه التحولات بالسرعة في مجملها - مع التنبه إلى اختلاف مدى هذا التحول ومخرجاته من تجربة إلى أخرى- وبالتالي انعكست هذه التحولات اجتماعياً وسياسياً وصولا لحقل البنية الثقافية لسكان الكوكب. تبعا لذلك، بدأت تظهر إرهاصات التحول في الأدب المعاصر ومدارسه، التي شهدت تطويرا لما سبق وابتكارا لما تنتجه التجربة من جديد، بشكل أكثر وضوحا، في حقل الرواية، والمسرح، والشعر، والسينما، والكاريكاتير. وقد قدر لهذه الأعمال التي تعكس بيئتها وبنيتها الخارجية في المرحلة التي نتجت فيها، أن تكون احد الشواهد على تاريخ المجتمع الإنساني، هذا بغض النظر عن موضوع الإنتاج الأدبي أو المنحى الذي يرتسمه.

إن أهمية الأدب كعامل فاعل في تشكيل صورة عن المجتمع الذي ينبثق منه، وينطق أو يحاول النطق بلسانه، تتحدد من مدى ضرورة فهم التحولات ونقاط الثبات المرجعية التي يحملها هذا الأدب، ومدى قدرة العمل على التأصيل لذاته ولمجتمعه، إذ أن الإنتاج الإنساني ليس وليد الصدفة ولا فجوة هوائية؛ إنما هو عصارة تجربة، وتجربة إنسانية في مواجهة الحياة بالدرجة الأولى، ومحاولات الإنسان دوما للنهوض بغد أفضل حسب ما يتفق مع رؤاه ومصالحه.

منذ الألواح المسمارية مرورا بالإلياذة والأوديسة عند هوميروس، وبعدهم العديد مثل: تولستوي، غوركي، لوركا، ماياكوفسكي، حنا مينة، فكتور جارا، ناظم حكمت وعبد الرحمن منيف كأمثلة متباينة على أعمدة الأدب الإنساني، وصولا لما يعرف بأدب ومنشورات المدونات على الشبكة العنكبوتية، ظل السؤال الأكبر هو: هل هذا ما يحتاجه ويستحقه الإنسان؟ أي بكلام آخر هل هذا هو الإنسان الحقيقي؟ هل هو ذاته الذي نراه في الأدبيات حولنا؟ أو بتعبير لينين "صحيح أن عمالنا وفلاحينا يستحقون شيئا ما أكبر من التمثيليات". هذه التساؤلات الدائمة الحضور توضح أنه يصعب فصل الأدب عن واقع الحياة البشرية. وبحسب أدونيس فان "السياسة الثورية هي، بالضرورة، مثقفة، والثقافة الثورية هي، بالضرورة، مسيسة. فالعلاقة في الثورة بين الفن والسياسة؛ إنما هي علاقة عضوية". من هنا يتضح، بل يتأكد مبدئيا مدى انعدام الإمكانية لانفصال الأدب الثوري الحقيقي والناجح عن واقع ورؤية المستقبل للجماهير، والفهم الثوري لتناقضات واقعها. حتى محاولة رسم الصياغات لرؤية بديلة ومستقبلية، بما أنه يوجد أكثر من صلة ما بين الأدب والمستقبل، بمعنى أن العمل الأدبي سواء كان أغنية شعبية متداولة في المناسبات العامة، أو رواية تحظى بالاهتمام والتوزيع، أم عملا سينمائيا يخلد في وعي متلقيه، فانه في المحصلة النهائية يتناول تجربة الإنسان ويتناول ماضيه، لكن بصيغة تختلف المسافة بينها وبين الواقع في الأسلوب والمنظور. وفي تناوله لهذا الماضي، فهو يؤشر على مجريات الحاضر وعناصره، ويطرح في الوقت ذاته الصيغة المتخيلة للمستقبل، والمتخيلة هنا تأتي بمعنى المطموح إليها وليس مجرد تجميع عناصر الخيال لتكون ملائمة لرسم الصورة.

لا مجال اليوم، وبعد قرن ونصف على الأقل من النقد وتوليد أدوات النقد الحديثة والمتميزة المستخدمة في مختلف مدارس النقد الأدبي، ومختلف مجالات التعاطي مع الأشكال الأدبية المتعددة من الرواية والمسرح إلى الفن التشكيلي والتعبيري حتى الفوتوغرافيا؛ أن يتم صرف النظر عن جمالية وتأثير وتأثر الأدب والفنون في حركة الواقع. وحركة الواقع هنا لا تنفصل عن الكون بحيث يشكل الأخير مساحة حرة مكانية وزمانية لإبداع الإنسان، الذي لا يكبله أو يطلقه على السواء إلا الإنسان ذاته وظروفه التاريخية، ويمتد عمق الرابط بين حركة الواقع والأدب إلى أعلى مستويات التحليل. كما ونجد في عالم التحولات المتسارعة بفعل النظام العولمي الذي يتشبث بأظفاره ليبسط اكبر مساحة من هيمنته، وبفضل تقنيات الاتصال والمعلوماتية الفائقة السرعة، أن الحالة الحيادية اقل ضرورة وأكثر ضررا، وحسب وصف بليخانوف "أن الميل إلى الفن لأجل الفن يظهر هنا من حيث وجود تنافر بين الفنانين والوسط المحيط بهم".

من هنا تصبح الحاجة ملحة مجددا للإدراك المفاهيمي، على مستوى الممارسة أيضا لماهية المثقف، الأديب، والناقد؛ أي باختصار المبدع في مجال الأدب والثقافة. تبعا لواقع الإنسان المنتج أو المنتمي والمرتبط بشكل ما بميدان الثقافة والفكر، فان هذا يحتم عليه بشكل لا جدال فيه رسم شكل علاقة معينة مع السلطة، سلطة الدين، سلطة العادة، سلطة رأس المال، وسلطة العنف الفيزيائي والرمزي؛ أي باختصار مع مجمل خطاب السلطة بما فيها سلطة الهرم السياسي. وليس من المفترض إذا أردنا التأسيس لنقد جذري، أن يكون هناك استخفاف بمعركة هذا النقد ضمن النضال الثقافي بما انه "في حرب المواقع تلعب الجبهة الثقافية دوراً مهيمنا" بحسب غرامشي، وبالتالي يعود سؤال الكينونة الخاص بهذا المثقف ودوره كفاعل تاريخي في صيانة الهوية التي تصوغها تجربة المجتمع، ويعبر عنها بآدابه ومخرجاته على هذا الصعيد؛ حيث يفترض بهذا المثقف أن يشكل المتراس التاريخي في حرب الكتلة التاريخية، أو أي جماعة بشرية تسعى للانعتاق، وأن تكون ذاتها. هنا تتضح الحاجة الحقيقية لهذا المثقف الذي يشكل الشمعة في دهاليز الظلام؛ المثقف الذي يعيش واقعه، ولا يكتفي بمجرد تصويره، او التعالي عليه، بل الانطلاق منه لتغييره. ضمن هذا السياق، يمكن إدراك اثر الإبداع والمبدعين في حركة الشعوب للتحرر. فلا إمكانية لإنكار الدور التاريخي في تفاعلات الهوية العربية الفلسطينية مثلاً لناجي العلي، احمد مطر، ادونيس، الماغوط، محمود درويش، توفيق زياد وغسان كنفاني وغيرهم؛ كأمثلة ينطبق عليها الوصف المشير إلى المتراس الذي يتصدى للعسف اللاحق بالمسحوقين.

إن تقديم أو حمل فهم مغلوط أو خاطئ وتفسير حتمي للواقع، لا يؤدي إلا إلى تقديم نتائج ونظريات محملة بالخطأ حول هذا الواقع، وبالتالي فهم مغلوط لشكل الهوية التي تتشكل ضمن الواقع. من هنا تتضح مدى أهمية الفهم المعمق لمبدأ الانعكاس وتمثله، لا بطبيعته المتحجرة على اعتبار أن ما يحصل بين الواقع والأدب/الوعي يحصل عبر مرآة، وبالتالي يأخذ شكله الجدلي والمرن المتناسق مع حركة الواقع.

إن نقاداً مثل بليخانوف، لوكاش، وغولدمان - مستفيدا منهما في ما بعد-؛ قد أجادوا الفهم ضمن مستوى الحركة الأصيلة، بعيدا عن فرض التوقعات عليه فرضا، طبعا مع تقديمهم لبنية نقدية رائعة في مجال جمالية الفن والأدب والانعكاس الجدلي فيهما. لذلك فإننا نتوصل لفهم الانعكاس بشكله كعلاقة غير فجة بين الأدب والايدولوجيا والطبقة أو الجماعة البشرية، مما يقودنا إلى ميدان الهوية التي تظل بحاجة لكيان مادي يحتضنها ويرفدها؛ أي تجربة الإنسان في الواقع، للتشكل في الوعي الفردي و الجمعي، ضمن سياق من التفاعل الجدلي.

إن فهم الهوية ومحدداتها ضمن ما يقدم من آداب بشتى تجلياتها، لا يبتعد في مدى واقعيته عن محاولة الفهم بمعايشة تجربة هذه الهوية، أو دراستها ضمن مناهج العلوم الإنسانية وتفكيك خطابها بهدف إعادة تركيب الصورة الأشمل لها، بحيث يتكثف الخيار تبعا لمنهج التعاطي مع الأدب. ويستوجب أن يكون الناقد أو الدارس والمتلقي للأدب ممتلكاً لعناصر الفعل لبناء جسر الوعي بين الأداة الأدبية ومساحة الوعي لديه، وبالتالي تحديد العناصر المنبثقة من داخل الأدب بحد ذاته والتي يختلف مستوى وشكل الفهم الذي يقدمه للتجربة الهوياتية التي يعبر عنها. إن ما قدمته نتاجات المدرسة البنيوية التكوينية/ التوليدية في محاولتها لسبر غور البنية الداخلية للأدب في محاولة لفهم حركات هذه البنية ضمن مجمل حركة الواقع، كان عبر فحص المؤشرات التي بدورها تقود لفهم منحى هذه العلاقة. بحيث يتم اللجوء لفهم اختزال البعد القومي والاجتماعي/الطبقي في بنية العمل الأدبي الداخلية، أي بمعنى رصد حضور هذه العناصر، والتي بدورها تشكل أعمدة تقف عليها صورة الهوية. فإذا سقنا احد أعمال غسان كنفاني أو إبراهيم نصر الله ضمن السياق الفلسطيني روائياً؛ نصطدم بجمالية التوظيف الأدبي لموقف يتعلق بقضية قومية لا تختزل، وإنما يتم التعبير عنها في بنية رواياتهما. أما اجتماعيا/طبقياً وضمن الحالة العربية، فان المثال الأبرز على مدى انعكاس الواقع الطبقي، مدعماً بموقف لا يخلو من محور التعاطي مع إشكالية الاستعمار، فيمكن وصف روايات حنا مينة بالوثيقة التاريخية التي تؤشر على معطيات الواقع بتنوعاتها، وأيضا رواية "اللاز" عند الطاهر وطار، وآخرين كثر يصلحون كأمثلة ضمن هذا السياق.

أما البعد الآخر في البنية الداخلية للأدب، فيتمثل في المساحة ما بين العام والخاص وتفاعلهما. فالحوت الذي قتله زكريا المرسنلي في رواية "الياطر" لحنا منية، ومن ثم عاد الحوت مجددا ليهدد شطآن وميناء المدينة، يمثل الصورة الأوضح رمزياً للاستعمار القادم من وراء البحار، وفي مواجهته الموقف الشعبي المقاوم والمعبر عن رفض تدخل اليد الأجنبية تلبيةً لمصالحها في الأرض العربية. نجد أن المرسنلي في هذه الرواية يضم في أبعاد شخصيته الروائية شيم التمرد والتحريض الثوري التي سادت الشارع العربي – ولم تنتقل إلى الموقف الرسمي- في مرحلة ما يعرف بتفكيك الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية والتعرف إلى استعمار جديد في ارض فلسطين من قبل الحركة الصهيونية العالمية. أما (الآخر) أو موقف الآخر فأميل للاتفاق مع تنظيرات البنيوية التكوينية التي تعتبره البعد الثالث الذي يعطي بحضوره الفرصة للعمل الأدبي أن يرتقي لمثابة اعتباره وثيقة تاريخية تنطق بلسان شعب/ طبقة/ جماعة إنسانية ذات محددات هوياتية مشتركة؛ إذ أنه عبر استيضاح الموقف من الآخر ومن النقيض، يمكن الاستدلال على بعض مميزات الهوية المركزية إلى حد ما.

ان الهوية ليست بالظاهرة الثابتة أو المتحجرة، إنما هي ملخص شبكة من التفاعلات والوشائج القومية والطبقية والظرف المشترك، إلى جانب امتزاج الشعور الخاص بالعام، حيث كل منهما يعبر عن جزء أصيل في بنية الآخر، لا بصفته انفصالاً عنه. بالتالي يتكثف هذا الملخص التفاعلي فيما تقدمه الجماعة البشرية الحاملة لهذه المزايا المشتركة، من تعبيرات ثقافية وأدبية، كأحد ممارسات الهوية.
---------
* نضال الزغير: منظم الحملات في مركز بديل، خريج كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة بيت لحم.

المراجع:
أدونيس. زمن الشعر. دار الساقي.بيروت.ط6, 2005.

غرامشي, انطونيو.كراسات السجن. دار المستقبل العربي.بيروت.1978.
.
بليخانوف,المؤلفات الفلسفية-المجلد الخامس.دار دمشق للطباعة والنشر .دمشق.1982.