الحركة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة: جدل الهوية والتمثيل السياسي

بقلم: تيسير محيسن*

لم يتمكن الفلسطينيون، عقب انتهاء الانتداب البريطاني، من إعلان دولتهم، وبدلاً من ذلك أقيمت دولة أخرى "إسرائيلامتلكت عناصر الدولة ومقوماتها واعتراف العالم بها. ورغم أن الفلسطينيين عرفوا طوال فترة الانتداب نزوعاً للاستقلال السياسي في ظل حكومة وطنية، غير أنه، ولأسباب عديدة، ضاعت عليهم هذه الفرصة. كان ذلك دافعاً إلى التساؤل: لماذا فشل الفلسطينيون في إقامة دولة خاصة بهم؟ فقد امتلكوا شعوراً بالهوية الوطنية منذ بدايات القرن العشرين، تأسس هذا الشعور على تيار من الوعي القومي نما وتعزز مع إدراكهم بأنهم باتوا جميعاً "في القارب ذاتهفي ظل الخطر الصهيوني، بالإضافة إلى أنهم عبروا عن نزوع كياني واضح في ظل تحولات سريعة شهدها مجتمعهم نحو الحداثة. يمكن القول: إن ما يحول دون قدرة جماعة ما على تقرير مصيرها، إما ضعف الوعي القومي لديها، وإما نقص سيادتها، وإما كلاهما معاً. فما الذي منع الفلسطينيين من تقرير مصيرهم؟

 

بروز الوعي الوطني الفلسطيني وتعبيراته الكيانية:
يمثل العقد الأول من القرن العشرين بداية انبثاق الوعي الوطني الفلسطيني، حتى بات الانتساب والانتماء إلى فلسطين أمراً شائعاً. غير أن المجتمع الفلسطيني، ظل طوال فترة الانتداب، يعيش جدل التفكك والبناء، بين هيمنة العلاقات الاجتماعية التقليدية، وتلك القائمة على التوافق وتناسق المصالح بشكل عقلاني، في ظل تفاقم المخاطر والتحديات الناجمة عن الأطماع البريطانية والصهيونية. ولذلك، يصعب القول: إن شعوراً جماعياً للمجتمع السياسي الفلسطيني بالانتماء إلى قضية كبيرة واحدة، قد تبلور وتشكل بالكامل.

في هذه المرحلة، أخذت الصحف المطبوعة والخطية في الظهور، في مقدمتها الكرمل وفلسطين، بالإضافة إلى تشكّل العديد من الجمعيات والاتحادات التي تحمل اسم فلسطين، فضلا عن بروز شخصيات سياسية فلسطينية معروفة: ممثلي فلسطين في مجلس "المبعوثان"، دعاة الجامعة الإسلامية.
ومع تصاعد القومية التركية، واللامبالاة الواضحة من قبل السلطات العثمانية، وغياب موضوع الهجرة اليهودية عن أجندة الحركة القومية العربية الوليدة، حيث تجاهل المؤتمر العربي الأول (باريس 1913) الخطر الصهيوني في فلسطين، كل ذلك أدى إلى بروز ردة فعل فلسطينية تمثلت في محاولتهم امتلاك زمام أمورهم بأنفسهم.

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدأ معظم الفلسطينيين التفكير بأنفسهم من خلال هوية وطنية وسياسية جديدة، حافظت على بعدها القومي، كما حافظت الانتماءات الدينية والمحلية على معانيها. تعمقت هذه الهوية في مجرى الكفاح ضد الانتداب البريطاني، والتوسع الاستيطاني الصهيوني، وبروز اتجاه لقيام دول قطرية عربية، الأمر الذي دفع الفلسطينيين بالمطالبة بالاعتماد على الذات، والتمايز عن المحيط العربي تمايزاً لم يدفع إلى القطيعة بقدر ما نجم عن الاختلاف في طبيعة المخاطر والتهديدات. وأخذ الفلسطينيون يطالبون، من خلال الوفد الفلسطيني إلى لندن في خريف عام 1921، إنشاء "دولة وطنية" ذات برلمان منتخب بشكل ديمقراطي. مع العلم أن قادة الحركة الوطنية الفلسطينية قبل ذلك بعامين (1919) حددوا مطالبهم إلى لجنة " كنج كرين" بالتركيز على أن فلسطين جزء لا يتجزأ من سوريا .

شهدت سنة 1920 متغيرات جديدة، فرضت على الحركة الوطنية انتهاج سياسة مختلفة، أهمها فشل المراهنات على الحركة القومية العربية، ما دفع إلى انتهاج سياسة الاعتماد على الذات، وتراجع التيار الوحدوي. ففي المؤتمر الفلسطيني الثالث (كانون الأول 1920)، تحت رئاسة موسى كاظم الحسيني، دعا المؤتمرون إلى تشكيل حكومة وطنية.

وبالرغم من الركود العام في الفترة ما بين 1923-1928، ومع ارتفاع مد الهجرة اليهودية، انشغل الفلسطينيون بهمومهم البحتة على حساب الهموم والاهتمامات القومية، فعقدوا 7 مؤتمرات وطنية منتظمة، واتبعوا إستراتيجية "مهادنة بريطانيا" واستخدموا الوسائل السلمية في النضال، غير أنهم باءوا بالفشل، فشهدت البلاد حالة من الفوضى. أخذت الجماهير الفلسطينية زمام المبادرة رداً على فشل القيادة وانحياز بريطانيا، فشهد عقد الثلاثينيات تطورات سياسية دراماتيكية، أبرزها: تصاعد أعمال العنف لتصل ذروتها مع ثورة وإضراب (1936)، وتعزيز ظاهرة الأحزاب السياسية، والعودة للقومية العربية والاستنجاد بالوحدة العربية. ومن التطورات اللافتة كذلك، توجيه نداء من الحكام العرب لشعب فلسطين يطالبهم بوقف الثورة والإضراب، وهو ما شكل بداية مرحلة جديدة تميزت بالتدخل الرسمي العربي في الشؤون الفلسطينية. استمر النضال، في سنوات الأربعينيات، متقطعاً ومرتبكاً إلى أن قررت بريطانيا وضع حد للانتداب على فلسطين. اتسم النشاط الحركي الحزبي في هذه الفترة بالضعف والسوء كما خمدت الثورات في ظروف الحرب العالمية الثانية.

المجتمع السياسي الفلسطيني والهوية السياسية:

(1) شكلت الجمعيات الإسلامية-المسيحية في فلسطين أولى محاولات العمل السياسي المنظم في ظل الحكم العثماني المباشر. من أهدافها: المحافظة على حقوق أبناء الوطن المادية والأدبية، والاهتمام بشؤون الوطن الزراعية والاقتصادية والاجتماعية، وإحياء العلم وصقل الروح الوطنية. اعترفت بها السلطات البريطانية كهيئات تمثيلية. مثلت قيادة هذه الجمعيات رأس الهرم الاجتماعي، فكان زعماؤها من الأسر الثرية. واعتمدت أسلوب النضال السياسي السلبي لتحقيق المطالب العربية، انطلاقاً من إيمانها بإمكانية توافق المصالح البريطانية مع المصالح العربية.

(2) عرفت فلسطين ظاهرة نشوء الأحزاب منذ مطلع القرن العشرين: الحزب الوطني العربي (1923) برئاسة سليمان الفاروقي، حزب الزراع (1924)، ومن أبرز شخصياته فايق المسعود وعبدالله الغصين، الحزب الحر الفلسطيني (1927) ومن قياداته؛ فهمي الحسيني وعبدالرؤوف البيطار، حزب الأهالي (نابلس 1925) بقيادة عادل زعيتر، حزب الدفاع الوطني (يافا 1934) ومن شخصياته: راغب النشاشيبي، أسعد الشقيري، سليمان طوقان، عاصم السعيد، عمر البيطار، يعقوب خراج، فخري النشاشيبي، الحزب العربي الفلسطيني (القدس 1935) برئاسة جمال الحسيني، حزب الإصلاح العربي (1935)، تأسس نتيجة الخلاف بين عائلتي النشاشيبي والخالدي، تشكلت للحزب قيادة ثلاثية جماعية ضمت حسين فخري الخالدي، ومحمود أبو خضرة وشبلي الجمل.


(3) كما تشكلت في فلسطين حركات وأحزاب عقائدية، شكلت امتداداً لحركات إقليمية. ترافق ظهور التنظيمات القومية مع المد الجماهيري، وتصاعد أعمال العنف، وفشل الرهان على إستراتيجية مهادنة بريطانيا. شارك القوميون في المؤتمر الإسلامي العام (1931) وأصدروا الميثاق القومي، وتشكل حزب مؤتمر الشباب العربي (1932) برئاسة راسم الخالدي. أما حزب الاستقلال العربي (1932-1933) فكان أكثر الأحزاب تطورا بمقاييس العمل الحزبي، ولم يعمر طويلاً، ومن قياداته: عوني عبد الهادي، رشيد الحاج، عزة دروزة، أكرم زعيتر. أما الحزب القومي السوري وكتلة القوميين العرب فقد لاقت رواجاً محدوداً في فلسطين.

(4) دشن المؤتمر السابع للحزب الشيوعي الفلسطيني (مدينة القدس 1930) بداية منعطف حاسم في مسيرة الحركة الشيوعية في فلسطين، إذ ربط النضال الفلسطيني بالنضال المعادي للامبريالية في الوطن العربي، وإثر موقفه من ثورة 1936 حظي باحترام من الحركة الوطنية العربية وبدأ الصراع يشتد بين العمال اليهود والعرب في الحزب وأدى ذلك إلى الانشقاق وخروج الأعضاء العرب مكونين عصبة التحرر الوطني، وهي منظمة وطنية تحررية ذات توجه يساري، ومن أبرز قياداتها: فؤاد نصار، أميل توما، توفيق طوبي، إميل حبيبي وغيرهم.

(4) كما برزت، أيضاً، أطر ذات توجه إسلامي مثل، جمعيات الشبان المسلمين، اقتصر عملها على ميدان الوعظ والإرشاد، ومن رموزها الشيخ عز الدين القسام، قدري طوقان ويعقوب الغصين. وحركة الإخوان المسلمين التي عقدت مؤتمراً لها (1946) بهدف توحيد الجماعة وإنشاء مركز لها في القدس "الهيئة الإدارية العليا للإخوان المسلمين في فلسطين"، وأيدت المشاريع التي ترمي إلى إنقاذ الأرض وعدم الاعتراف باليهود.

(5) تشكلت في فلسطين قبل عام 1948، ثلاث هيئات سياسية تمثيلية، جسدت النزوع الكياني للفلسطينيين، هي على التوالي: اللجنة العربية العليا، الهيئة العربية العليا، حكومة عموم فلسطين.

اللجنة العربية العليا:
تكونت هذه اللجنة في نيسان 1936 إثر اندلاع الإضراب العام والعصيان المدني الذي دعت إليه اللجان القومية، وبضغط شعبي كبير على الأحزاب القائمة آنذاك. أُسند منصب الرئاسة للمفتي الحاج أمين الحسيني. اعتبرتها بريطانيا منظمة خارجة على القانون في 1937 واعتقلت معظم أعضائها ونفتهم إلى جزيرة سيشل. أعضاء اللجنة، هم: أمين الحسيني، راغب النشاشيبي، جمال الحسيني، يعقوب الغصين، عبد اللطيف صلاح، حسين الخالدي، عوني عبد الهادي.

الهيئة العربية العليا:
مؤسسة سياسية فلسطينية حلت محل "اللجنة العربية العليا" بقرار من مؤتمر الجامعة العربية (12 حزيران 1946) بعد فشل الفلسطينيين في الاتفاق علي تشكيل هيئة عامة ممثلة لهم. استقال بعض أعضاء الهيئة احتجاجاً على انفراد المفتي بالقرارات. ساهمت الهيئة في تجنيد المتطوعين وتولي أمور تدريبهم وتسليحهم. أعضاء الهيئة: جمال الحسيني، توفيق الحسيني، يوسف صهيون، كامل الدجاني، إميل الغوري، رفيق التميمي، أنور الخطيب، د. عزت طنوس، أنطون عطا الله، أحمد الشقيري، سامي طه، د. يوسف هيكل، راغب النشاشيبي.

حكومة عموم فلسطين:
تشكلت في غزة في 23 سبتمبر 1948 برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، تأكيداً على الحق الطبيعي في تقرير المصير، كما جاء في وثيقة الإعلان. تشكلت الحكومة في سياق إعلان بريطانيا عن نيتها لإنهاء الانتداب وإحالة القضية للأمم المتحدة. بعد صدور قرار التقسيم طلبت الهيئة العربية العليا من جامعة الدول الموافقة على إنشاء حكومة فلسطينية تتولى شؤون الإدارة العامة عند انتهاء الانتداب، فوافقت على إنشاء نظام مؤقت باسم الإدارة الفلسطينية العامة، معلنة بذلك استقلال فلسطين كدولة ديمقراطية (15 مايو). تشكل مجلس وطني مكون من رؤساء بلديات ومجالس محلية وقروية ورؤساء اللجان القومية والأحزاب، والغرف التجارية والهيئات الشعبية والنقابات وعدد من الزعماء المحليين. بادر المجلس في الأول من أكتوبر 1948 خلال أول اجتماع له بمنح الثقة لهذه الحكومة كما قام بإعلان استقلال فلسطين وإقرار دستور من 18 مادة. ومع ذلك باءت هذه التجربة الكيانية المتطورة بالفشل؛ حيث قام الملك عبدالله بضم الضفة الغربية إلى الأردن، ونزع الثقة من الهيئة العربية العليا، وعدم اعتراف الأمم المتحدة بها، بالإضافة إلى القيود التي فرضتها مصر، وتضييق الخناق المالي عليها من قبل الجامعة العربية.

خاتمة

ليس من الصعب استنتاج أن أبرز ملامح الحياة الحزبية والسياسية التي كانت تميز المجتمع السياسي الفلسطيني في هذه الفترة، تمثلت في ظهور أطر تنظيمية أكثر منها أحزاب سياسية، توزعت اتجاهاتها بين محلي وإقليمي وقومي، وكانت آجالها القصيرة تعود إلى عدم نضوج مفهوم الإطار التنظيمي للحزب، وبسبب كثرة الانشقاقات في سياق النزاع والتنافس بين العائلات، والعمل في بيئة شديدة التعقيد والتغير، وعدم نضج التكوين المجتمعي. وبالرغم من كل ذلك، يجب الاعتراف بأنها ساهمت في صقل الشخصية المعنوية للفلسطينيين وتكريس هويتهم الوطنية. فقد شارك بعضها في قيادة الثورة والإضراب ضمن ائتلاف وطني. بعض هذه الأحزاب أصدر جريدة خاصة به مثل: مرآة الشرق، الجامعة العربية، اللواء وغيرها. وتراوحت أهدافها بين المطالبة بالاستقلال الذاتي وتغليب البعد المحلي، وبين التوجه الوحدوي.


عانى الفلسطينيون، خلال هذه الفترة، من أزمة تمثيل، فإرادتهم غالباً ما كانت مرتهنة للخارج ومجتمعهم عبارة عن مجتمع فلاحي بسيط تسيطر عليه طبقة من الوجهاء والأعيان ذات سمات شبه إقطاعية، ليتعرض، تحت تأثير عوامل عديدة، لعمليات تغير سريعة. هذا علاوة على ما انطوى عليه الخطر الصهيوني والاستعماري من عمليات استلاب واستيطان واحلال وتشريد، ما حال دون تواصل المجتمع الفلسطيني كمجتمع مدني موحد، تحكمه علاقات التبادل الاقتصادي والثقافي بين أجزائه المختلفة وتبرز تطلعاته السياسية الخاصة به. إن مسار تشكل الهوية الوطنية وتطور تعبيراتها الكيانية والمؤسساتية مر بمنعطفات تاريخية فارقة، ما أورثها العديد من الإشكاليات. لم يحل تطور وعي الفلسطينيين وظهور ثقافة سياسية لديهم وولادة التعبيرات السياسية والاجتماعية عن هويتهم الوطنية وخوضهم معارك الكفاح الوطني، دون اقتلاعهم وتشتيت مجتمعهم.

يعكس هذا المسار المتعرج، الصاعد تارة والهابط تارة أخرى، طبيعة الصراع على أرض فلسطين بين مشروعين متناقضين. كما يظهر مدى انكشاف الحال الفلسطيني لتأثيرات العوامل الخارجية، وأن فشل الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم، لا يعود في الغالب إلى نقصان الوعي القومي أو عدم قدرتهم على بسط سيادتهم كجماعة سياسية تمتلك الأهلية والجدارة، بقدر ما يعود إلى طبيعة الصراع وتأثيرات الإقليم. بالطبع، لا يمكن انكار أوجه الضعف الذاتي، ومن ذلك: قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية حيث كانت تعبيراً عن تحالف النزعة العائلية والإسلام التقليدي، ما جعلها تقع في سلسلة من الأوهام والرهانات الخاطئة، والقصور المؤسسي والفشل في خلق مؤسسات تمثيلية حقيقية، والافتقار إلى مشروع مجتمعي كامل.
------------
*تيسير محيسن: عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني، غزة.