تطور الهوية الوطنية الفلسطينية

بقلم: عبد الفتاح القلقيلي* و أحمد أبو غوش**

يختلف الفهم فيما يتعلق بالهوية من باحثٍ لآخر، ومن نموذجٍ لمجتمعٍ بشريٍّ لآخر، ومن حضارة لأخرى، مما يضعنا أمام عدة تعريفات، تختلف فيما بينها، إلا أنها تتفق في الإطار العام على أن الهوية ليست شيئاً منجزاً ونهائياً منغلقاً على ذاتهِ، وإنما امتدادا للتاريخ والحضارة، وهي قيم وخصائص قابلة للتحوير والتطوير والتحول من زمن لآخر– حسب المستجدات. لذا فالهوية تمر في تفاعل ونمو وازدهار، كما قد تعيش حالة ركود وخمول وانكماش.

والهوية أيضاً عرفت باعتبارها شعوراً جمعيًّا لأمةٍ أو لشعبٍ ما، يرتبط ببعضهِ مصيرا ووجودا، حيث الهوية هي مجموع السمات الروحية والفكرية والعاطفية الخاصة التي تميز مجتمعاً بعينه وطرائق الحياة ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات وطرائق الإنتاج الاقتصادي والثقافي. ولكن تميز جماعة بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة، فالهوية الحقة هي تطابق الهوية مع الاختلاف.

تمثل الهوية، في تعريفها البسيط، مجموع السمات المميزة لشعب من الشعوب، متمثلة في اللغة والعادات والتقاليد والثقافة والمواقف المشتركة بصدد القضايا المصيرية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قيمة أية هوية تكمن في ما يمكن أن تخلقه من شعور بالخصوصية، وفي ما يمكن أن تقدمه من فرص للتطور لمنتسبي هذه الهوية. وبدون ذلك قد تكون الهوية عبئاً على منتسبيها، وقد تكون عاراً أو دلالة على نقص مخجل ومخل. وغالبا ما ترتبط الهوية في هذا المستوى بالوعي بالذات. لكنها في أحيان أخرى قد ترتبط باستحضار الآخر باعتباره نقيضاً للأنا (أو للذات). وهو ما ينطبق على تجربة تشكل الهوية الوطنية الفلسطينية بالأساس؛ إذ بالرغم من وجود الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، على الأقل منذ خمسة آلاف سنة، فإن حديثه عن هويته الوطنية لم يتبلور إلا بفعل صدمة قاسية جسدتها مخططات الاحتلال الأجنبي الذي أخذ في البداية شكل انتداب بريطاني قبل أن ينتهي مشروعاً صهيونياً قائماً على أساس اجتثاث شعب من أرضه وإحلال جماعات من "المستوطنين" الذين تم غرسهم في هذه الأرض بقوة الحديد والنار بعد جلبهم من مناطق العالم الأربع.

صحيح أن الثقافة السياسية الفلسطينية من لغة وحضارة وتاريخ هي جزء من الثقافة السياسية العربية، ومتشابهة مع تطور الثقافة السياسية الوطنية في الدول العربية المجاورة، إلا أن تطور الهوية الوطنية الفلسطينية يختلف عن تطور الهويات الوطنية للدول العربية المجاورة في التحرر من الاستعمار البريطاني والفرنسي. ويعود هذا الاختلاف إلى أسباب عديدة اهمها هو مرور فلسطين والقضية الفلسطينية بمراحل تاريخية مختلفة بشكل جذري؛ يقع في مقدمتها الاستعمار الاستيطاني للأرض والإلغاء للهوية القومية التاريخية لفلسطين. إن تمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه الوطنية، وانتماءه لفلسطين ساهما في بلورة الفكر القومي الفلسطيني تارة بشكل تابع للبرامج السياسية الوطنية العربية، وتارة بشكل مستقل أو حتى منافس لهذه السياسات تحت شعار استقلالية القرار الفلسطيني.

في خصوصية الهوية الفلسطينية:

إذا كان لكل شعب من الشعوب خصائصه المميزة له التي تجعل منه شعباً في مقابل شعب آخر، وهي ميزة تنطبق على الشعب العربي الفلسطيني مثلما تنطبق على أي شعب آخر، فإن للفلسطينيين خصوصية تشكل قيمة مضافة لهويتهم الوطنية، وتتمثل في أن تبلورها ارتبط بمواجهة نكبة تعرضوا لها من طرف مشروع للغزو الأجنبي استهدفهم في وجودهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي (الحضاري والإنساني بشكل عام). هذه الهوية تشكلت في خضم صراع مرير خاضه هذا الشعب لإثبات وجوده في هذه المعركة القاسية وغير المتكافئة. وعليه، فقد ارتبطت الهوية بالمقاومة التي عرفتها فلسطين منذ زرع أول "مستوطنة" يهودية فيها عام 1882 ومروراً بثوراتها المعروفة في النصف الأول من القرن العشرين وانتهاءً بأهم إنجاز للثورة الفلسطينية المعاصرة في ستينيات ذات القرن. وقد برزت في خضم هذه الثورة التي أكدت الوجود الواقعي للشعب الفلسطيني في مواجهة إرادة المشروع الصهيوني الإمبريالي الدولي التي أرادت أن تجعل من وطنه أرضاً خلاء بلا شعب ليتم تسليمها لشعب افتراضي ليس له أرض.

الهوية الفلسطينية ما كان يمكن أن يحتاجها الشعب الفلسطيني الحامل لهوية عربية إسلامية تاريخية لولا الهجمة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية، التي استدعت مثل هذه الهوية لإنقاذ الشعب الفلسطيني وإنقاذ الأمة العربية.

كانت "فلسطين بحدود الانتداب" قبل أن تحتلها القوات العسكرية البريطانية في نهاية عام 1917 مقسمة من الناحية الإدارية إلى قسمين: الأول يشمل المناطق الشمالية، ويتألف من لوائي عكا ونابلس التابعين لولاية بيروت. والثاني يشمل المناطق الجنوبية، ويتألف من لواء القدس المستقل التابع مباشرة لسلطة وزير الداخلية العثماني.

لم تكن فلسطين في حدودها تحت الانتداب مستقلة لغة أو دينا أو حدودا أو تاريخا عن محيطها العربي عموما والسوري خصوصا. فلغة أكثر من 95% من اهلها كانت اللغة العربية، والاسلام دين الغالبية وتأتي بعده المسيحية وهنالك اقلية ضئيلة لا تتجاوز 6% من اتباع الديانة اليهودية، شأنها في ذلك شأن محيطها العربي (سوريا ولبنان ومصر والعراق).

شارك الفلسطينيون بنشاط في مختلف الأحزاب والجمعيات العربية التي تشكلت بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، وتبنوا أفكارها القومية الإصلاحية، إلا أن شعورهم بالانتماء القومي انطبع بطابع خاص، طابع الانتماء إلى ارض ووطن محددين، يتهددهما خطر الضياع بفعل الهجرة والاستيطان اليهوديين (كما يقول ماهر الشريف في كتابه "البحث عن كيان"). وقد كتب نجيب نصار "... نحن الفلسطينيين على شفا جرف، فالخطر السياسي والاجتماعي والاقتصادي يهددنا من كل صوب... ومعلوم أن فلسطين أصبحت محط آمال الصهيونيين، ومطمح أنظارهم، وفيها الآن منهم أكثر من مائة ألف شخص مختلفي الجنسيات، وعلى جانب كبير من المعارف والمقدرة" (جريدة الكرمل 19/9/1913).

صحيح أن الخطر الصهيوني قد أضفى على الحركة العربية في فلسطين طابعا خاصا، وساهم في الإرهاصات الأولى لـ"الهوية الوطنية الفلسطينية"، إلا أن هذه الهوية بقيت مندمجة في الحركة القومية العربية الجامعة حتى العقد الثاني من القرن العشرين. ولذلك تبنّى الفلسطينيون منذ شهر أيار 1918 علم الثورة العربية (ثورة الشريف حسينواصطلح على تسمية فلسطين "جنوب سوريا" أو "سوريا الجنوبية".

تركت الصدمات آثارا قوية على الحركة الوطنية الفلسطينية واشعرتها بعزلتها. واهم هذه الصدمات: مؤتمر "سان ريمو" نيسان (ابريل) 1920، وانهيار الحكم العربي في سوريا واحتلال القوات الفرنسية دمشق (24/10/1920)، وفشل ثورة العراق الاولى (1920). في تلك الظروف، انعقد في شهر 12 من ذلك العام مؤتمر حيفا. ولأول مرة لم يشر المؤتمر الفلسطيني إلى أن فلسطين جزء من سوريا، كما لم يطالب بالوحدة معها، بل دعا هذا المؤتمر لأول مرة إلى "تشكيل حكومة وطنية في فلسطين، مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب من السكان الذين وجدوا في البلاد قبل الحرب. ولذلك فانه بالإمكان اعتبار هذا المؤتمر نقطة الانطلاق العملية للهوية الوطنية الفلسطينية، كحركة قطرية ذات أهداف خاصة، لكنها غير منسلخة عن جذورها القومية.

وفي ظل تفاقم الاحساس بخطر الحركة الصهيونية على الارض والكيان الفلسطيني، تضاءل الإحساس بخطر الاستعمار وشكله الانتدابي؛ إلا بمقدار انحيازه ودعمه للنشاط اليهودي الصهيوني في التهويد والاستيطان. ومن المفارقات انه خيّل لبعض الفلسطينيين ان هنالك امكانية لمهادنة الانتداب البريطاني وتخفيف انحيازه للصهيونية. واعترف محمد عزة دروزة بشذوذ فلسطين عن جاراتها العربيات فيما يخص الموقف من المستعمرين والعلاقة معهم، فقال: "في كل البلاد المستعمرة تقاس الوطنية بموقف القومي من الاستعمار. اما في فلسطين، فصار يُستساغ ان يكون لمن يعقد اواصر الصداقة مع الانجليز ويخدم اغراضهم ويروج مطالبهم ان يكون له شأن في الحركة القومية، اذا كان مناوئا لليهود والحركة اليهودية".
وتشعب الفكر السياسي الفلسطيني في تلك الفترة الى ثلاثة تيارات رئيسة: تيار الوطنية القطرية، وتيار القومية العربية، وتيار الشيوعية الاممية. كانت الحدود بين التيارين الاول والثاني تضعف احيانا وتبرز احيانا اخرى، وكان الدعم الجماهيري لهما يتباين من حين الى آخر. اما التيار الثالث الشيوعي، فبقي مستقلا ومعزولا عن التيارين السابقين وينقصه الدعم الشعبي في الاوساط العربية وذلك بفعل نشأته من/ بين، صفوف المهاجرين اليهود اليساريين. لقد بقي التيار الشيوعي ضعيف الشعبية حتى بعد ان تطور لما سمّي بـ"عصبة التحرر الوطني" ذات الاكثرية العربية.

كانت الحركة الوطنية الفلسطينية (بتياريها القطري والقومي) تحدد قائمة "الاعداء" ودرجاتهم حسب خطر هؤلاء "الاعداء" على الارض الفلسطينية ومستقبل الكيان الفلسطيني. وضعت معاداة الصهيونية والاستيطان اليهودي في المقام الاول، ومعاداة الاستعمار البريطاني في المقام الثاني. وتميز بعض افراد التيار الاول (القطري) باستعدادهم لمهادنة الاستعمار البريطاني، بل والتنسيق معه احيانا. وعلى هامش هذا التيار سيكوّن هؤلاء ما يسمى بالمعارضة التي تعترض على "سلبية" الحركة الوطنية، اي رفضها للمشاريع التي يقترحها البريطانيون.

مما لا شك فيه (كما أسلفنا) أن الهوية تنشأ وتتبلور، ثم تتطور بفعل تفاعل عوامل داخلية، وتفاعلها مع عوامل خارجية، خاصة الهويات المضادة. وفي هذا الإطار، لم يكن هنالك خلاف حاد داخل الساحة الفلسطينية حول ثنائية القطرية والقومية، وذلك للإجماع الفلسطيني حول الخطر الأساسي المتمثل بالمخطط الصهيوني. ولكن كان هنالك تباين بين هذين التيارين. كان التيار الثاني (القومي) ينطلق من أن الحركة الصهيونية حركة عالمية بفعل انتشار اليهود في كل بقاع العالم، وبفعل تعاطف دول الحلفاء المنتصرين معها ودعمهم السياسي والعملي لها. ومثل هذه الحركة لا يمكن الانتصار عليها، ولا حتى مواجهتها، إلا من خلال الوحدة العربية، أو على الأقل وحدة سوريا الطبيعية، أو ما كان يطلق عليها بلاد الشام. وكان هذا التيار يدفع الأمور باتجاه البقاء ضمن الحركة الوطنية السورية. وبعد سقوط الحكم العربي الفيصلي في سوريا، صار أصحاب هذا التيار يتوجهون للاستظلال بالحكومات العربية المستقلة وخاصة العراق نظرا لوجود فيصل ملكا عليها. وحتى بعد قيام إسرائيل دفع بعض هؤلاء باتجاه الانضمام للأردن تحت راية الملك عبد الله بن الحسين شقيق الملك فيصل. وبعد بعثرة الفلسطينيين في كل اتجاه، وانضمام العديد من الفلسطينيين إلى القوى السياسية العربية، رفع القوميون شعار "الوحدة طريق التحرير". وظل هذا الشعار سائدا حتى اخترقته حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" بانطلاقتها المسلحة 1/1/1965.

وكان التيار الأول (القطري) ينطلق من نفس المقدمات، ولكنه يصل إلى نتائج مختلفة. فكان يرى انه، ولأن الحركة الصهيونية عالمية ومدعومة من الدول الغربية، فإن بقاء فلسطين جزءاً من الدولة العربية الواحدة سيجعل من المعقول ضغط العالم من اجل تهويد فلسطين، باعتبارها جزءاً ضئيلا من الوطن العربي. أما إذا حافظنا على اعتبارها قطرا عربيا مستقلا كبقية الأقطار العربية الأخرى، فستكون وطن أهلها لأنها صغيرة لا تتسع لمزيد من الهجرة اليهودية إل