من أجل تتبع انجازات مؤسسة بديل خلال عشر سنوات من وجودها؛ قمت بمراجعة ملاحظاتي ومذكراتي الشخصية، منذ بداية تعاوني  مع مركز بديل خلال عامي 1999-2000. وبغض النظر عن مذكراتي الشخصية، فقد وجدت العديد من الملفات لورش عمل، ولمقترحات، وللبحوث المبكرة حول ما نسميه اليوم إطار العمل القانوني لحقوق اللاجئين الفلسطينيين. أما الملاحظات والمواد المعاصرة فتعطي المرء شعورا عميقا بالإحباط والإثارة البالغة بين صفوف اللاجئين الفلسطينيين؛ فالإحباط كان واضحا، مع عملية أوسلو وفشل تلك العملية في الوصول لحل سياسي يحقق السلام على اساس العدل، كما أن الإثارة كانت واضحة أيضا، من حيث تنامي قوة التنظيم لمجتمعات اللاجئين، والرؤية البديلة التي يعبرون عنها بشكل جماعي لمواجهة التحدي المتمثل في وصول القيادة السياسية الفلسطينية إلى حالة تتسم بالشلل والعجز عن تلبية احتياجاتهم ومطالبهم.

وبالانتقال الى الوراء قليلا، نجد أن اتحاد مراكز الشباب الاجتماعية كان نشطا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعقد المؤتمر الشعبي الاول في مخيم الفارعة للاجئين عام 1995 تلاه مؤتمر آخر في مخيم الدهيشة في بيت لحم عام 1996، وتأسست لجان الخدمات الشعبية في عام 1996 في مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانضم لهذه اللجان أعضاء من المؤسسات الفلسطينية، وكان يمثل الأخيرة نشطاء فاعلون في قضية اللاجئين، أكثر من كونهم ممثلين عن قيادة السلطة الفلسطينية. ودخلت مؤسسة بديل بعمق في أجواء هذا الإحياء الحديث لفعالية ونشاط اللاجئين بمبادرة تنظيمية أخرى في مطلع عام 1999: بذل جهد منظم لتحديد أولويات المطالب الجماعية، من خلال عقد سلسلة من ورشات العمل الإستراتيجية، وفي الوقت نفسه؛ تطور الهيكل التنظيمي لبديل عن طريق إطار لجنة أصدقاء بديل، التي وفرت أرضية مرنة وواسعة النطاق لتنفيذ برنامج ورشات العمل في أوساط اللاجئين في المخيمات.

وقد تزامن وصولي إلى فلسطين في نهاية صيف عام 1999، ضمن زمالة دراسية بهدف التدريس والبحث في المسائل القانونية المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين؛ تزامن هذا الوصول مع موجة جديدة من فعاليات اللاجئين، وفي غضون الأسابيع الأولى من إقامتي في القدس الشرقية؛ أصبحت على اتصال مع مديرة مركز بديل السيدة إنغريد غاسنر جرادات، حيث بدأت عملية تبادل المعلومات والتعلّم المتبادل. وكانت الجهود المبكرة لإدخال إطار أو خطاب قانوني لمبادرات اللاجئين؛ قد واجهت، بوجه عام، شكوكا عميقة في داخل مؤسسة بديل، وبين صفوف نشطاء اللاجئين. وعلى كل حال، كان السؤال: ماذا سيفيد قضية اللاجئين فيما لو كتبت مجلدات تؤكد على عناصر القوة القانونية لحقوقهم؟ وكان هناك إجماع في الآراء على أن مطالب اللاجئين يجب الإصرار عليها بوصفها قضية حقوق وطنية فلسطينية، سواء تم السعي لها من خلال وسائل اللا عنف، أو عبر الكفاح المسلح، أي أن للقانون الدولي مكان ضئيل في هذه المعادلة. وكان لنظرة انغريد العميقة، في كيف يمكن للأبحاث الحديثة في القانون الدولي للاجئين، أن توفر إطارا جديدا لمطالب اللاجئين، الأمر الذي مهد الطريق لسلسلة من ورشات العمل الإستراتيجية التي استضافتها لجنة أصدقاء بديل في مخيمات اللاجئين.

ففي مساء أحد الأيام الماطرة والباردة جدا، استضافت لجنة أصدقاء بديل ورشة العمل الموسعة الأولى، في مخيم قلنديا للاجئين، وكانت حول أهمية وعلاقة القانون الدولي للاجئين بالمطالب الأساسية للفلسطينيين. وبالرغم من اللغة غير المألوفة وطول فترة العرض، وتحدي إجماع آراء اللاجئين، اتسمت ردود فعل نشطاء اللاجئين بحماسة وإثارة لم تكن متوقعة، وكانوا على الفور، قادرين على التعبير عن أنفسهم من خلال شعارات، إستراتيجيات ورؤية للمستقبل، مستخدمين مفاهيم الحقوق القانونية للاجئين. في ذلك المساء، وفي تلك الغرفة الباردة والرطبة؛ رأى جميعنا بوضوح، كيف اتفقت نظرية الحقوق بصورة ملموسة مع الاحتياجات والمطالب، لقد كان يوما لم يكن الحاضرون لينسوه سريعا. ومع تواصل ورشات العمل، تكررت التجربة في مخيمات لاجئين أخرى في الضفة الغربية، وكانت كل ورشة عمل تنتهي بالمطالبة بالمزيد، ومن أجل بحوث متطورة أكثر في حقوق اللاجئين، ولكن الرسالة وصلت بعبارات محددة، وباللغتين العربية والانجليزية، وتم تأسيس الوحدة القانونية في بديل، ومن خلالها ومعها شبكة الدعم القانوني التابعة لمركز بديل، وبالتالي، استجابت الوحدة القانونية والشبكة للاحتياجات والمطالب، وساهمت في توسيع وتعزيز الحضور القانوني لبديل على المستوى الدولي.

لعبت مؤسسة بديل ومبادرتها القانونية دور الموجّه والمتابع لتنامي الفعاليات المبنية على أساس التعبير الواضح عن الحقوق القانونية للاجئين، وكانت قيادة بديل دوما تتم في عمق واتساع الأبحاث التي تنتجها من خلال طاقم عامليها، وبمساعدة شبكة الإسناد القانوني المكونة من  خبراء قانونيين من خارج المؤسسة، وكذلك شرع بديل في تطبيق استراتيجيات للعمل من داخل نظام الأمم المتحدة وغيرها من الآليات القانونية والحقوقية الدولية. ومما ساهم في قوة بديل، هو تعاونها الوثيق مع طائفة واسعة من المجموعات الأخرى، وخصوصا تلك المجموعات الناشطة في حركة حق العودة على امتداد العالم، وفي مناطق لم يكن واردا أن يكون لبديل أي أثر فيها بدون مثل هذا التعاون.

هل يمكن القول عن انجازات بديل بأنها ساهمت بتقدم مادي في وضع اللاجئين الفلسطينيين بأية وسيلة ملموسة؟ في الوقت الحاضر، فإن كلا من وضع اللاجئين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية؛ هما بدون شك وبالملموس أسوأ حالا الآن، مما كانا عليه قبل عشر سنوات: توسع استيطاني بدون هوادة، إقامة جدار العزل العنصري الإسرائيلي، أكثر من 700 حاجز ونقطة تفتيش في أنحاء الضفة الغربية، مع قمع وتدمير يومي يؤدي إلى خنق أي مظهر من مظاهر الوجود الطبيعي للفلسطينيين، وقطاع عزة يعيش وضع كارثة إنسانية متفاقمة، مع سقوط يومي لضحايا بين المدنيين بدون إحساس. وعلى المستوى الدولي؛ فقد تحطمت الحركة الفلسطينية من جراء الانقسام بين فتح وحماس، ورضوخ السلطة الفلسطينية لمطالب حكومات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والغياب التام لأي إطار للحقوق الفلسطينية المشروعة في أسس عملية التفاوض المطروحة.

رغم أن الحركة الشعبية المنتشرة في أنحاء العالم لصالح الحقوق الفلسطينية قد تنامت باضطراد، فإن مطالبها ولغتها هي أبعد من أي وقت مضى عن سلطة النخبة المنخرطة في "عملية السلام"، وقد يكون ذلك هو الظلام الحالك الذي يسبق ضوء الفجر؛ فلم يحدث من قبل أن كان هناك الكثير من التأييد الشعبي للقضية الفلسطينية بين الناشطين والناس العاديين في جميع أنحاء العالم مثلما هو عليه اليوم، فقد نجحت الحركة العالمية لحق العودة، والتي تلعب مؤسسة بديل فيها دورا حاسما، في تثقيف جماهير الناس بالحقوق المشروعة للفلسطينيين، كما ساعدت في إشعال المزيد من الفعالية بين صفوف الناشطين غير المرتبطين بالقضية الفلسطينية. وبالاستفادة من أحد صفحات الكفاح الناجح ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا؛ فالحركة الواسعة لحملة المقاطعة، سحب الاستثمارات والعقوبات، أدت إلى ترجمة المطالبة بالحقوق، إلى استراتيجيات لعزل إسرائيل اقتصاديا ولدى الرأي العام العالمي. كما يوجد قاعدة تتسع باستمرار من الأكاديميين الدوليين الذين يعيدون النظر في البحوث القديمة، ويجلبون أبحاثا جديدة للنور، تضع الأمور في نصابها فيما يتعلق بالفظائع الإسرائيلية، مع تأكيدها على شرعية المطالب الفلسطينية. وقد ركزت لجان ووكالات الأمم المتحدة بصورة متزايدة على سجل إسرائيل في انتهاك الحقوق الفلسطينية، وصدرت عنها سلسلة من التقارير الواضحة التي تفصل الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الفلسطينيين، بما فيها الانتهاك المستمر لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، كما أصدرت محكمة العدل الدولية رأيا استشاريا فاصلا  لا لبس فيه عام 2004، فقد أدانت المحكمة بأقسى العبارات، قيام إسرائيل ببناء الجدار، ونظام مصادرة الأراضي الفلسطينية ونقاط وحواجز التفتيش مع النظام التمييزي لإصدار التصاريح المصاحب له.

لقد أصبحت حقوق الفلسطينيين مقبولة على نطاق واسع، باعتبارها معادِلةُ لحقوق المجموعات الأخرى المحرومة، والخاضعة للاستعمار والتمييز، وبخاصة حقوق اللاجئين، وتتعرض إسرائيل للمساءلة والنقاش من قبل الناس العاديين، ومن ذوي النفوذ والتأثير حول مشروعها الاستعماري الاستيطاني، وعن استمرارها في سياسة التطهير العرقي، ونظامها للفصل العنصري. وقد تبددت الخرافة القائلة بأن الفلسطينيين هم مجرد إرهابيين، لما هو في صالح الفلسطينيين، حيث صاروا بشرا وضحايا، ونال الكفاح الفلسطيني تعاطفا ودعما هائلين.

وليس هناك أدنى شك في أن دور مؤسسة بديل كان هاما ومركزيا في هذا الجهد العالمي، وبشكل خاص في التعبير والتمهيد للدعوة لتطبيق الحقوق القانونية، والأكثر أهمية من ذلك، هو إصرار بديل على أن تكون الاستراتيجيات مبنية من خلال مجتمعات اللاجئين، وأن تكون مطالب اللاجئين أنفسهم، وتحركاتهم مقرونة مع ضغط الناشطين العالميين المتضامنين معهم، بحيث تصبح كلا من القيادة الفلسطينية والقوى الغربية؛ مقيدة في التوصل لأي حل لا يقوم على أساس الحقوق والعدالة. وهكذا، ومع أن المسيرة المنطلقة من ورشة العمل الإستراتيجية في مخيم قلنديا للاجئين؛ لم تنته بعد إلى تطبيق حقوق اللاجئين على أساس القانون الدولي والمبادئ العالمية لحقوق الإنسان، ولكنها بالتأكيد تسير في الاتجاه الصحيح، الذي قد يحول الرؤية التي تبلورت في ذلك اليوم الماطر إلى حقيقة واقعة.

__________________

بروفيسور سوزان أكرم هي أستاذة القانون الدولي في كلية الحقوق في جامعة بوسطن. أكرم هي عضو مؤسسة في شبكة الدعم القانوني التابعة لمركز بديل. ساهمت أكرم في بلورة الخطاب القانوني لمركز بديل ولا تزال تساهم في تطويره.