بقلم: نورا عريقات*

في سعيها لإقامة دولة فلسطينية، يجب على القيادة الفلسطينية الحالية استئناف نضالها من أجل تقرير المصير، هذا الحق الذي قد تراجعت عنه القيادة في مطلع التسعينيات لصالح مشروع بناء الدولة. ولتحقيق ذلك، على هذه القيادة التخلي عن أي ثقة في الولايات المتحدة بأن تهبها الاستقلال المنشود. وهذا يعني بأن على القيادة ان تقاوم سياسات الولايات المتحدة بنفس الحجم اللامتناهي الذي تدعم فيه الأخيرة إسرائيل، ويتضمن ذلك استعداداً لأخذ زمام المبادرة من المجتمع المدني الفلسطيني، الذي قاد بنجاح حملة مقاطعة إسرائيل العالمية لسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها حتى تمتثل للقانون الدولي وقواعد حقوق الإنسان.

من مرحلة بناء الدولة إلى مرحلة الاستقلال
منذ عام 1974 ومنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة. ولتحقيق الاعتراف بدولة فلسطين، يجب على م.ت.ف كسب تصويت ثلثي الدول الأعضاء والبالغ عددهم 193. ولإقرارها كدولة عضو في الأمم المتحدة، يجب على مجلس الأمن الدولي رفع توصيته بذلك إلى الجمعية العامة. وفقاً لمحكمة العدل الدولية، من المستحيل الاعتراف بدولة فلسطينية دون توصية من مجلس الأمن. الرأي الاستشاري الخاص بتفسير المادة 4 (الفقرة 2) من ميثاق الأمم المتحدة لعام 1950، ينص على أن "توصية مجلس الأمن هي شرط مسبق لقرار الجمعية العامة حتى يصبح قرار الاعتراف نافذاً". ومن الواضح أن الولايات المتحدة، العضو الدائم في مجلس الأمن، سوف تستعمل حق النقض (الفيتو) لمثل هذه التوصية.

بحسب أفضل السيناريوهات، ستمنح الجمعية العامة فلسطين اعترافاً بكونها دولة، ولكن هذا الاعتراف لن يمنحها السيادة. وفي السيناريو الذي من غير المحتمل حدوثه، وهو أن لا تعترض الولايات المتحدة على توصية مجلس الأمن وأن تحظى فلسطين بمكانة الدولة، فستعمل إسرائيل على منع الفلسطينيين من ممارسة السيطرة على الموارد الطبيعية، والموانئ البرية والبحرية، وحرية الحركة، والأمن، والتعليم، والاقتصاد. وبالتالي، مع أو بدون إقامة دولة فلسطينية، سيبقى الفلسطينيين بحاجة إلى شن حملة عالمية متعددة الأبعاد من أجل حقهم في تقرير مصيرهم على أرض وطنهم. هذه الحالة ليست فريدة من نوعها فقد سبقتها ناميبيا التي حصلت على اعتراف الأمم المتحدة في العام 1962، ولكنها لم تحقق الاستقلال عن جنوب أفريقيا إلا في العام 1988.

وفي الوقت الذي يتجادل فيه المحللون السياسيون المتعاطفون مع المطلب الفلسطيني بتقرير المصير، ويناقشون منافع وحسنات الدولة وكيفية تحقيقها على أكمل وجه، السؤال الأفضل الذي يجب طرحه هو ما إذا كانت القيادة الفلسطينية الحالية قادرةً على أن تقود الفلسطينيين من مرحلة الاعتراف إلى مرحلة الاستقلال؟ الفشل الذريع وما ترتب عليه من سمعة سيئة اكتسبتها كل من منظمة التحرير الفلسطينية (أشير لها لاحقاً بـ"المنظمة") والسلطة الوطنية الفلسطينية (أشير لها لاحقاً بـ"السلطة")، واللتان لم يعد بالإمكان التمييز بينهما خلال العقدين الماضيين، تجعل قدرتهما على قيادة الفلسطينيين من مرحلة الاعتراف إلى مرحلة الاستقلال أمراً مستبعداً جداً، ولكن ليس مستحيلاً.


العجز عن حماية الفلسطينيين من الاحتلال

في سياق الوضع الراهن، لم يجن الفلسطينيون أية فائدة من وضعهم القانوني كشعب مهجّر يحق له تقرير مصيره، ولا كمواطنين في دولة ذات سيادة تتمتع بكل الواجبات والمسؤوليات كباقي الدول. بدلا ًمن ذلك، عمل وسيط عملية السلام الأمريكي على أن يظهر الشعب الفلسطيني وكأنه مساو ومكافئ للدولة الإسرائيلية، بينما يعكس الواقع الحالي أن لا مقارنة من هذا القبيل. الأسوأ من ذلك، وفي محاولتها العقيمة لإثبات قدرتها على الحكم والحفاظ على النظام، صارت السلطة /المنظمة تؤدي دورا يتجسد عمليا في إعفاء إسرائيل من عبء كونها قوة احتلال عسكري.
في الضفة الغربية، وبدلاً من المطالبة بوجود قوة لحفظ السلام لحماية المدنيين الفلسطينيين من عجرفة قوات الجيش الإسرائيلي التي تسيطر على تفاصيل حياتهم اليومية، عملت السلطة/المنظمة بشكل مضطرد على بناء جهاز أمن يرتبط وجوده وأداؤه باشتراطات التعاون والتنسيق مع سلطة الاحتلال. ورغم اضطلاع أجهزة الأمن الفلسطينية بمهمات ومسؤوليات فلسطينية، إلا أن قدرتها على حماية المدنيين الفلسطينيين من وطأة عنف الاحتلال العسكري الإسرائيلي، كما تدلل على ذلك عمليات النقل القسري للسكان الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية، وارتفاع حدة العنف من جانب المستوطنين الإسرائيليين ضد القرويين الفلسطينيين، وارتفاع أعداد الأطفال الفلسطينيين المعتقلين في السجون العسكرية الإسرائيلية...الخ منعدمة.

المطلوب مقاومة، وليس امتثالا

على مدار عقدين من الزمن استنفذتها عملية أوسلو، عملت المنظمة/السلطة وبشكل اضر بالمصلحة الفلسطينية على استرضاء الولايات المتحدة، آملةً أن يقوم الحليف القوي لإسرائيل إما بتحقيق حريتهم من الاحتلال أو ما يشبه ذلك بحيث يكون مقبولاً لإرضاء جمهورها وخدمة مصالحها. يمكن القول أن إقامة دولة فلسطينية هي في مصلحة الولايات المتحدة، ولكن بدلاً من أخذ دورها كوسيط لتحقيق السلام، عملت الولايات المتحدة للدفاع عن إسرائيل، وحالت دون إخضاعها للمساءلة القانونية، وكانت الداعم والراعي الأكبر لها ولمشاريعها الاستعمارية التوسعية.

علاوة على ذلك، تصر الولايات المتحدة على أن حل الصراع يأتي فقط من خلال المفاوضات السياسية، دون أي اعتبار لحقوق الإنسان والقانون الدولي، وهي بذلك تمنح إسرائيل المساحة الكافية للتنصل من مسؤولياتها وواجباتها كدولة احتلال، سواء عبر مواصلة بنائها المستوطنات، او إنكارها لحقوق اللاجئين الفردية والجماعية، وغيرها من الالتزامات. وبدلاً من إحلال السلام في إطار قائم على الحقوق، كما كان الحال في ايرلندا، والبوسنة والهرسك، وجنوب أفريقيا، لا زالت الولايات المتحدة تتعامل مع قضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كما لو أنه لا توجد أية مرجعية (القانون والشرائع الدولية، قرارات الأمم المتحدة، توصيات محكمة العدل الدولية...الخ). وبناءً على ذلك، صارت كل جولة جديدة من عملية السلام تستأنف من نقطة انطلاق جديدة، تسمح لإسرائيل بفرض ما تقضمه من أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية كأمر واقع يبنى عليه.
فمثلاً، بدل الرجوع إلى المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر نقل سكان دولة الاحتلال إلى الأراضي التي تحتلها، تم تأجيل النظر في قضية المستوطنات حتى مفاوضات الوضع النهائي، وعلى المفاوض الفلسطيني حالياً أن يتعامل مع قضية تشمل أكثر من 500.000 مستعمر للضفة الغربية في حين كان عددهم 250,000 مستعمر فقط عند إنطلاق عملية السلام في العام 1991. وقبلت الولايات المتحدة دون نقاش بهذا التطور على ملف المستوطنات بالرغم من كونه أحد محركات الصراع الدائر. الرئيس الأمريكي باراك أوباما بنفسه قال موضحاً: "أساس المفاوضات سيشمل بحث حدود 1967، مع الإقرار بأن الظروف على الأرض قد تغيرت، وسوف يكون هناك حاجة إلى إجراء عملية تبادل أراضي لاستيعاب مصالح الطرفين".

وبدلاً من مقاومة الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، أذعنت السلطة/المنظمة أمام التفوق الأمريكي. كان على القيادة الفلسطينية، ومنذ مدة طويلة، إما المطالبة بوجود مرجعيات واضحة للمفاوضات أو أن تنسحب من عملية السلام ذات النتائج العكسية، ولكنها لم تفعل هذا ولا ذاك، كما تبين من التسريبات لأوراق الفريق المفاوض الفلسطيني.

المسعى الفلسطيني للاعتراف بدولة فلسطينية يعتبر بمثابة أول مواجهة مباشرة للمنظمة/السلطة للاحتلال الإسرائيلي وحليفته الولايات المتحدة منذ انطلاق عملية السلام. ومع ذلك، لا ينطوي توجّه المنظمة/السلطة إلى الأمم المتحدة في أيلول كخطوة أولى على مسار استراتيجي جديد، بل يبدو انه مجرد مناورة دبلوماسية خادعة، ونوع من التضليل قبل استئناف المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة بين البلدين، وحيث سيبقى الوضع القائم على حاله.

رسم مسار جديد

في مذكرته السياسية الواضحة (لصحيفة) الشبكة، يسرد فيكتور قطان العديد من الفوائد "لدولنة" فلسطين. وتشمل تلك الفوائد على الحصانة من الدعاوى القضائية عن أعمال الإرهاب في المحاكم الأميركية، حق النظر في الدعاوى المرفوعة من قبل فلسطين والفصل فيها من قبل المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن المركز القانوني للمقاتلين الفلسطينيين كـ"جنود" لهم الحق في تلقي الحماية بحسب اتفاقية جنيف الثانية