بقلم:  نصار إبراهيم
خافية المنفى والعودة!
                                                             
"صبرا- تغني نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة
كم مرة ستسافرونْ
والى متى ستسافرونْ
ولأي حلم؟
وإذا رجعتم ذات يومْ
فلأي منفى ترجعون؟
رحلوا وما قالوا

شيئا عن العودة
لا، ليس لي منفى
لأقول: لي وطن


كل هذا الليل لي، والليل ملح

ويكون – بحر

ويكون – بر

ويكون – غيم

ويكون – دم

ويكون – ليل

ويكون – قتل

ويكون – سبت

تكون – صبرا.

صبرا – تقاطع شارعين على جسد

صبرا نزول الروح في حجر

وصبرا – لا أحد

صبرا – هوية عصرنا حتى الأبد."

                          (من مديح الظل العالي)

 

"لماذا تركت الحصان وحيدا؟

أجابه:

لكي يؤنس البيت يا ولدي

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها"

                          (لماذا تركت الحصان وحيدا)

"إن عدت وحدك، قل لنفسك:

غيّر المنفى ملامحه...

ألم يفجع أبو تمام قبلك

حين قابل نفسه

"لا أنتِ أنتِ

ولا الديار هي الديار"

                     (لا تعتذر عما فعلت(

احتل محمود درويش ذلك المكان العالي في الوعي الفلسطيني والعربي والإنساني بكل جدارة باعتباره شاعر المقاومة بأبهى تجلياتها الإنسانية والأخلاقية والجمالية. لقد ارتفع بمعايير الإبداع إلى الدرجة التي ستجعل من مهمة أي مبدع، راهن أو قادم، مهمة صعبة ليحتل مكانة في وعي الناس ووجدانهم، لقد فرض نفسه من خلال ارتقائه وصعوده وسيره الدائم عند خط المواجهة المتقدم دون أن يفقد لونه أو خصوصيته. لقد نجح في أن يحمل قضية شعبه إلى أقصى مكان في الكون وان يقدم الشعب الفلسطيني بأجمل ما يكون. هكذا أصبح محمود درويش مقيما فينا، نردد أشعاره ونغنيها عندما نحزن، نكره، نحب، نغضب، نعشق، نصمت، نصرخ، عندما يولد طفل أو يسقط شهيد، عندما نصيغ علاقتنا بذاتنا أو بالآخرين، عندما ننشد للسلام أو المقاومة...

شكل محمود درويش طيلة رحلته الإبداعية رافعة ثقافية ساهمت بكل نشاط وحيوية في صقل الوعي والذاكرة الفلسطينية، فتعامل مع مفردات المآسي والنكبات الفلسطينية وما رافقها من معاندة ومقاومات باعتبارها الطينة الطبيعية الأولى التي منها أخذت تتشكل الأبعاد الإبداعية عند محمود درويش، كان دائما يعود إليها، يعيد قراءتها، يعيد تشكيلها، ليستخرج منها أبهى الصور والمفاهيم الجمالية. كانت هذه العملية، المضنية والممتعة في آن تعيد صياغة وعي محمود درويش لذاته ولتجربته، وكأنه مع كل مرحلة إبداعية كان يولد من جديد، أو على حد قوله: بأنه "وُلد بالتقسيط"، ولهذا كان شاعرا أدمن التوتر والقلق والرهبة أمام كل نص شعري، لم يقع في وهم الرضى عن الذات، رغم أنه كان مشبعا بالاحترام، إنه دائم القلق من العلاقة التي تربط نصوصه بالناس، ولهذا كان نصه قريبا من الناس إلى درجة البوح، ولكنه راقٍ في بنيته وجمالياته المبهرة وأبعاده الموغلة في إنسانيتها إلى أقاصي الروح في لحظات بهجتها أوغضبها وألمها وتمردها الأزلي. بهذا المعنى حضرت الأبعاد الفلسطينية في أعمال محمود درويش، إنه لم يسقط في الرثائية المحبَطة، كما لم يتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها مطية للصعود، بل تعامل معها باعتبارها البيئة الطبيعية للإبداع، كحالة تفاعل مذهلة في غناها وتشابكها، حالة يستحيل معها الفكاك. بهذا المعنى السياسي، الثقافي، الإنساني، النفسي، والأخلاقي تعامل محمود درويش مع حالة المنفى الفلسطيني ونقيضها حلم العودة باعتبارهما فضاء يستحيل، بدون التفاعل معه، كشف الذات الفلسطينية وفهم طموحاتها وصياغة رؤيتها لمستقبل علاقتها بالمكان والزمن القادم، ولهذا كان من الطبيعي أن يولّد المنفى الفلسطيني ثقافته ومعاييره النقيضة التي لا تقف حدودها عند حق العودة بالمعنى الستاتيكي، بل إنها عمليا تذهب بعيدا في المستقبل وكأنها تعيد الخلق من جديد.     

 "... لم أعرف كلمة "المنفى" إلا عندما ازدادت مفرداتي. كانت كلمة "العودة" هي خبزنا اللغوي الجاف. العودة إلى المكان، العودة إلى الزمان، العودة من المؤقت إلى الدائم، العودة من الحاضر إلى الماضي والغد معا، العودة من الشاذ إلى الطبيعي، العودة من علب الصفيح إلى بيت من حجر. وهكذا صارت فلسطين هي عكس ما عداها. وصارت هي الفردوس المفقود إلى حين…"( محمود درويش، المنفى المتدرج، مجلة الكرمل، عدد60، صيف1999).

 بهذه الرؤية يكثف محمود درويش فهمه لمفهومي المنفى والعودة، إنهما ليسا مجرد فعل ميكانيكي يأخذ شكل الانتقال من المكان إلى مكان آخر، وإنما هما حالة تفاعل اجتماعي وإنساني في منتهى العمق. البعض أو الكثير ربما لا يدرك ثقل هذه الأبعاد في نفسية اللاجيء الفلسطيني، وبناء على ذلك يجري تحليل مواقف جموع اللاجئين وكأنها مجرد حالة إنفعالية أو مجرد تعبير عن مواقف سياسية عقلانية أو لا عقلانية. إن عدم وعي هذه الخافية في ثقافة وملابسات اللجوء الفلسطيني، يجرد العودة من أبعادها الإنسانية كما يجردها من أبعادها الإيجابية التي ترى في العودة فعلا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ونفسيا وسلوكيا يرتقي بها إلى مستوى بناء المستقبل الذي هو على النقيض من كل ما يشكل المأساة الراهنة، سواء كان هذا النقيض بفعل الاحتلال أو بفعل الاختلالات الداخلية. وبكلمة أخرى، العودة لا تعني فقط العودة للمكان، وإنما ترافقها صورة متخيلة وأحلام تمت مراكمتها في رحلة اللجوء الطويلة، أحلام تعيد صياغة مفهوم الوطن ومفهوم العلاقات، كما تؤسس لوطن هو على النقيض من كل الخيبات السياسية والاقتصادية التي شاهدها أو عايشها اللاجئ الفلسطيني في رحلة اغترابه. بهذا المعنى انعكست ثقافة المنفى وأحلام العودة في إبداعات محمود درويش، ولهذا (..صارت فلسطين هي عكس ما عداها. وصارت هي الفردوس المفقود إلى حين…"

"...كنت في السادسة من عمري حين خرجت الى ما لا أعرف، حين انتصر جيش حديث على الطفولة لم يكن يأتيها من جهة الغرب إلا رائحة البحر المالحة، وغروب شمس الذهب على حقول القمح والذرة. لم تتحول السيوف إلى محاريث إلا في وصايا الأنبياء. وانكسرت محاريثنا في الدفاع عن طمأنينة العلاقة الأبدية بين ريفيين طيبين وأرض لم يعرفوا غيرها ولم يولدوا خارجها، أمام حرب الغرباء المدججين بطائرات ودبابات وفرت لرواية حنينهم البعيد إلى "أرض الميعاد" شرعية القوة". ( المصدر السابق).

منذ تلك الطفولة المبكرة، الطفولة التي كان من المفروض أن تمارس شقاوتها في المكان الطبيعي وفي سياق العلاقات الطبيعية، لتبني عبر الزمان علاقاتها وذاكرتها الحميمة مع تفاصيل مكانها، فتح محمود درويش عينيه على الواقع الفلسطيني المروع، وجد نفسه يكابد القهر المتراكم وهو يرى أحلامه المقتلعة من بيئتها وهي تسحق في غمرة المأساة الفلسطينية المتواصلة. وهكذا لم يكن ابن السادسة في "... حاجة إلى من يؤرخ له، ليعرف طريق المصائر الغامضة التي يفتحها هذا الليل الواسع الممتد من قرية على أحد تلال الجليل، إلى شمال يضيئه قمر بدوي معلق فوق الجبال: كان شعب بأسره يقتلع من خبزه الساخن، ومن حاضره الطازج ليزج به في ماض قادم.هناك … في جنوب لبنان، نصبت خيام سريعة العطب لنا. ومنذ الآن، ستتغير أسماؤنا. منذ الآن سنصير شيئا واحدا، بلا فروق. منذ الآن، سندمغ بختم واحد لاجئون.

- ما اللاجئ يا أبي؟

- لا شيء، لا شيء لن تفهم.

- ما اللاجئ ياجدي، أريد أن أفهم.

- أن لا تكون طفلا منذ الآن!.." (المصدر السابق).


  وكبر الطفل، أخذ يشاغل اللغة، وغاص في زحمة التجربة، وبين حنين الطفولة وهول المأساة واتساع الأفق الثقافي وانفتاحه على أبعاده وعلاقاته الإنسانية تشكلت معالم الأحلام وحدود التجربة الشعرية، ولكن بقي المنفى بأثقاله وعلاقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية يهيمن على إبداعات محمود درويش. كان يرى نفسه دائما لصيقا بحالة شعبه، نكباته، مقاوماته، هزائمه، انتصاراته، مآسيه الكبيرة والصغيرة، أفراحه الصغيرة والكبيرة، كان يلملم شظايا الذاكرة ليعيد صياغة الوجود، صياغة الحلم المسافر كما تسافر رفوف الحمام ، وكم كان يتمنى أن يحط الحمام يوما فقط ليمارس حياته الطبيعية، ولكن الواقع كان هائلا في معانداته.

  كان الشعر عند درويش نمطا من حياة، والحياة سلسلة لا تنتهي من التجارب والمحاولات، لكنه لم يبتعد منذ قصيدته الأولى وحتى آخر قصيدة عن خط الانتماء لقضيته وذاته.

 
وفي هذا السياق يقول:

 "...لم أعد طفلا، منذ صرت أميز بين الواقع والخيال، بين ما أنا فيه الآن وما كان قبل ساعات. لم أعد طفلا منذ أدركت أن مخيمات لبنان هي الواقع وأن فلسطين هي الخيال. لم أعد طفلا منذ مسني ناي الحنين. فكلما كبر القمر على أغصان الشجر حضرت في رسائل مبهمة إلى: دار مربعة الشكل، تتوسطها توتة عالية، وحصان متوتر، وبرج حمام، وبئر. على سياجها قفير نحل يجرحني مذاق عسله، وطريقان معشوشبان إلى مدرسة وكنيسة، واسترسال يفيض عن لغتي…

هل سيطول هذا الأمر يا جدي؟

انها رحلة قصيرة. وعما قليل نعود."( المصدر السابق).

وعبر ارتقاء التجربة الشعرية لمحمود درويش ارتقى جدل العلاقة بين المنفى والعودة، بين فلسطين ونقيضها، بين الخاص والعام، متابعة هذا الجدل الحي والخلاق ستكشف روعة الإغناء الذي حملته أعمال محمود درويش، إلى الدرجة التي عندما يقرؤها أي لاجئ فلسطيني سيكتشف وسيرى ذاته بصورة لم يتعودها من قبل، إنه ذات الاكتشاف والإحساس الذي يغمر كل فلسطيني عندما يعلن انتماءه لذات الشعب الذي أنجب محمود درويش. القدرة الإبداعية عند محمود درويش وموهبته الفذة مكنته، بعد طول مكابدة، من تخطي المصائد التي يعج بها حقل العلاقة بين السياسة والثقافة والإبداع. لقد تخطى بإصرار تلك المصائد وبقي صاعدا في جماليات شعره دون أن يفقد لونه أو طعمه وخصوصيته، لم تبتلع السياسة وخطابها جمال شعره ولغته الشاسعة في مرونتها وقدرتها على الاستجابة لطموحاته وأحلامه وفضائه الإبداعي، كما لم يسقط في غربة المواضيع واللغة، يقول في مقابلة مع فضائية LBC اللبنانية:

 "...أنا أنزعج من شيء واحد، أن تعرف بطاقتي الشعرية بالبعد السياسي... نحن نعيش في مناطق متوترة ومتأزمة أصبحنا فيها رقباء على أنفسنا، فكثرة التعامل مع الرقابة والإدمان عليها قد تحول الشخص إلى رقيب على نفسه، لكن في الشعر يبدو أن الإحساس بوجود رقيب قد يطور جماليات الشعر، وأنا في رأيي إن أي قصيدة يفهمها الرقيب ويمنعها يكون العيب في القصيدة وليس في الرقيب، على القصيدة أن تكون أذكى وأكثرجمالية وحرية، ملتبسة على فهم الرقيب المباشر لها، فالشعر الجميل والشعر الحقيقي هو الذي يعتمد على حركة المعنى وليس المحدد، والذي يتناول الأشياء تناولا غير مباشر، يستعصي على الرقيب، وربما يحبب الرقيب بالعمل."

 والرقيب هنا لا يقتصر على الأمن بل يتخطاه إلى مستوى الخضوع لرقابة السياسي على الثقافي الأمر الذي يجرد الأخير من كل خيارات التجريب والإبداع والنقد الذي يشمل أيضا تعاسات السياسة.

بهذا الوعي حاور محمود درويش تجربته الشعرية كما حاور أبعاد المأساة الفلسطينية واستطاع أن يرتقي بإبداعاته الشعرية إلى مصاف عمالقة الشعر العالمي، لوركا، ماياكوفسكي، ناظم حكمت، بابلو نيرودا، يانيس ريتسوس... هذا الطراز من المبدعيين الذين ارتقوا بقضايا شعوبهم ، بمآسيها ومقوماتها على المستوى الثقافي والإبداعي  ليجعلوا منها معالم في رحلة الإبداع الإنساني، ولم يكن هذا ممكنا لو تم الهبوط بمعايير الإبداع لتبقى محصورة في أسئلة الوعي المباشر والسطحي.

بقي محمود درويش طيلة تجربته الإبداعية يحاول الإجابة على سؤال العلاقة بي طموحاته كشاعر وبين انتمائه العميق لشعب وقضية وأمة:

 "...الشعر حالة، والشاعر يتغير ويغير نفسه، يتعذب ويفرح، فصورة الشاعر عند العرب بشكل خاص ما زالت منزهة عن أي سلوك يؤذيها، هذا هو خوفي من الشعر، أما خوفي على الشعر فهو خوف من نضوب الشعر، فنحن الشعراء داخلون في مخاطرة لا ضمانات على الاستمرارية، ولا ضمانات للنجاح، وأنا أتحدث عن نفسي فأقول إنني في كل مرة أكتب فيها قصيدة، أذهب للكتابة كأنني أتعلم كتابة الشعر لأول مرة، وفي كل مرة اعتبر نفسي أنني أكتب القصة الأخيرة، إذن هناك دائما توتر وقلق وصراع مع المجهول، ومع طاقة غير مسيطر عليها، إذن هناك مغامرة دائمة، وخوف دائم من الشعر وعليه.." (محمود درويش، مقابلة مع الفضائية اللبنانية LBC  ).

ما تقدم يحيل إلى رؤية وفلسفة محمود درويش للعلاقة التي تربط الشعر أو أي شكل من أشكال الإبداع بالتحديات التي تواجه أي شعب، ويزداد التحدي ويصبح أكثر تعقيدا في الحالة الفلسطينية حيث المأساة المتواصلة والاقتلاع والإلغاء والاحتلال الذي يحاول الاستيلاء على المكان والتاريخ والذاكرة، في غمرة هذا الصراع الطاحن والدامي ولدت تجربة محمود الشعرية في قلب المواجهة والخيارات المحدودة للغاية، إذ أن  الصراع بأبعاده المختلفة لا يترك للمبدع الفلسطيني أي هامش للمناورة. لقد شكل هذا الواقع التحدي الأبرز أمام المثقف الفلسطيني، الأمر الذي انعكس في السؤال التالي: كيف يستطيع المبدع أن يحافظ على معايير الإبداع الأدبي ويتفاعل مع جماليات الإبداع وتطوير أدواته وفي ذات الوقت أن يحافظ على انتمائه لشعبه وقضيتة ؟

أخطر معضلة واجهها المبدع الفلسطيني تمثلت في محاولة تحويله إلى مجرد أداة سياسية مباشرة، أي تحويل الشاعر إلى مجرد كاتب شعارات، المشكلة ليست حول أهمية الشعار كفعل شعبي مقاوم، المشكلة تكمن في الهبوط بالشعر إلى هذا المستوى بينما المطلوب من الشعر أن يرتقي بقدرته في  التعبير عن روح وتجربة ومقاومة الشعب وهمومه وآلامه وأحلامه بأرقى شكل ومضمون أدبي.

بهذا المعنى تمكن محمود درويش من تخطي قيود السياسة المباشرة واستطاع التعبير عن التجربة الفلسطينية بأعلى درجات الجمال الفني،  لقد كشفت أشعار محمود تلك الجوانب العميقة في الإنسان والمأساة والبطولة الفلسطينية وحول كل ذلك بأشعاره إلى قيم إنسانية عالمية، ولهذا فإن كل فلسطيني مهما كان مستوى وعيه أو تعليمه أو دوره كان يجد نفسه في شعر محمود درويش، لقد ساعد شعر محمود درويش الانسان الفلسطيني العادي  المعذب والمقاوم على أن يكتشف بطولته الخاصة، جماله الخاص، ومن هنا ندرك عمق الوعي وأهمية الدور الثقافي الذي لعبته وستلعبه أعمال درويش في تكوين المشهد الثقافي الفلسطيني المقاوم للظلم والقهر، وهذا بالضبط ما يلمسه أي إنسان مقهور على وجه الأرض وهو يقرأ أعمال هذا الشاعر الإنساني الكبير الذي كشف البعد الإنساني والأخلاقي لمأساة ومقاومة الشعب الفلسطيني؛ بحيث بات كل مناضل من أجل الحرية والعدالة يجد نفسه في صلب هذه التجربة:

 " ... لم يعد اي شئ شخصيا من فرط ما يحيل إلى العام ، ولم يعد أي شئ عاما من فرط ما يسمى شخصي".

 في سياق هذا الجدل العالي المستوى في وعي وتجربة محمود درويش، تشتبك العلاقات والمفاهيم ولهذا نراه يبدي خوفه الدائم:

 ".. أخاف من شعري أنه قد يغريني  بالعثور على تعويض عما هو خارج الشعر، وقد يؤسس لي عالمي المتخيل الذي تمكنت من بنائه وفقا لقائمة متطلباتي ورغباتي وحريتي، وبالتالي قد يصبح البحث عن الشعر ذا نزعة غير إنسانية أحيانا بمعنى أن هناك شعر ضميري، كيف نحول هذا الضمير إلى جماليات، هذا سؤال أخلاقي مطروح أمام كل شاعر".( قناة LBC).

 نجح محمود درويش في مواجهة هذا السؤال أو التحدي الهائل، أن لا يستعيض عن الواقع الفعلي بواقع افتراضي، ولهذا نجده في كل أعماله يحاور الواقع يعود إليه، بل إن البنية الاجتماعية في شعره تكاد لا تخرج من دائرة ما يشغل الوعي الفلسطيني العام، فلا يكاد يطير محلقا  حتى يعود ليحط على أغصان الشجرة الفلسطينية بكل ما لها وما عليها ولكن في إطار الانضباط لمعايير الارتقاء والتجريب الإبداعي الذي يحاول دائما أن يكشف في ذات الشيء وذات الواقع نقيضه وجماله، فكلنا يعرف زهر اللوز، ولكننا حتما سنراه بصور جديدة بعد عبارة "كزهر اللوز أو أبعد" وأعتقد أن آلاف القصائد كتبت عن العلاقة مع الأم، ولكن كم سنحس بالإبهار والرهافة والحنين ونحن نقرأ:

"والتفتوا إلى أمي لتشهد أنني هو...

 فاستعدت للغناء على طريقتها:

 أنا الأم التي ولدته،

 لكن الريح هي التي ربته.

 قلت لآخري: لا تعتذر إلا لأمك!"

 

بهذا المعنى العميق نجد دائما خافية محمود درويش التي تغذيه بكل ما هو جميل في واقع يحتدم بالصراعات. هكذااستطاع هذا الشاعر الكبير أن يساهم في إعادة صياغة وعينا لذاتنا وفهمنا لأبعاد واقعنا، بما في ذلك وعينا للعلاقة التي تربط ثقافة المنفى بثقافة العودة، جدل المنفى الداخلي مع المنفى الخارجي، الأمر الذي يؤسس لوعي يفعل ويتحرك باتجاه المستقبل الجميل:

 "كنت أدرك أن انسلاخ الأسطورة عن الواقع ما زال في حاجة إلى مزيد من الماضي، وأن تحرر الواقع من الأسطورة ما زال في حاجة إلى المستقبل. وأما الحاضر فلم يكن أكثر من زيارة يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لا بد منه وبين وطن لا بد منه"( الكرمل،1999).

 ولهذا بالضبط كان  درويش يدفع في كتاباته وأحاديثه نحو رؤية نقدية للاختلالات في الممارسة والسلوك الذي كان يحكم الأداء السياسي الفلسطيني. وبالرغم من أن محمود درويش لم يكن متطرفا بالمعنى السياسي إلا أنه كان صارما حيال كل سلوك سياسي يمس جوهر الوعي الفلسطيني مثل التطبيع "مع دولة إسرائيل، التي على حد قوله لم تفهم من التسوية غير ما يوفر لها القدرة على أن تنجز، في مناخ السلام الكاذب، ما لم تنجزه في مناخ الحرب، من هيمنة إقليمية، ومن راحة استفراد بالشعب الفلسطيني المحاصر" (جريدة الدستور الأردنية، 2002)،  أو المساومة على حق العودة لجموع اللاجئين الفلسطينيين، ذلك أن أحد ركائز إبداعه الشعري يكمن في الدفاع عن وعي  الفلسطيني لذاته وحقوقه بكل أبعادها، فكيف سيتحقق ذلك إذا ما بقي أكثر من نصف هذا الشعب يشعر بالغربة والاقتلاع والقهر؟ لهذا يرى محمود درويش أن الفلسطينيين:

 "قد استنفذوا كل رصيدهم في المرونة حول نفسها، ودفعوا ثمنا أعلى مما تستحقه تسوية لا تتجاوز الاعتراف بحقنا في إقامة دولة مستقلة على عشرين بالمئة من أرض وطننا التاريخي، دون أن يبدي الجانب الإسرائيلي أي استعداد للإنسحاب من متر واحد من مساحة أسطورته عن ذاته وعن التاريخ، التي تعتبر وجودنا التاريخي في بلادنا وجودا احتلاليا غريبا على "أرض اليهود الأزلية - الأبدية"، الخالية منا ومن التاريخ معا"( المصدر السابق).

_______________

نصار ابراهيم: كاتب فلسطيني - مركز المعلومات البديلة