بقلم: يوتم بن هيلِل

في فيلمه "إشراقة أبدية للعقل الطاهر"، يهتمّ المُخرج ميشيل غوندري بأسئلة حول الذاكرة والنسيان. تدور أحداث الفيلم، حول معهد خاص مختصّ بتقديم خدمات محو جزء من الذاكرة أو جزء محدد منها يتعلق بإنسان ما، لكل من يطلب ذلك. ورغم أنه طلب في البداية محو الجزء الخاص بحبيبته من ذاكرته التاريخية، فإن جويل باريش، الذي يجسِّد شخصيته المُمثل جيم كاري، يحاول أن يصارع بكل قواه عملية محو الذاكرة هذه، وكأنه يريد الإبقاء في رأسه على بقايا للعلاقة التي جمعته مع صديقته السابقة، كليمنتين كروزينسكي (المُمثلة كيت وينسلط)، قبل أن تتحطم هذه العلاقة.

في الذاكرة الإسرائيلية الجماعية، فإن ذاكرة النكبة، كارثة الفلسطينيين في العام 1948، هي اليوم ذاكرة مَمْحوَّة تقريبا. ولِمَن وُلد، ككاتب هذه السطور، بعد عدَّة عقود على النكبة، تصبح مهمة التنقيب عمّا تمّ إخفائه وقمعه من قبل مؤسسات دولة إسرائيل ليست بالمهمة اليسيرة دائما.

يتمثل محو الذاكرة، مثلا، بغياب النكبة من الخطاب العام في إسرائيل، ومن مناهج التعليم في المدارس، وفي "تهويد" أسماء الأحياء والشوارع، وأيضا في إخفاء الشهادات المتبقية على الأرض. فبقايا القرى الفلسطينية مخبّئة اليوم جيّدا خلف أشجار الصبار، وأحراش "الكِيرن كيِّيمِت". وبعضها مرّ بعملية تحوّل، إذ تحولت بيوت سكنية إلى مخازن، وأقيمت فوق المقابر مدن ملاهي للأطفال، وتحول المسجد إلى كشك.

لقد عشتُ طفولتي في كيبوتس نير- عام، المُقام بين سديروت وبيت حانون. كان الكيبوتس، الذي أُقيم في سنة 1943، مُحاطا بالقرى الفلسطينية، التي اعتاش سكانها على زراعة الحقول والبساتين ورعي الأغنام. ليس بعيدا من نير عام، تقع قرية هوج، والتي اعْتُبرت قرية "وَدودة" للسكان اليهود في المنطقة. حتى أن سكان قرية هوج قد قاموا في سنة 1946، بتخبئة أفراد من "الهاغاناه" المُلاحَقين من قبل البريطانيين. ولكن هذه الحقيقة لم تُسعِفهم حين طُردوا من قريتهم في أواخر أيار 1948. جزءٌ من بيوت القرية سلب وفُجِّر. ووصل اللاجئون من قرية هوج إلى قرية دِمْرة، ولكنها تعرضت هي الأخرى للقصف الجوي من الطائرات الإسرائيلية. ومن بقيَ من الناس من بين الأحياء، ومن ضمنهم لاجئو هوج، فقد هربوا إلى قطاع غزة. مصير مشابه حلَّ بسكان قرية نَجْد المجاورة، والتي رحل سكانها إلى قطاع غزة في أيار 1948 أيضا، ومثلها قرى فلسطينية أخرى في المنطقة. على أراضي نَجْد ودِمْرة، أُقيم كيبوتس أورْ-هَنير وكيبوتس إيريز.

مثل هذه الروايات، لم تُرو لنا مطلقا، نحن أطفال المنطقة. فمثلها لم يكن مُناسبا لروايات البطولة حول العمليات الكبرى "لتحرير" النقب في حرب 1948. وأنا أشكُّ بعدد الذين يعرفون منا بأننا نسكن على أرض كانت مليئة بحياة أشخاص آخرين لوقت قريب، ولا يوجد لهم أي ذكر اليوم.

مئات الآلاف من اللاجئين "إختفوا" إلى المناطق الواقعة، بغالبيتها، خارج الوعي الإسرائيلي-اليهودي: البلدات الفلسطينية داخل الخط الأخضر، ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وباقي أرجاء الشتات الفلسطيني. ولكن، الأرض لا تزال هنا، والقرى وسكانها الذين سكنوها في الماضي ترافق حياة كل من يسكن هنا في مراحل مختلفة من حياته، حتى بدون أن يدرك ذلك. فهُنا قرية الشيخ مؤنس، وعلى أنقاضها قامت الجامعة التي تعلمتُ فيها (جامعة تل ابيب) وهُنا تقع أيضا قرية بْرير وبجوارها احتفلت بفرحي، وهنا بقايا قرية صُمِّيل- بجانب مفترق الطرق أرْلوزوروف وإبِن غْبيرول؛ حيث سكنتُ بعد زواجي. وهُنا البيوت الباقية من حيِّ القطمون في القدس حيث أقيم مع عائلتي اليوم.

إن محاولة جويل باريش للتصارع مع محو ذاكرته قد فشل. ورغم ذلك، فقد نجح في إيجاد مخرج، من خلاله قد يستطيع استعادة جزء من الماضي. ويبدو بأن شيئا ما يكمن في داخله يجعله مُصمِّما على عدم الانفصال عن هذا الماضي ذي الإشكاليات الكثيرة من وجهة نظره. حتى، عندما تُمحى الذاكرة بطريقة شاملة وأساسية، لا يزال من المهم التصارع مع النسيان. فالناس، الأماكن، والأحداث في سنة 1948 يستحقون بأن يحصل ذلك على الأقل.

-------------------

* يوتم بن هيلِل: ناشط في جمعية ذاكرات