بقلم: نضال ابو عكر*

عقود من الصراع المستمر والمتواصل والمتجدد والذي تعلو وتائره أحيانا وتتراجع أحيانا أخرى، تستوجب إعادة النظر والقراءة الصحيحة للبحث في أسباب الفشل في التوصل إلى سلام حقيقي. ولا شك أن الموقف الإسرائيلي الذي يتنكر للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وينظر إليه باعتباره "زوائد بشرية يجب التخلص من اكبر عدد من أبنائه، و/أو حصرهم في اقل مساحة ممكنة من الأرض أولا، وتأرجح الموقف الفلسطيني الرسمي بين التمسك بالثوابت والقبول بما هو اقل مما قدمت التضحيات من اجله ثانيا، وكذلك الهبوط العام في الموقف الرسمي العربي وسياسات الدول الكبرى وانحيازها للمشروع الصهيوني ثالثا؛ كلها عوامل ساهمت في عدم تحقيق الانتصار وبالتالي تقدم المشروع الصهيوني. ورغم ذلك كله، فالهمجية الصهيونية وكل الحروب والمشاريع السياسية لم تستطع أن تلحق الهزيمة والاستسلام بالعرب والفلسطينيين رغم الاختلال الكبير في موازين القوى لصالح الرؤيا النقيضة التي لم تستطع تحقيق الانتصار الكاسح، حيث لم ينجح المشروع الصهيوني في تحقيق الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، ولا زال الفلسطينيون يتمسكون بحلمهم وحقهم في العودة ولم يفرطوا به رغم أن المخاطر في هذه المرحلة قد تكون اكبر من أي وقت مضى، لا بل لا زالوا، ورغم كل الظروف المجافية، ينظرون لحقهم بالعودة باعتباره جوهر القضية الوطنية ومفتاح الحل للصراع القائم في المنطقة.

إننا ونحن نستذكر النكبة ونحيي الذكرى الثالثة والستين لتلك المأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني، والتي تمثلت بالاقتلاع والتشتيت، نتذكر ما تعرض له الشعب الفلسطيني من تطهير عرقي في العام 1948 حسب ما وصف المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه، مما أدى لتشريد ونزوح قهري لأكثر من ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني واحتلال ما يقارب 78% من ارض فلسطين التاريخية؛ الأمر الذي نتج عنه إقامة دولة الكيان الصهيوني التي عملت على استجلاب يهود العالم؛ ليستوطنوا في قرى وبلدات ومزارع سكان البلاد الأصليين من الفلسطينيين.

وقد نشأ عن هذه المأساة التاريخية الكبرى بحق الشعب الفلسطيني أن استباحت الحركة الصهيونية وبدعم امبريالي استعماري، وسكوت رجعي عربي، فلسطين أرضا وشعبا؛ انسجاما مع المخطط الامبريالي للمنطقة العربية المتمثل باتفاقية "سايكس بيكو" التي قسمت الوطن العربي من جهة، وأتاحت الفرصة لزرع كيان صهيوني في قلب العالم العربي من جهة أخرى. وقد تم استخدام وتوظيف الأسطورة التوراتية لخدمة هذا المشروع وإقامة "دولة يهودية" لتكون الشرطي المتقدم لحماية مصالح الاستعمار الغربي في هذه المنطقة حسب وعد بلفور.

ولتحقيق هذا الهدف، فقد أقدمت العصابات الصهيونية على ارتكاب المجازر العديدة في الكثير من المدن والقرى الفلسطينية، وجلبت الدمار والخراب على حياة ووحدة الشعب الفلسطيني وبنيته الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية، ليتحول إلى جماعات مشتتة في كافة بقاع الأرض.

على اثر ذلك كله فقد احتدم الصراع بين الحركة الصهيونية وكيانها المادي "إسرائيل"، وبين العرب والفلسطينيين الحالمين بحقهم في العودة والحفاظ على هويتهم الوطنية التي تتعرض للضياع. ولا يمكن إغفال الإرادة الدولية التي لولاها لما كان بالإمكان أن ينجح المشروع الصهيوني بإقامة "الوطن القومي لليهود" في فلسطين، والذي استند إلى قرار التقسيم 181، الذي رفضه العرب لأنه نص على إقامة دولة يهودية ودولة للعرب في فلسطين، وقد أعقب ذلك توالي الاعترافات الدولية ب "إسرائيل" وتقديم كافة أشكال الدعم والإسناد لها ومنحت عضوية في الأمم المتحدة.

إن مأساة الشعب الفلسطيني هي مسؤولية دولية أخلاقية وقانونية، وعليه، فان المجتمع الدولي مطالب بتصويب هذا الخطأ التاريخي والاعتراف بهذه المأساة والمسؤولية عنها، وليس كافيا إصدار قرار 194 الذي نتمسك به، الداعي للعودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، وإنما هناك ضرورة للسعي الجاد لتطبيقه وإيجاد الآليات الضامنة لتحقيقه.

وفي درب آلام اللاجئين المرير، جاء المخيم بعد الخيمة رمزا لحالة التشرد والضياع، شاهداً أوحد على ما لحق بالشعب الفلسطيني من مآسي ونكبات، وشهيداً حيا يحمل معاني البؤس والشقاء وفي نفس الوقت الحلم بالعودة إلى ارض الآباء والأجداد. وقد أصبح المخيم الدفيئة والحاضن للنضال الوطني الفلسطيني والذي يرى في الكفاح خشبة الخلاص من حالة الضياع، ويعلي صوته عاليا بان اللاجئين ليسوا مجموعات سكانية مهمشة تقف في طوابير لتمد يدها لوكالة الغوث لتطعمها، وإنما شعب مكافح من اجل قضيته العادلة، وفي خضم ذلك قدم المخيم التضحيات الجسام على مذبح الحرية والعودة.
لقد رفع شعار العودة والتحرير قبل العام 1967، إلا أن الهبوط بسقف هذا الشعار ارتبط بمسيرة النضال وقيادة الثورة والتغيرات الدولية، إلى أن وصلنا إلى اتفاقية أوسلو التي وضعت قضية اللاجئين في إطار الحل النهائي أو تجاهلتها واعتبرها البعض ورقة للمساومة.
إن الاحتلال لا زال يتنكر للمسؤولية التاريخية والقانونية عن مأساة الشعب الفلسطيني، رغم أن القيادة الفلسطينية قدمت في أوسلو اعترافا بحق إسرائيل بالوجود، ولكن للأسف مقابل اعتراف إسرائيل بـ (م.ت.ف) كممثل سياسي للشعب الفلسطيني، لم تتوفر بعد الإرادة الدولية القادرة على أن تفرض على إسرائيل تطبيق القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وفي مقدمتها حق العودة حسب القرار الاممي 194، رغم أن قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة كان متصلا – بحسب المراسلات والمداولات في حينه- بهذا القرار والعمل على تطبيقه.

لقد راهن الشعب الفلسطيني بعد النكبة على الأنظمة القومية لإنجاز حقوقه الوطنية، ولاحقا فجر ثورته الفلسطينية المعاصرة، ولا زال مستمرا في نضاله ولم يسقط تطلعه وحلمه بحق العودة، ويرى في هذا الحق أنه حق لا يسقط بالتقادم، بل هو حق فردي وشخصي وجماعي وليس من حق أياً كان التنازل عنه. وكما تحولت الدولة الفلسطينية من إمكانية تاريخية إلى إمكانية واقعية بعد انتفاضة العام 1987 وفقا لرؤية جورج حبش، وبما أن تشاؤم العقل لا يلغي تفاؤل الإرادة حسب غرامشي، فإن حق العودة ممكن وواقعي وقابل للتحقيق، وهو حق وطني وإنساني وغير خاضع للاستفتاء.

إن رياح التغيير والثورات الشعبية التي تهب على عالمنا العربي المحيط تبطل إدعاءات مروجي الأفكار الانهزامية وعدم واقعية التمسك بحق العودة. هؤلاء يرون أن قدرنا أن لا ننتصر، فمن كان يتوقع أن الجماهير الشعبية لديها القدرة على إسقاط الأنظمة والإطاحة برموز الدكتاتورية والطغيان في هذا الزمن القياسي، فالشعوب طوحت بحاجز الخوف وأمسكت بزمام المبادرة لاستعادة سيادتها باعتبارها مصدر السلطة ومرجعها الأصيل، وهي قاطرة التغيير الحقيقية التي تصنع التاريخ ولا تفرط بحقوقها. فإرادة الشعوب تنتصر وإرادة الأنظمة تتهاوى وتسقط، والشعب الفلسطيني وبحكم خبرته النضالية وتاريخه الكفاحي هو جزء من هذه الأمة المنتفضة التي تسعى للتحرر الوطني والديمقراطية والوحدة، بما فيها من عدالة وحرية وكرامة قومية، ويرى في هذه الأنظمة وإسرائيل العقبة الرئيسية أمام هذا التطلع.
وبرغم ما أحدثته اتفاقية أوسلو من تشوهات في النضال الفلسطيني الطويل وتراجع على الصعيدين القيمي والأخلاقي، كونها اتفاقية لا تستند إلى قرارات الأمم المتحدة لا سيما القرار 194 الأمر الذي يبقي الطريق مسدودا أمام هذا الحق، لا زال الفلسطينيون يتمسكون بهذا الحق ويعتبرون هذا الثابت الوطني جسر الربط بين الحل المرحلي "دولة في ال 67" والحل الاستراتيجي "تحرير فلسطين".

وفي ضوء إمكانية نضوج الظرف العربي ونهضة الحاضن القومي بفعل الثورات الشبابية، والتي حتما ستشكل مقدمات لانتصارات سياسية قادمة، يكون من الواجب إعادة النظر في المسيرة التفاوضية والتراجع عن اتفاقية أوسلو ومواجهة البيروقراطية السياسية المتحالفة مع الكمبرادور. لقد صاحب المسيرة التفاوضية بعد اوسلو، تفشي الفساد والامتيازات وتغليب المصالح الطبقية على المصلحة الوطنية، والارتهان والارتباط بالعولمة الأمريكية مما اقتضى استحقاقات سياسية وثقافية. وكان على أصحاب هذه الرؤية دفع هذه الاستحقاقات، حيث اقتصرت خياراتهم على دولة في حدود 1967، في حين ينظر أصحاب هذه الرؤية إلى حق العودة للاجئين كورقة مقايضة مقابل بقائهم في سلطة محدودة السيادة، ليبقى هدفهم السلطة وليس الوطن والمواطن. ومن المفيد التذكير أن الانقسام والفئوية الضيقة وتغليب العقيدة على الوطن وعقلية الإقصاء والتهميش وادعاء امتلاك الحقيقة، والارتهان لمواقف قوى خارجية وغياب الإجماع حول برنامج وطني جامع، كل هذا النهج اضر بمسيرتنا وأدخلنا في مأزق وأعاق كفاحنا الوطني، وأوصلنا إلى اقتتال وانقسام السلطة والوطن والشعب. ومن مظاهر الخلل هو غياب صوت الشعب أو الإرادة الشعبية، حيث نصبت بعض النخب نفسها مكان الشعب، إلى أن وصلنا إلى تهميش الجماهير الشعبية وتجاوز حقها في التعبير عن رأيها وتقرير مصيرها الأمر الذي أدى لشرذمة في البنية السياسية والنسيج المجتمعي والعائلي أيضا، وعمق من حالة الإحباط والاغتراب وفقدان الثقة.

إن المطلوب الآن وبمناسبة الذكرى السنوية للنكبة هو إعادة الأمور إلى نصابها معلنين تمسكنا بحق شعبنا بالعودة، فلا سلام بدونه باعتباره حق وطني ثابت من ثوابتنا، وهو شعارنا الجامع الذي يجب أن يكون الأرضية الصلبة لبرنامج إجماع وطني يلتف حوله الجميع، وان نرفض كل أشكال المراوغة والالتفاف على هذا الحق ومواجهة وفضح عبثية مقولة الحل العادل المتفق عليه من قبل الأطراف المختلفة، لان في ذلك انتقاص لحق العودة حيث أن التفاوض لا يجوز أن يكون على مبدأ الحقوق بل فقط على موضوع تطبيقها واليات ذلك. ان التستر وراء جملة "حل متفق عليه" يعني فعليا إما إدامة الصراع حيث يستحيل الاتفاق مع "إسرائيل" ذات المشروع الاستيطاني التفريغي، أو إجبار الطرف الأضعف (الفلسطيني) في المعادلة للتنازل، وبالتالي القبول بمشاريع التوطين والتعويض المرفوضة جملة وتفصيلا. إن الأيام القادمة قد تحمل الكثير من المتغيرات في محيطنا العربي وفي العالم على العموم، وحالة الضعف التي نمر بها لن تكون أبدية، فنحن مدعوون لتجديد الأمل والتمسك بحلمنا بالعودة وإطلاق المجال لأوسع المبادرات الشعبية التي تمثل الحاضن الجماهيري القادر على التمسك بحق العودة وحمايته من التفريط والضياع.
------------
* نضال أبو عكر: أسير محرر من سجون الاحتلال الإسرائيلي.