الثورة التونسية قطرية النشأة قومية الامتداد والأثر

بقلم: عواطف كريمي*

انطلاقا من أن الثورة التونسية التي انطلقت بهبة شعبية عارمة هي ثورة الحرية والكرامة قبل الخبز، وهي تلك الصحوة العربية التي جعلتنا نرى الأوطان وننظر إليها بعين القداسة والمحبة، وبعين الجسارة والتحدي؛ فهي تحدٍّ لكل ما هو عنوان للصمت والقهر والذل والخنوع والفساد... تحدّ لما كانت تمثله الأنظمة العربية من تواطؤ وبشاعة ملّها الإنسان العربي بعد أن رزح تحت سياطها طويلا؛ انها ثورة تتحدى المستحيل نفسه وتنفتح على كلّ الاحتمالات بما فيها احتمال العودة إلى الحس القومي وبقوة.

الثورة التونسية، فجر الثورات العربية وأول الغيث النافع الذي استبشرت بهطوله الشعوب العربية؛ فشعرت بان زمن عودة الأوطان إلى أهلها قد حان، وان زمن النضال الفعلي للرقي والخروج من مستنقع الصمت والاستسلام قد ولى، وأن الاستعداد الفعلي لخلق مشروع وطني قومي شامل يتغذّى من روح الثورة ويستقي منها عوامل القوة والعطاء والارتقاء ليس بمستحيل على الشعب العربي. هذا الشعب العربي الذي باندماجه في الجسد القومي يحقق خطوته الأولى لتحقيق الوحدة العربية والألفة العربية المنشودة، والتي بإمكانها لو توفرت لها كل العناصر لأمكنها الخروج بالأمة من حالة الضعف والوهن والتذبذب إلى حالة امتلاك الحرية والمشاركة في صنع القرار عربيا وعالميا.

وحدة الأمة العربية لم تعد مجرد حلم بل أصبحت الخيار الوحيد للخروج من بوتقة الضعف المادي والمعنوي، واسترداد الثقة بالنفس والإيمان بأننا أمة ذات مجد وفكر ورسالة حضارية سامية. وحدة الأمة العربية هي الحل الأمثل للوقوف سدّا منيعا في وجه الغزاة والطغاة والمحتلين والطامعين في نهب ثرواتنا... ولعل انبثاق فجر الكرامة العربية وهبوب نسمات الحرية التي كان منطلقها تونس قد أسهم في التعبئة من اجل ثورة مصر الكنانة، فأول الغيث قطر ثم ينهمر وها هي اليمن وسوريا وليبيا والبقية تأتي، في طريقها إلى تحقيق ما أنجزته تونس ومصر. وهو أمر قد يساهم في تنمية الشعور بالحس القومي والرغبة في الانتماء إلى وطن أكبر يكرس للحريات وكرامة الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، تسوده الديمقراطية ويسعى إلى تحقيق أهداف الثورة والانتصار لها والمحافظة عليها في مرحلة أولى، ثمّ اتخاذها أساسا لانطلاق المراحل القادمة. كما أن التمسك بالتوجه الشعبي العفوي للثورات والإيمان بمفهومها التحرري بإمكانه أن يساعد في خلق روح وطنية ظلت في غفوة لعقود طويلة، ويوقظ غيرة قومية أرادوا لها أن لا تفيق من غيبوبتها لغايات استبدادية واستعمارية بشعة.

فالإنسان العربي اليوم يجد نفسه متعطشا أكثر من أي وقت مضى إلى تنظيم الصفوف وترميم الأوطان تحت شعار ثورة الحرية والكرامة والعزة، للخلاص من غول الاستبداد والعبودية والتخلف والتغييب السياسي الذي مورس عليه لعقود وعقود بنية تركيعه وتنويمه وتقزيمه من قبل أنظمة متواطئة غاشمة ظالمة، ومن قبل غرب يرعى مصالحه عامة ومصالح طفله المدلل (إسرائيل) خاصة.

وهكذا يمكننا المرور من مرحلة النضال القطري وتحقيق أهداف الثورة على مرحلة النضال الفعلي وتحقيق أهداف الأمة وذلك بالتوسع في نشر الروح القومية وأهدافها الخالدة التي نعلم أن أهمها وأقدسها قضية فلسطين المحتلة. وللدور التوعوي هنا أهمية قصوى لدعم القضية إعلاميا وماديا ومعنويا، وذلك بالوقوف إلى جانب الثورات العربية المناضلة والمقاومة في كل أرجاء الوطن العربي حتى نحقق وحدة وقوة ومنظومة قومية يحسب لها العالم ألف حساب. ولا يقتصر دورها على أفق قطري ضيق قد يحقق ارتياحا مؤقتا ونصرا قصير المدى، ولكنه لن يرتقي بالثورة العربية إلى مصاف الثورات الخالدة التي تعيد بناء التاريخ العربي المعاصر وتصنع كرامة الإنسان العربي ومستقبله المشرق. لن تبلغ الثورات العربية التطور التاريخي والحضاري المنشود دون العمل على توفير أرضية نفسية وثقافية وعلمية ووطنية سليمة الفكر والروح والانتماء، تراهن على الإنسان العربي كأهم عنصر من عناصر إنجاح هذه الثورة في ظل مجتمع سليم يسوده الاحترام رغم الاختلاف، ونظام سياسي نظيف وعدالة اجتماعية شاملة وديمقراطية صحيحة صادقة... عندها سيتمكن الإنسان العربي من صنع المعجزات لأنه توصل إلى المصالحة الفعلية مع نفسه ووطنه وهويته، ولأنه تمكن من التحرر من عقده وكسر قيود الخوف والذل والخضوع وأصبح سيد نفسه وحياته وقدره. يومها سترتفع راية العروبة عاليا وستتحرر الأوطان من كل أشكال الظلم والقهر والسيطرة والطفيليات العالقة.

---------
*عواطف كريمي: أديبة وشاعرة تونسية مولودة في مدينة قابس/تونس، من شباب ثورة الياسمين، صدر لها ثلاث مجموعات شعرية.