حنظلة الفن البديل: صوت الرفض العاشق

بقلم: ابتسام خليل*

بين تونس وفلسطين أكثر من نبض عاشق، ومن موعد مع التاريخ ومع الفن البديل في مختلف رؤاه وتعبيراته، سواء ارتبط ذلك بالمسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية أو الأغنية الملتزمة...، فمأساة فلسطين في الوعي الجمعي عند التونسيين أعمق غورا من عذاب الاجتثاث من الأرض سنة 1948. لقد أمست فلسطين المحتلة رمزاً للحق المغتصب ولكرامة العرب المعطوبة، خاصة بعد أن أظهرت هزيمة 1967 مدى الضعف العربي.
لقد كانت شعارات البورقيببية من "فرحة الحياة" و"الصدق في القول" و"الإخلاص في العمل" تجد أبواقا لها في شتى القنوات السمعية البصرية من إذاعة وتلفزة وأغان ومسرح مرتهن للسلطة؛ لكن هل لّبّت هذه الفنون التي تروج لمقولات السلطة حاجيات فئات واسعة من الشعب التونسي ومن شبابه المتعلم الجامعي؟

فئات من البسطاء ومن النخبة أيضا همشت طيلة عقد من نيل الاستقلال وتواصل تهميشها. فيمّمت في كثير من الأحيان عيونها وأحلامها شطر المشرق، وخاصة شطر القائد المصري الرمز "جمال عبد الناصر". ثم أتت الهزيمة، والحماس والغليان الشعبي يهيب بكل عربي أن يرفع رأسه ويفخر بعروبته. وإذا الكرامة والحرية الحقّة محض سراب في عيون التونسيين والعرب عموما. لقد احتلت الأرض الفلسطينية والشعوب والحكام العرب ينظرون! نعم، وطنوا النفس على أنّ خسارة المعركة لا تعني أنهم خسروا الحرب. ولكنّ النكسة كسرت حلم الجموع المسحوقة الحالمة ب "تونس" وطنا تعيش فيه بكرامة، وفي ذات الآن يملك هذه الجموع حب وطن آخر وليس ذلك الوطن إلا فلسطين، لا ترضى بغير تحريره، وترفض واقع الهزيمة والنكسة رغم انكسار الحلم.

ولما فاجأت ست طائرات صهيونية الشعب التونسي في صباح الأول من أكتوبر 1985، بقصف "حمام الشط"، ازداد هذا الرفض اشتعالا واكتواء بدماء التونسيين والفلسطينيين التي سالت يومذاك، في خط واحد هو خط الانتماء إلى امة واحدة وقضية واحدة. لقد سمّى الاحتلال الإسرائيلي تلك الغارة "غارة الساق الخشبية" تلميحا إلى أنّ الناجي السعيد لن يكون عائدا فحسب من الموت، بل لن يخرج حيا إلا بسيقان خشبية. وفات إسرائيل أنّ هذه المذبحة لأبناء الشعبين ستكون الوقود الأكبر لوعي التونسيين بالمصير المشترك مع الشعب الفلسطيني. ألم تهب تلك المحنة الفن الملتزم في تونس سيقانا سوية تمشي بها خطوات ثابتة في السينما البديلة والمسرح ذي الهمّ النضالي؟

ولم يكن شأن الاغاني في تونس مختلفا، إذ التفتت الأغنية الملتزمة إلى الواقع المحلي التونسي والى شعر المقاومة الفلسطيني بكل إكبار وانحياز إلى قضية عادلة غير قابلة للمساومة. فهل من الغريب وقد تحققت ثورة تونس يوم الرابع عشر من كانون الثاني أن يرفع شباب تونس صوته مناديا بحرية القدس؟ لقد تعانقت في ساحة القصبة شتى الفنون من غناء ملتزم ومسرح بديل ومواقف مرتجلة تمتلئ بروح المرح والإقبال على الحياة. أيعد إسرافا في الحلم أن تكون الشعارات المطالبة بمجلس تأسيسي وبالكرامة للتونسي جنبا إلى جنب مع لافتات كتب عليها بمداد العنفوان والغضبة الشابة المباركة "الطريق إلى القدس يبدأ من القصبة"؟

الأغنية التونسية البديلة، أعلامها ورسالتها:
لقد كانت الأغنية الملتزمة، منذ انطلاقتها في تونس، على موعد مع فلسطين. ف "الهادي قلة" احد رموز هذه الأغنية البديلة، قد بدأ مشواره الفني في التلحين والغناء خلال السبعينات، وهو ما يزال طالبا بفرنسا. وقد غنى لأول مرة بتونس سنة 1977، فاعتلى ركح مسرح قرطاج الأثري آنذاك في عرض تميّز بمشاركة الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش". لقد اشتهر الهادي قلة خاصة بأغنيته الرائعة "بابور زمّر"، عن هجرة الشبان التونسيين والرحلة في عرض البحر كما الدواب تحشر في "سفينة/ أي بابور" باللهجة العامية التونسية، لا لشيء إلا لانغلاق أسباب الحياة الكريمة في تونس.
وقد وجدت هذه الأغنية رواجا واسعا لدى مختلف الفئات الاجتماعية في تونس، لا سيما في أوساط الطلبة في المبيتات الجامعية. وإن لم يحسب لل "هادي قلة" إلا هذه الأغنية "بابور زمر"، وتلحينه لقصيدة محمود درويش "برقيّة من السجن"، لكفاه ذلك فخراً. فما من ريب أن أغاني "الهادي قلة" التونسي، وأغاني الشيخ إمام كانت وراء ظهور فرق موسيقية تنشد الاختلاف والأغنية الجديدة ذات الرسالة النضالية، مثل فرقة "الحمائم البيض"، وفرقة "البحث الموسيقي"، إلى جانب أصوات متميزة مثل صوت "الأزهر الضاوي" وصوت "الزين الصافي".

إنّ مجموعة البحث الموسيقي بقابس، كانت تعبير عن غليان الشارع التونسي بحق، ألم تتكون أواخر السبعينات بعد أحداث 26 كانون ثاني الأليمة؟ لقد أرادت الالتصاق بهموم الفقراء والكادحين والعمال والعاطلين عن العمل في تونس، وغنت للشهيد والسجين في كل مكان في الدنيا. و كان شعر "آدم فتحي" من خلال فرقة "البحث الموسيقي" وفرقة "الحمائم البيض" يتنفّس نسائم الغضب واليقين في "العودة". وكان الفلسطيني ليس استثناء، إذ التونسي ليس تونسيا ببطاقة الهوية، بينما يحمل بين جوانحه السجن وكل حالات التضييق والحصار وتكميم الرأي المخالف، الم يحلم "آدم فتحي" وفرقة "البحث الموسيقي" وكل تونسي رافض للذل؟ الم يحلم ولسان حال "آدم فتحي" يقول:
سآخذ وجهي وارحل ....
إن أزفت ساعتي
ثائراً كالرياح
.....
لكني سأعود
ومعي غضب قاصف
ومعي خطوة باتساع الوجود
سآتي بوجهي وارجع ...
قائلا للنخيل
قف برغم الرياح
قائلا للزياتين، للبرتقال الوليد
فلنقم وطنا في الصباح الجديد"

السينما والمسرح في تونس: نحو بديل واثق الخطوات
تبدو السينما التونسية محتشمة في تناول القضية الفلسطينية، بقدر ما حضرت فلسطين ومأساة الأرض المغتصبة في الشرق العربي عند سينمائيين نوّعوا الرؤى وتساءلوا عن الحل بمرارة أو المحوا إليه بشكل غير مباشر. وقد جاء شريط "الخطاف لا يموت في القدس" للمخرج "رضا الباهي"؛ ليكسر القاعدة ويقدم الاستثناء الجميل، الحامل للبعد النضالي إلى جانب الطموح الجمالي والرؤية الإخراجية المميزة. لقد تاهت السينما التونسية في حي من أحياء المدينة العتيقة وبقيت أسيرة الحنين ومغازلة الجوائز العالمية عبر مخاطبة الخيال الأوربي عن المشرق والأجساد الأنثوية المبذولة للعين بكرم حاتمي، فابتعدت هذه السينما، إلا في حالات قليلة، عن الجمهور التونسي العريض وعن آلام الشعب الحقيقية وأحلامه وطموحاته. وإن قسنا حضور فلسطين في السينما فلن نظفر بأكثر من شريط وربع، أو شريط ونصف في أفضل الأحوال، هذا في انتظار شريط مملكة النمل للمخرج التونسي شوقي الماجري الذي سيخصصه لمقاربة مأساة فلسطين متناولا إياها من منظور إبداعي سينمائي، حشد له مختلف مقومات النجاح وعوامله.

فهل من سبيل إلى إنتاج واقع سينمائي بديل يفتح مسالك اللقاء بين مختلف التجارب وبناء ثقافة سينمائية تكون رافدا قويا للثورة التونسية ولديمقراطية التعبير دون السقوط في فخ الاستشارات الوطنية الشكلية مرة أخرى؟
وفي مقابل هذا الضمور لقضية فلسطين في السينما التونسية، أمكن لتجارب مسرحية أن تتوهج في الإمساك بخيوط المأساة الفلسطينية دون أن تتعسف على الشخصية التونسية، ودون إهدار للخطاب البصري الجمالي أساسا. إذ ينجح الثنائي ليلى طوبال وعز الدين قنون في مسرحية آخر ساعة، فإذا الزيتون الفلسطيني يجلب إلى الزيتون التونسي أمام فعل اقتلاع هذه الشجرة في الحالتين بالقوة، وكأن الزيتون يتناثر دمعا، يذبح وينسكب دما لا زيتا.
يقول الأب وهو الشخصية المغلوبة على أمرها في المسرحية "الزيتون، يما الزيتون": إنها القطيعة بين جيل الآباء وجيل الأبناء (الابن في المسرحية عازف قيثار، لا تعني له الأرض شيئا فضلا عن الزيتون). وقد كتبت صراع الأجيال هذا، الفنانة المسرحية ليلى طوبال باقتدار كبير، وقالت إنها رأت "عجوزا فلسطينية تحضن شجرة الزيتون أمام الجّرافة الإسرائيلية"، و قد حركت هذه الصورة فيها "تاريخا كاملا من الذل والخوف والهزائم العربية".
لذلك يبدو تمسّك الأب بالزيتون كدسا من الانكسارات ومن التشبث بالجذور والهوية في رفض للامحاء تعبر عنه شخصية "نجمة" أحسن تعبير: "نحبك يا بلادي مهما عملت، ومهما ظلمت، ومهما خصيت، وذليت، ومهما بكيت".

وليست مسرحية "جوانح المحبة" للمخرج حافظ خليفة إلا علامة مضيئة من محاورة التراث (طوق الحمامة لابن حزم) في مسار من المغامرة والتجريب بعد نجاح مسرحيتيه" زرّيعة إبليس" و"حس القطا". إذ كانت "الكوميديا دي لارتي" منظورا فارقا، تناول حافظ خليفة من خلاله، الحب في هذا الزمن الذي يرقص فيه القتلة على قبور الأبرياء ويشربون نخب الجريمة المتكررة بنشوة. فأي حب يبحث الصديقان حازم (عبد الرزاق مصطفى) ومهدي (عبد المجيد جمعة)؟ ما الذي سيحررهما من الألم الممضّ، وقد قادتهما رحلتهما إلى فلسطين ليريا مأساة اغتصاب الأرض وتهجير الشعب الأعزل أمام العالم كله؟ بأي حب سيلوذان وقد أيقنا أنّ الحب في هذا الزمن سراب لا يوجد إلا على صفحات الفيسبوك والطرق السيارة الافتراضية، وتظل الكوميديا السوداء مكمن القوة في مسرحية "جوانح المحبة". ألم يعمد حافظ خليفة إلى جعل العرب في صورة الكائنات الآيلة للانقراض ما دامت لا تقرر مصيرها، هل كان بعيدا عن الإنصاف، مغرقا في التشاؤم عندما جعل العرب كائنات تنبح لفرط ما نددت واحترفت التنديد، ما رأي أبي العلاء المعري لو بعث حيا ورأى حال العرب وهو الذي قال: "الكلب من لا يعرف للكلب تسعة وتسعين اسما"؟ تسعة وتسعون اسما للكلب يا ترى، يقول؟ أم تسع وتسعون اسما للثور؟

لا تقتلوا ناجي العلي مرتين ركوبا على ثورتي تونس والأقصى:
حنظلة يتضامن معك يا فيتوريو، فكلا القاتلين يكره الحرية"، انه ليس شعاراً. لقد قتل فيتوريو اريجوني، ناشط السلام والمدون الايطالي يوم 14 نيسان 2011 بعد أن هددت السلفية الجهادية في غزة بقتله ما لم يطلق سراح زعيمها الذي اعتقلته حماس الشهر الماضي. لقد حرّك اغتياله هذا سيناريوهات قتل القسّ الشاب في تونس بعد نجاح الثورة في تونس، ومن اشدّ هذه السيناريوهات اتساخا تلفيق سيناريو اختلاف بين القس وبين شاب نجار يعاشره على خلفية شذوذ جنسي يجمعهما في علاقة مريبة، ولقي هذا السيناريو من يصدقه، للأسف، بعد فشل سيناريو آخر، وهو رمي النهضة الحزب الإسلامي المحظور سابقا بتهمة قتل القسّ، وليست الغاية من هذا السيناريو إلا زرع البلبلة والفتنة بين الشعب التونسي.

الثورة والثورة المضادة في تونس ومصر، ومن ورائهما أيادي المتربصين في الداخل والخارج. فيحضرني مشهد ذو دلالة قوية على الأيادي الأجنبية التي صنعت مصير فلسطين المأسوي، ففي مسلسل تلفزيوني بعنوان "قمرة سيدي محروس"، يجمع مشهد قصير بليغ بين الممثل التونسي "فتحي
الهداوي" ومن يحدثه في المقهى، وبعد حوار قصير، يصدع الممثل (ويجسد شخصيته فتحي الهداوي) بان قضية فلسطين لعبة لعبها الكبار (كبار الدول الأجنبية)، واتفقوا، ولا تحل قضية فلسطين ب "تخميرة في سيدي محروس". هكذا قال فتحي الهداوي الممثل على لسان الشخصية في مسلسل "قمرة سيدي محروس"، فقطع مع التناول العاطفي للقضية الفلسطينية ببعض كلمات منتقاة باللهجة العامية، وبكاريزما يصعب أن يفك المتفرجون أسرها ويخرجوا من دائرة سحرها وسحر القول الفصل.

نعم، حسن القطع مع العقلية الغيبية ومع التوسل بالأولياء الصالحين من اجل رفع الغمة عن الشعب، ولكن في نفس الوقت هذا المشهد التلفزي خطير، إذ يضع التغلب على إسرائيل وعلى إرادة الشعوب الغربية القوية أمرا غير معقول، أليس في هذا المشهد بلاغة، ولكن، في ذات الوقت فيه نبرة واقعية هي اقرب إلى التشاؤم و العجز والانبطاح؟
أما حنظلة في مسرحية مديح البيت للتونسي "محمد دغمان"، فلا يستعيد من خلالها مأساة ناجي العلي فحسب، إن حنظلة و ناجي العلي في العرض، رمز لواقع بأكمله، هو الواقع التونسي والواقع العربي وواقع الصراع العالمي، كل ذلك عبر شخصية حنظلة، الطفل الجاثم هناك في كاريكاتور ناجي العلي بين الأبيض والأسود.

يجب أن نتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الثورة وفجر الفن البديل، فلا نقتل حنظلة الفلسطيني وحنظلة التونسي مرة بأيدي تونسية أو بأيدي مصرية، ومرة بأيدي فلسطينية، وأخرى بأيدي أجنبية. ويظل حنظلة الشاهد على الصراع، ويظل شهيد هذا الواقع الذي يظل حيا فينا. الم يقل ناجي العلي: "الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة"؟
لقد سئل ناجي العلي عن موعد استدارته لتتسنى رؤية وجهه، فأجاب عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".
واستطيع أن أضيف على ذلك أيضا "عندما يأمن بوائق الأخوة، أبناء الوطن قبل الأجانب"، عند ذلك تحين رؤية حنظلة اسما آخر للفن البديل في تونس مسرحا، أو سينما أو دراما تلفزية أو أغنية ملتزمة.
وبإمكان "حنظلة الفن البديل" أن يعود لنا وجها وصوتا تونسيا ويرغم الغد الفلسطيني الذي طال تسويفه على الإمكان لكي لا يقول هذا الغد المرتقب: "ليت هندا انجزتنا... ليت ثورة...".
---------
* ابتسام خليل: كاتبة وناقدة من تونس.