الثورة التونسية تعلن سقوط وهم العروش وتعد فلسطين: "إنا قادمون"

بقلم: فوزي الديماسي*

إنّ الظلم، والقهر، والفقر، عوامل تنذر بقيام الثورات، آجلا أم عاجلا، إذ لا يمكن للظلم بأنواعه: السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، أن يستمرّ، ويسود لسنوات عديدة دون أن يخلّف في الأنفس الشعور بالغليان. والشعوب كما البراكين، يذهب الظنّ بالحاكم السخيف بأنّه قادر على السيطرة على الشعوب بسياسة العصا والجزرة، وقد تنجح سياسة العصا والجزرة هذه، ولكن إلى حين.

الثورة التونسيّة، هذه الثورة التي دشّنت عصر سقوط الأقنعة، والعروش الشاحبة، كانت نتاجا لتراكمات عديدة من أهّمها: الواقع الاجتماعي المتردّي، والحيف في توزيع الثروات الوطنيّة، فمن الجهات من لم يبلغ خطّ الفقر حتّى، علاوة على تفشّي ظاهرة البطالة في صفوف حاملي الشهادات العليا، وبراثن البطالة التي امتدّت لكلّ الجهات، كانت قادحا لاشتعال التحرّكات الشعبيّة، التي عمل الحاكم على إخمادها بمنطق القوّة، لا بقوّة المنطق. ولعلّ أحداث الحوض المنجمي، التي شهدها الجنوب الغربي احتجاجا على تفشّي ظاهرة المحسوبيّة والرشوة والتلاعب بالمال العام، والانتدابات المشبوهة في شركة فسفاط قفصة، ولعلّ أحداث الصخيرة بالجنوب الشرقي، وأحداث فرنانة بالشمال الغربي، وأحداث بني قردان بالجنوب التونسي، والتي كانت كلّها ذات صبغة مطلبيّة، قد لعبت الدور الرئيس في الإعداد للحظة انتفاض على الأوضاع المزرية، التي كانت نتيجة لتطبيق سياسات اجتماعيّة فاشلة. وفي كلّ تحرّك شعبيّ هنا أو هناك، كانت تحضر عصا الحاكم، ويحسم الأمر بالقوّة، ولكن على رأي المثل العربي "إذا بلغ الشيء حدّه، انقلب إلى ضدّه".

خيّم الصمت لسنوات، وكبّلت ماكينة الاستبداد الأنفس، والضمائر، ولكن نسيت آليّات القهر السلطانيّ، أنّ الكبت يولّد الانفجار، وذات يوم أقدم محمّد البوعزيزي، من مدينة سيدي بوزيد بالوسط الغربي، على إشعال النار في جسده، احتجاجا على وضعيّة اجتماعية مّا، وكانت تلك اللحظة، هي التي دغدغت بركان الغضب في التونسيين، وأينعت المسيرات، والمظاهرات، في كلّ مكان من البلاد التونسيّة، وكان الشباب وقود هذا التحرّك. فالشباب كان قد تحرّك عفويّا، فلم تقده أحزاب سياسيّة، أو مكوّنات المجتمع المدني، أو طبقة المثقفين. كانت ثورته على القهر، والظلم، والفقر، والبطالة، جسدا بلا رأس كما وصفت ثورة الكرامة التونسيّة، إذ كانت لحظة عفويّة، وقد فاجأت الأحزاب، والمنظّمات الأهليّة. فكان الشباب في كلّ المدن والقرى التونسيّة، كما الموج في يوم مطير، في تالة من محافظة القصرين، ومنزل بوزيّان من محافظة سيدي بوزيد، وفي بنزرت، والعاصمة، والشابة محافظة المهديّة، والقيروان، وقبلي؛ كان الشباب التونسي بمثابة السدّ المنيع أمام قهر الحاكم، وظلمه، وسطوته، ورصاصه الحيّ. والثورة التونسيّة التي قادها الشباب بامتياز، كانت ثورتين: ثورة واقعيّة في مواجهة عصا القمع والرصاص، وثورة افتراضيّة، لعبت دورا رياديّا، في كشف الوجه القبيح، لسلطة طالما تغنّت في المنابر القوميّة، والإقليميّة، والدوليّة بالمعجزة الاقتصادية التونسيّة، واحترام منظومة حقوق الإنسان والديمقراطيّة، والتغنّي بتلازم البعدين الاقتصادي والاجتماعي.

وقد كان صندوق التضامن الوطني 26-26 هو الواجهة التي تختفي وراءها آلة القمع، والقهر، والظلم التونسي الرسمي، ولكن شباب تونس كشف عورات كلّ الخطابات الرسميّة الجوفاء، على الشبكة العنكبوتيّة، وكان بذلك صوت الداخل المقهور، في كامل أنحاء المعمورة، وكان كذلك سندا للشباب الثائر في المدن والقرى، أمام سكوت الإعلام الرسمي التونسي، سواء منه المكتوب، أو المسموع، أو المرئيّ، هذا الإعلام الذي كان طوعا، وكرها، بوقا من أبواق الدعاية للحاكم. فالشباب التونسي كشف جرائم النظام بالصوت والصورة، واستغلّ الثورة التكنولوجيّة أيّما استغلال، لإحاطة الناس علما بما يدور في تونس أيام الثورة، وهذا الفعل الافتراضي، كان له تأثير مباشر على باقي الدول العربيّة، التي تطوق شعوبها للحريّة والكرامة.

إنّ الثورة التونسيّة التي قادها الشباب، كانت قادحا لتحرّك عدّة دول ومدن، وعلّمت الناس صدق قول شاعر تونس أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر

والشعب التونسي، ذات لحظة، عانقت نفسه الحريّة والإنعتاق والقطع مع الظلم والاستبداد والقهر، والحكم الشموليّ، لتفتح بذلك صفحة جديدة مع تاريخ يؤمن بإرادة الشعوب، تاريخ يكشف على أنّ الحال لا يتبدّل بحال في ظلّ الخمول والركود والرضا بالدون. وغيّر شباب تونس ما بنفسه، من سكوت ومن كبت، وواجه واقعه وأراد تغييره. وكان له ما أراد يوم 14 كانون الثاني 2011، يوم قال للعالم العربي خصوصا، وللعالم عموما، أنّ إيمان أيّ شعب بنفسه وبوحدته، وبإرادته وبقضاياه العادلة، لا يمكن أن يوقف هديره ماكينة الاستبداد، مهما كانت قوّتها، ومهما كان بأسها. وقد جاءت على إثر ذلك ثورة مصر المباركة، لتبيّن بما لا يدع مجالا للشكّ، بانّ العرب عليهم أن يتخلّصوا ممن باعوا قضياهم العادلة في سوق النخاسة الدوليّ، وممّن باعوا قضيّة العرب، القضيّة الفلسطينيّة، مقابل الحفاظ على عروشهم من قبل أمريكا، وإسرائيل، ولكن نسي هؤلاء، وأولئك، أنّ إرادة الشعوب العربية من الماء إلى الماء ستدكّ عروشهم.

----------
*فوزي الديماسي: تخرّج من كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة/تونس - قسم اللغة العربية - وحاصل على الإجازة في اللغة والأدب العربي، يكتب النقد الأدبي ومقالات رأي في العديد من الجرائد التونسية والعربية.