زَهْرَةٌ لِقُلوبٍ عاشَتِ النَّكْبَة

بقلم: د. مصطفى محمد عبد الفتاح

في العام الماضي كنت أتصفح الشبكة العنكبوتية باحثاً عن النشاطات الأدبية التي أعشقها فوقعتُ على نبأ يتحدث عن الإعلان عن الدعوة للمشاركة في جائزة العودة. تتبعت مسار الإعلان فوقعت بي الخطى في رحاب مركز بديل الفلسطيني، أثار الموضوع اهتمامي من عدة جوانب؛ أولها أن الأمر يعنيني كما يعني كل عربي في هذا الوطن الكبير، ثانيها أن المشاركة متاحة في عدة أطياف من المجالات الإبداعية منها قصص الأطفال، ثالثها أن المشاركة أصبحت متاحة للكتاب العرب بعد أن كانت في الدورات السابقة مقصورة على الكتاب والمبدعين الفلسطينيين.

كتبت قصةً قصيرة للأطفال بعنوان: "رغد والقمر"، وهي تتحدث عن طفلة تعيش مع أهلها بعيدة عن فلسطين، وتعيش موقفاً تكون فيه سبباً لنزوح عائلة من الأرانب من جحرها، ثم تهتدي الطفلة إلى الصواب من تلقاء نفسها وتعيد الأرانب الصغيرة إلى جحرها وإلى حضن أمها، وتعيش حلم العودة الذي يذكيه ضياء صديقِها القمر.

كانت المشاركة تكفيني لكون قصتي وصلت إلى مركز بديل عبر البريد الإلكتروني، وهذا يعني أن جزءاً مني دخل إلى أرضنا المحتلة الحبيبة، وكنت قبل ذلك أغبط جدي المرحوم الشيخ مصطفى الذي أتاح الله له زيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى قبل النكبة بسنة واحدة، وهي القصة التي ما برحت أمي ترددها على مسامعنا منذ كنا صغاراً، وكانت في كل مرة تضعنا في أجواء تلك الرحلة الجليلة إلى القبلة الأولى.
حين اتصل بي ممثل عن لجنة الجائزة لم أصدق أنني أتلقى هاتفاً من بلادنا الحبيبة فلسطين، لكنه حين أخبرني بنبأ الفوز أحسست بسعادة حلوة لم تألفها نفسي من قبل، فقد فزت بعدد من الجوائز الأدبية من قبل، لكنها المناسبة الأولى التي يدخل فيها اسمي بنسيج جائزة من داخل فلسطين الحبيبة، إنها المناسبة الأولى التي تأتلف فيها نفسي مع حلم العودة الذي يعيشه ملايين من أهلنا.

أما كون فوزي بالمركز الثاني فليس له سوى المعنى الإيجابي، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على النزاهة في التحكيم التي اتصفت بها لجان هذه الجائزة الغالية، وأنا الآن أتطلع للوقت الذي أزين فيه حائط مكتبتي المنزلية بشهادة هذه الجائزة، وأتطلع لإضافة قصتي مطبوعة فوق رفوف مكتبتي في ركن أدب الأطفال، وإن بقيت في النفس غصة أنني لن أتمكن من المثول في حفل الفائزين بسبب حال فلسطين الحبيبة.

إن حلم العودة لأهلنا الفلسطينيين هو الحليب الذي رضعناه حين كنا صغاراً في المرحلة الابتدائية من خلال مناهجنا المدرسية، فمن أنشودة "فلسطين داري.. ودرب انتصاري"، إلى أنشودة "وطني المحتل فلسطينُ.. لم ينبت فيه الزيتونُ"، إلى غيرها من الأناشيد التي كانت تزين كتبنا المدرسية، والتي أوقفتني كثيراً على جملة سمعتها من شاعرنا الكبير سليمان العيسى حين كنت في زيارة في بيته منذ أربع سنوات حيث قال: "أنا حلم عربي صغير يبحث عن التحقق"، فهذا الشاعر الذي اختصر نفسه على أنه حلم صغير، يشبه كل قلب فلسطيني مُهَجَّرٍ بعيدٍ عن أرضه، فهذه القلوب هي مخازن لأحلام صغيرة، تأتلف مع بعضها لتصنع حلم العودة الكبير.

إنها الذكرى الثالثة والستون للنكبة، وهي الجرح الذي يتجدد في جسد أمتنا وروحها، لكنها ما تزال القضية الأولى التي تتمحور حولها كل قضايا أمتنا رغم بعد الزمن بها، لأنها حلم العربي المسلم بالمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، وحلم العربي المسيحي ببيت لحم وكنيسة المهد، وحلم كل فلسطيني يعيش في دروب الشتات، وحلم كل حرٍّ يرفض شرائع الظلم والاضطهاد التي تعكس الوجه الشيطاني للمعادلة الإنسانية في هذه الدنيا التي رُكِّبَت على النقص.
لا تنسى ذاكرتي حين كنت طفلاً ذلك الفلم المتواضع في إمكاناته الذي صاغته أيادٍ عربية مخلصة عن مجزرة كفر قاسم التي واكبت أحداث النكبة، أذكر يومها، عيني ذرفتا رغم صغر سني حين تابعت الشاشة الصغيرة.
أود أن أبث لأهلنا في الداخل الفلسطيني وفي المهاجر ما أشعر به من تفاؤل بعودة فلسطين إلى أهلها، وربما أصبح الأمر قريباً بقوة الله، فالمغتصب تحول في السنوات الأخيرة من المبادر بالاعتداء إلى الباحث عن أمنه وسط مخاوفه الكبيرة من محيطه العربي والفلسطيني.

في الماضي دخلَ موكبان مباركان القدس؛ الأول كان موكب الخليفة الراشدي العادل عمر بن الخطاب، وفتح القدس بالعهدة العمرية الرائعة التي أرست أعظم الأسس في التعامل الدولي، والموكب الثاني كان موكب الفاتح صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس السليبة من أيدي المحتلين، وما زالت أمتنا تنتظر الموكب الثالث الذي يعود معه أهلنا إلى ديارهم السليبة.
إلى أهلنا الفلسطينيين أهدي قصتي "رغد والقمر" زهرة حب لقلوب عاشت النكبة ومازجت مرارتها عَلَّها تكون نقطة بلسم طفولية تمسح بعض الحزن الذي سكن تلك القلوب.
----------
* د. مصطفى عبد الفتاح: الفائز بالمركز الثاني في جائزة العودة لقصص الأطفال ـ سورية ـ إدلب