شتاء العرب أم ربيعه؟ انعكاساته ودروسه في الأولويات الفلسطينية

بقلم: صبيح صبيح*

بينما خصص الرحابنة فصل الشتاء للفراق، دخل الربيع للقاموس العربي الحديث، كمصطلح يبشر بنهاية صفحة من الطغيان والظلم حكمت العالم العربي لأكثر من أربعين عاماً. ما يشهده العالم العربي اليوم من ثورات متعاقبة، أعاد الأمل للفعل الشعبي ويشكل إعادة صياغة للكرامة الوطنية لشعوب طالما تم استعبادها باسم الوطن والوطنية والحفاظ على خط المقاومة. ولكن البعض رأى وصول الشتاء قبل أن يستمتع الشعب العربي برائحة الياسمين، فظهرت ما يسمى الثورات المضادة ومحاولات احتواء نتائج الثورات، منذرة بحكم جديد يستخدم الثورة الحديثة لشرعنة استبداد من نوع جديد، أو إعادة صياغة الوطني والمحلي ضمن رؤى معولمة وتحديدا تلك الاقتصادية النيوليبرالية.

آمال ومخاوف ارتبطت بحجم مطالب الثورات العربية، ففي الوقت الذي تهدف هذه الثورات لتغيير علاقات القوى داخل المنظومة الاجتماعية السياسية العربية، لم تغفل تلك المطالب إعادة صياغة علاقات القوى بين هذه المجتمعات، والقوى الاستعمارية الرأسمالية. فهذه الأخيرة، لطالما مولت فئة المستبدين للمحافظة على مصالحها، وهي تحاول الآن استدراك فعلتها لركوب الموجة من جديد عبر تمويل الثورات باسم الديمقراطية ومقاطعة أنظمة بدأت تصِّنفها بالاستبدادية.

وكون الثورات حدثت في فترات زمنية قصيرة نسبيا وبشكل متلاحق ومتسارع، فقد أظهرت بشكل ملموس مدى النفاق الغربي المبتذل، والذي طالما ادعى الاستعلاء القيمي والأخلاقي. حتى الآن، استطاعت الثورات إعادة ترتيب الأنظمة داخليا، على الأقل رأسها، أما إعادة هيكلة علاقات التبعية الخارجية وإعادة هيكلة المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخليا، بما يتوافق مع الكرامة الوطنية، فما زالت مسائل معلقة، حيث لا زال الوقت مبكرا للحكم عليها في ظل المخاوف الكبيرة المرافقة.

نكاد نجزم، أنه على الأقل حتى الآن، بأن الأمل هو اللقاح الذي تم تناقله بين الأقطار العربية في ربيعه. فكيف انعكس نسيم هذه الثورات في الأرض الفلسطينية المحتلة؟
ما لبث الرهان من قبل احد أطراف الانقسام على الثورة المصرية لترجيح كفته في الحوار الداخلي الفلسطيني، حتى عُدِّل الميزان بانطلاق الثورة السورية، وظهرت النتائج سريعة بإعلان المصالحة الفلسطينية الداخلية. يعكس التغيُّر في المنطقة مدى اعتماد القرار الفلسطيني على بعده العربي، ولكن حتى الآن ما زالت الأمور في بدايتها، ومازال المشهد ناقصاً، إذ لم يتضح بعد مدى تأثير البعد الدولي في هذه المعادلة. فلا يمكن تحليل الوضع الفلسطيني دون الأخذ بعين الاعتبار العوامل الدولية التي تجسدت في صقل علاقة التبعية والهيمنة والاستعمار. فما أن تم الإعلان عن المصالحة حتى لوح الكونغرس بسلاحه الرخيص القديم الجديد: المقاطعة المالية. فأي حراك بدأ أو سيأتي في فلسطين، يجب أن يتم تحليله على انه سيضرب علاقات الهيمنة هذه، مما يؤكد صعوبة التحدي لكثرة الفاعلين: المحليين والدوليين، والذين ستتضرر مصالحهم ورؤاهم من مثل هذا التحرك.

بناء عليه، ليس غريبا أن يبدأ في الأرض الفلسطينية المحتلة تحرك يشبه الثورة المضادة لتدارك أي ثورة مستقبلية. إذ تهدف مثل هذه التحركات إلى إعادة تشكيل المحلي أو الوطني دون المساس بعلاقات القوى وهذا اخطر ما في الأمر. إن نجاح المصالحة أو أي حراك داخلي فلسطيني مرتبط بمدى قدرة الجسد الفلسطيني على عكس قوة وحدته في منظومة الهيمنة وعلاقات القوى والتأثير فيها وليس بمقدار إظهار مدى طوعية هذا الجسد أمام شروط الهيمنة باسم العقلانية والبراغماتية والواقعية.

لهذا، على الشعارات التي تُرفع أن تخرج من شعائريتها اللفظية، والتي تعتمد غالبا الصيغ التوافقية كإنهاء الاحتلال وإنهاء الانقسام، وأن تصيب مراكز الهيمنة أنفسها. فإنهاء الاحتلال حق بديهي لا يستوجب الشعارات، ويقع على عاتق الشعب الفلسطيني ومؤسساته فعل تجسيد هذه الشعارات في برنامج وطني واضح يتكامل فيه عمل الفصائل والمؤسسات، ويعمل على استدراك الخراب الذي أصاب الجسم الفلسطيني خلال الأعوام الأخيرة. ولتوضيح هذه النقطة والابتعاد عن عمومية الطرح نقول ان المطلوب اليوم من الشعب الفلسطيني ومؤسساته وفصائله الوطنية وضع حد للهيمنة المهينة للكرامة الوطنية، والتي تجسد جزءا منها فيما يسمى الدعم الدولي المشروط، وتحديدا الأمريكي. فعلى الرغم من ضآلة هذا الدعم؛ إلا انه الأكثر إهانة بحق الكرامة الوطنية، فعلى المؤسسات "المستفيدة" من دعم الوكالة الأمريكية للتنمية باسم كرامة الوطن البدء بمقاطعتها والتنصل من توقيعها على ما سمي وثيقة الإرهاب والتي أعلنت حربا ممنهجة ماديا ومفاهيمياً على المقاومة الفلسطينية وشهداءها. استخدام سلاح المال السياسي خلق حالة جمعية من الاغتراب الفلسطيني داخل الوطن، ربما لم يستطع الاحتلال الإسرائيلي على مدى سنين الصراع من تحقيقها. وربما نستطيع الذهاب إلى أكثر من ذلك بالقول انه تم تغذية الانقسام عبر المال السياسي نفسه، مما جعل الفرصة سانحة لطرفي المعادلة الفلسطينية للوقوع في شرك عملية من الإقصاء والتخوين أضرت بالكل الفلسطيني وبقضيته وجعلت أسباب الفرقة تسود على التاريخ المشترك والمصير والدم الواحد.

إعادة الكرامة الوطنية أمام المجتمع الدولي ومؤسساته هي جزءٌ من العملية النضالية. فمثل هذا التوجه قد يعيد للقضية الفلسطينية بعدها السياسي الحقيقي، بمعنى أنها قضية احتلال، وحقوق عادلة، وتحرر وطني وليست قضية إنسانية أو مال سياسي مقابل خدمات أمنية. فهذا التشويه المقصود للقضية انعكس بأسوأ صوره في ممارسات لقمع الحريات والاعتقال السياسي وإنتاج وابل من المنتفعين والفاسدين. ممارسات شوهت القضية أمام من يتضامن مع شعبنا من جهة، وجعلت أعداء الشعب الفلسطيني يضعون تسعيرة لكل فعل مشين نقوم به بحق أنفسنا من جهة أخرى. هذه الإهانة واللاتوازن انعكسا بشكل سلبي على صورة القضية الوطنية الفلسطينية في الخارج كما في داخل البيت الفلسطيني نفسه. ليس غريبا في مثل هذا الوضع، أن تصبح المقاومة مشروعا يتم تمويله من الخارج وفق شروط المؤسسات الدولية، وينتهي النضال بانتهاء المشروع. ان ابتذال المنظومة الأخلاقية المغلِّفة للنضال هي أحد أهم أسباب تراجع الجماهير عن الانخراط في أي فعل وطني.

مزيج من الاستبداد والاستعمار يميزنا عن الدول العربية كون الأخيرة لها سيادة، على الأقل من الناحية الصورية، داخل حدودها. اعتماد مزدوج، من جهة على اقتصاد الاحتلال والمال الدولي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي تعتمد الطبقة العاملة والشركات الصغيرة على اقتصاد الاحتلال، يعتمد أكثر من 160 ألف موظف في القطاع العام وما يقارب 20 ألف موظف في القطاع الجمعياتي على المال الدولي. حجم التبعية مربك وهذا يتطلب من القيادة الفلسطينية، ومؤسسات الشعب الفلسطيني العمل الآن على إعادة بناء المنظومة القيمية السلوكية التي تغلف الفعل الوطني وتعطيه معنىً؛ سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو السلطة. دون ذلك، تكون محاولات المصالحة كنوع من الثورة المضادة ستنتهي بمحاصصة لسلطة شكلية خالية من أي سيادة بالمعنى الوطني والسياسي. محاصصة ربما تصطدم من جديد مع واقع التبعية السابق منذرة بانقسام أشد خطورة واغتراب أقسى من الذي نعيشه حاليا.
فكما كانت الثورة الفلسطينية ملهمة للعالم أجمع، عليها الآن أن تضيف العمق للثورات العربية القائمة. فالشعب الفلسطيني شعب تحت الاحتلال وعملية تنميته وثورته يجب أن تنعكس في قيمه الجمعية، في إنتاجه الاقتصادي واستقلاله، وليس في عملية فردنة للمجتمع تجعله مجتمعا مستهلكا للمنتجات الشكلية التي تعكس تطورا استهلاكيا فارغا نحو ثقافة رأسمالية مبتذلة طالما أنتجت الفقر والظلم الاجتماعي. علينا أن نقول، لا يوجد بيننا من سيشكل حصان طروادة للنيل من كرامة شعبنا ووطننا، وعلى من يأتي لدعمنا أن يدعمنا بشروطنا وليس بشروط مهينة حولتنا من شعب صاحب حق وقضية سياسية إلى مجموعة من المتسولين على عتبات ما يسمى المجتمع الدولي.
--------
*صبيح صبيح: باحث فلسطيني ينهي رسالة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي والتنموي في فرنسا.