تطور الفقه القانوني في محاكمة مجرمي الحرب

بقلم: خليل أبو خديجة*

منذ بداية الصراع الصهيوني-الفلسطيني، وعلى تاريخ امتداد هذا الصراع، ارتكبت إسرائيل العديد من المجازر بحق الشعب الفلسطيني، وهي ترقى في معظمها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحسب القانون الدولي. وقد كان آخر هذه المجازر ما حدث في قطاع غزة أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع أواخر العام 2008 وبداية عام 2009. هذه الجريمة، والتي أكدها تقرير غولدستون من خلال بعثة تقصي الحقائق الخاصة، تجعل من المهم بمكان البحث عن إمكانيات محاسبة إسرائيل وفقا لقواعد القانون الجنائي الدولي.

وعلى الرغم من أهمية البحث عن آلية مناسبة للوضع الفلسطيني، والمتغيرات السياسية الدولية بشكل عام، إلا أن الأهم من ذلك يبقى في البحث عن إستراتيجية فلسطينية معينة مرتبطة بأهداف لا يتم التنازل عنها. فالتجارب الفلسطينية المتكررة في تقليد تجارب كفاحية لشعوب أخرى، لم تكن أبدا مطابقة لحاجات الوضع الفلسطيني، ولم تكن أبدا كافية لاستعادة ما ضاع من حقوق لهذا الشعب.

ففي الوقت الذي يجب أن نستعرض فيه نماذج للنضال القانوني، ومحاسبة مرتكبي الجرائم، تبقى الأولوية في قيام الفلسطينيين بصياغة وتكوين ما يلبي احتياجاتهم ويحقق أهدافهم.

تباعا، سنستعرض الآليات التي استخدمها العالم الحديث في محاسبة مرتكبي الجرائم، والسياسات التي لعبت دورا في منح أو حجب السلطة عن هذه الوسائل والآليات:

قرارات الدول، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية:

كبداية لتصورات قواعد جنائية دولية تحكم أفعال الدول، أحست الأمم بضرورة هذا الأمر في محاولة لتجنب ويلات هذه الجرائم على الشعوب فتم التوقيع على معاهدة جنيف عام 1864 والتي نصت بشكل واضح على منع ارتكاب هذه الأفعال أثناء الحروب وتم التأكيد على ذلك عبر معاهدة لاهاي للعام 1899. ولكن الجهود الجدية لمواجهة جرائم الحرب بدأت بعد الحرب العالمية الأولى والتي خلفت أكثر من عشرين مليون قتيل، حيث حاول المنتصرون تضمين المادة 227 في معاهدة فرساي بحيث تضمن لهم محاكمة الإمبراطور الألماني فيلهام وإنشاء محكمة جنائية خصيصا له، إلا أن الإمبراطور حصل على حق اللجوء السياسي في هولندا ورفضت هولندا تسليمه. إضافة إلى ذلك، فان الاتفاقية اشتملت على مادتين لمحاكمة الضباط الألمان والأتراك المتهمين بارتكابهم جرائم حرب أمام محاكم الحلفاء العسكرية.

المميز في هذه الاتفاقية أنها لم تهمل دور القضاء الداخلي للدول، أي أنها لم تخلق محكمة دولية بمزايا خاصة، وإنما وسعت اختصاص محاكمها العسكرية لتشمل الألمان والأتراك. وتم بناء على ذلك تشكيل لجنة تكونت من الولايات المتحدة، فرنسا، الإمبراطورية البريطانية، ايطاليا، واليابان. لكن، المستغرب في هذه الاتفاقية أنها لم توجه اتهامات للمسؤولين الأتراك بشأن الجرائم المرتكبة ضد الأرمن، وعزا الفقهاء ذلك إلى أن تركيا لم توقع على الاتفاقية المتعلقة بذلك، واستبدلتها باتفاقية لوزان للعام 1923.

تعتبر هذه الاتفاقية هي الأولى من نوعها التي أضافت مصطلح جرائم الحرب، ومساءلة الأفراد على المستوى الدولي، بل وذهبت ابعد من ذلك، من خلال طرحها لمساءلة رؤساء الدول عن الفكرة التي كانت تعتبر انتقاصا من مبدأ سيادة الدول آن ذاك. ولا يخفى على احد أن الحلفاء ضمنوا هذه المواد في الاتفاقية في محاولة لإذلال الألمان، وليس الاقتصاص منهم ومعاقبتهم فقط. ولم يمنعهم ذلك من اضافة مفهوم آخر، تمثل في تكامل القضاء الدولي، والقضاء المحلي، حيث أجازت الاتفاقية محاكمة هؤلاء المتهمين في المحاكم الألمانية أو محاكم الدول المنتصرة، دون النظر إلى تطبيق هذا الأمر من عدمه، إلا انه يعد تطورا لا بأس به في اتجاه بلورة آليات محاسبة دولية.

كان هنالك أيضا العديد من الجهود الفقهية التي أرادت خلق جهاز للمحاسبة الجنائية الدولية، إلا أنها بقيت دون دعم كاف أو إرادة حقيقية، حيث أن الدول في ذلك الوقت كانت لا ترغب في إبداء محاولة حول أمر ما قد يمس بمفهوم سيادة الدول الواسعة، حيث ارتأت هذه الدول أن تكون صاحبة اليد الطولى في فرض هيمنتها على المستوى الدولي.

1. محكمة ليبزج - ( المحكمة الألمانية العليا) لمحاكمة مجرمي الحرب 1923:

لم تقم ألمانيا بما كان مفروضا عليها من قبل الحلفاء، حيث لم تسلم المتهمين للمحاكمة، وعزت ذلك إلى تضارب التشريع الألماني وهذه البنود، وأيضا إلى أن هذا الأمر سيؤدي إلى حالة من الاضطراب في ألمانيا، وحتى تسكت منتقديها، انشأ الألمان محكمة ليبزج في ألمانيا لهذا الغرض.

لم توجه لائحة الاتهام إلا لعدد ضئيل من الضباط والمسئولين الألمان، وهرب اغلبهم خارج ألمانيا قبل نهاية المحاكمات. وعكست الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة مدى جديتها، حيث حكمت على متهمين بقتل أسرى حرب، ومرتكبي جرائم حرب بأحكام مثل السجن لمدة عامين.

وقد عزا العديد من الفقهاء عدم الجدية في سير هذه المحاكمات إلى رغبة "الحلفاء" في طي صفحة الحرب بعد أن اجبروا الألمان على الموافقة على شروطهم، اضافة إلى امتناع ألمانيا عن تطبيق الأحكام الصادرة بحق مشتبه بهم أو حتى مدانين بحجج مختلفة، وذلك كنوع من الرفض الضمني لقبول ما يمليه عليها الحلفاء.

2. محكمة نورمبرغ 1945 أو "محاكم المنتصرين":

واجهت هذه المحاكم انتقادات شديدة بسبب طبيعتها، إذ لم يتم النظر من خلالها في الجرائم التي ارتكبها الحلفاء خلال الحرب، والتي اعتبرها كثيرون أعظم من جرائم "المحور"، ويكفي أن نذكر جريمة إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي، المدينتين اليابانيتين، لنعلم أن المحاكم لم تنشأ أبدا إحقاقا للعدالة. فـ"هاري ترومان – الرئيس الأمريكي الأسبق" كان يجب أن يحاكم ضمن آخرين من جانب الحلفاء بالنظر لفداحة الجرائم المرتكبة.

تم إنشاء هذه المحكمة وفقا لاتفاقية لندن لعام 1945، وتضمنت الاتفاقية مبادئ عامة للمحاسبة، في محاولة جدية للنظر فيما تم ارتكابه من مجازر وجرائم بحق الإنسانية، وما نتج من ويلات خلال الحرب العالمية الثانية، حيث أيقنت الدول المنتصرة أن عدم محاسبة مرتكبي هذه الجرائم، سيزيد من احتمال تكرار هذه الجرائم في المستقبل، بعد أن تعلموا ذلك من خلال تساهلهم في ما بعد الحرب العالمية الأولى.

ضمت هذه المحكمة العسكرية الدولية ممثلين عن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة، الاتحاد السوفييتي، بريطانيا، وفرنسا. وتم اختيار مدينة نورمبرغ، العاصمة الروحية للرايخ الثالث مقرا للمحكمة كنوع من الإذلال للألمان.

وأعلنت المحكمة مجموعة من المبادئ التي ستجري على أساسها المحاكمات، تلخصت بالآتي:
1. المسؤولية الجنائية الفردية، حيث لم يعد القائد أو الضابط أو الرئيس المسؤول الوحيد عما تم ارتكابه من جرائم، اذ نصت المبادئ على أن كل شخص يرتكب، أو يشترك في ارتكاب فعل يشكل جريمة وفقا للقانون الدولي، يعتبر مسؤولا عنه، ومستحقا للعقاب.
2. لا إعفاء من المسؤولية ولا مانع من المحاسبة كون القانون الوطني لا يجرم أو لا يعاقب على أفعال تشكل جريمة حرب، فالمسؤولية شكلت بناء على القانون الدولي، لا القانون الوطني الداخلي.
3. لا يعفى ولا يمنع من المحاسبة أن يكون مرتكب الجريمة رئيس دولة، أو مسؤولا فيها.
4. لا يعفي ولا يمنع من المحاسبة، ارتكاب الجريمة بأمر من الحكومة أو من الرئيس وفقا للقانون الدولي، وإنما من الممكن اعتباره أحد الظروف المخففة، وفقا للمادة الثامنة من نظام محكمة نورمبرغ.
5. لكل متهم الحق في محاكمة عادلة وفقا لأحكام القانون الدولي.
6. التجاوز عن مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة، أي مبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، حيث نص على أن هذا المبدأ الذي استقر عليه الفقه القانوني في التشريعات الداخلية الوطنية يمكن تجاوزه في تطبيق القانون الدولي.
ونتيجة لذلك تم الحكم على عدد من قادة الألمان بالإعدام، أمثال المارشال هرمان، وألفرد روزنبرغ، وانتهى وجود المحكمة بانتفاء داعي وجودها.

3. محكمة طوكيو 1946:

بناء على ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر بوتسدام عام 1945 في ألمانيا، أصدر القائد العام لقوات الحلفاء أمرا عسكريا بإنشاء محكمة عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين، وأطلق عليها اسم المدينة التي انعقدت فيها، طوكيو.

واختصت المحكمة في النظر في الجرائم المرتكبة "ضد السلام" والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم أخرى متعلقة بانتهاكات ومخالفات قواعد وقوانين دولية. وقد أصدرت المحكمة عدة أحكام منها 6 أحكام بالإعدام. ثم تلاشى دورها مثل محكمة نورمبرغ بانتفاء سبب وجودها.

وعلى الرغم من النقلة النوعية التي أحدثتها هاتان المحكمتان من إمكانية محاكمة الأفراد عن جرائم ارتكبوها، وإمكانية محاكمة رؤساء الدول وامتداد المسؤولية إلى منفذ أمر ارتكاب الجريمة، وتشكيلها أساسا للقضاء الجنائي الدولي، إلا أن هنالك الكثير من المآخذ على تشكيل هذه المحاكم. فإذا ما تجاوزنا مسألة إخضاع الدول المهزومة، وعدم محاسبة مجرمي الحرب من "الحلفاء"، نجد أن هنالك أمورا أخرى لا يمكن قبولها، حيث طبع على هذه المحاكم الطابع السياسي المرتبط بإرادة الدول المنتصرة في محاكمة بعض الشخصيات من عدمه، ومخالفة نظام المحكمة لمبدأ شرعية العقوبة والجريمة، ومبدأ عدم رجعية القانون الجنائي، مما يعتبر مخالفة جسيمة للقوانين الوطنية والأعراف القانونية السارية.

4. المحاكم الدولية المشكلة من قبل مجلس الأمن:

شكل مجلس الأمن منذ إنشاءه العديد من المحاكم الدولية، وفقا لبواعث مختلفة، كالمحكمة الخاصة بلبنان والتي تعتبر المحكمة الدولية الأولى التي تنشأ للنظر في جريمة قتل سياسية، ومحكمة سيراليون، وكمبوديا، إلا أن ابرز محكمتين كانتا، محكمة يوغسلافيا، ومحكمة رواندا.

المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا 1993:

أصدر مجلس الأمن عام 1993 قرار بإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة المسؤولين المتهمين بانتهاكات للقانون الدولي الإنساني في يوغسلافيا. ولعل ابرز خصائص هذه المحكمة، كونها أنشئت خصيصا ليوغسلافيا، حيث لم يتم اشتراط ذلك لتوقع الدول بان يكون هنالك جرائم مرتكبة من قبل دول أخرى، إلا أن المصالح السياسية المكونة لمجلس الأمن فرضت تأسيس المحكمة ليوغسلافيا فقط دون النظر إلى أي طرف آخر في تلك الحرب.

وبناء على ذلك، أصبحت المحكمة أداة للتدخل في شؤون دول البلقان، ولم تتم محاسبة حلف الناتو، بقيادة الولايات المتحدة عما تم ارتكابه من مخالفات، اضافة إلى أن العقوبات التي تم الحكم بها لم تكن تتوافق مع الجرائم المرتكبة، حيث صرح المدعي العام، انه لا يمكن النظر في هذه القضايا نظرا "لعدم وضوح القانون".

المحكمة الجنائية الخاصة برواندا 1994:

استمرت المجازر بالحدوث في العالم، ولم يكن هنالك ما يكفل ردعا لمثل هذه الأفعال، فجرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي الشنيعة ظهرت على سطح الحرب في رواندا، ورغم تأخر التدخل الدولي في المنطقة، لانعدام المصالح السياسية، إلا أن التدخل أيضا لم يكن بالمستوى المطلوب. ولنفس الأسباب التي تم ذكرها بشأن المحكمة الخاصة بيوغسلافيا، تم إنشاء محكمة رواندا بناء على قرار من مجلس الأمن عام 1994، والإرادة السياسية لم تشكل هاجسا لدى القضاة للوهلة الأولى، حيث وفرت الأمم المتحدة أموالا طائلة لتأمين سير المحاكمة إلا أن السياسة عادت لتحكم، حيث لم يحاكم سوى مجموعة صغيرة من المتهمين، تراوحت إحكامهم بين البراءة والسجن مدى الحياة، إلا أن ذلك كنتيجة، لا يتناسب أبدا مع توقعات العالم، نظرا للاهتمام البالغ الذي تم إيلائه لهذه المحكمة في المحاسبة والمعاقبة وإحقاق العدالة.

4. المحكمة الجنائية الدولية 1998:

بعد أكثر من 50 عاما من المد والجزر والمداولات، أبصرت المحكمة الجنائية الدولية النور، بموافقة 120 دولة، ومعارضة 20 وامتناع واحده. إلا أن التساؤل الباقي حتى الآن هو: هل رأت المحكمة الجنائية الدولية النور لتعيش، أم أن النور الذي رأته سيكون آخر ما تراه؟ فالمتغيرات السياسية والمصالح الاقتصادية لا زالت تغلف عمل الأجهزة الدولية بشكل عام، فعلى سبيل المثال لم نشاهد المحكمة الجنائية الدولية تتخذ مواقف جدية على ما تقترفه إسرائيل حتى الآن، حيث أن هذا الجهاز أيضا، مرتبط بقرارات مجلس الأمن من جهة، وبإرادة سياسة الدول من جهة أخرى.

على الرغم من ذلك، فان وجود مثل هذا الجهاز يدعم فكرة المسؤولية الجنائية الفردية والجماعية كما استعرضنا، إلا أن المآخذ عليه كثيرة، لكن مجرد وجود هذه الآلية كخيار تزيد من فرص المحاسبة والعقاب على من يرتكب جرائم دولية.

في هذا الوقت المزدحم بالآليات وطرق المحاسبة، واستراتجيات إحقاق العدالة كما استعرضنا، فان النظام القانوني يتوفر على سلة من النظم التي لا تضمن بحالها الراهن توصل الفلسطينيين لحقوقهم دون وجود فعل فلسطيني مبني على إستراتيجية واضحة. ولعل ما يجري في العالم اليوم من تغيرات سياسية، وتفاعلات إقليمية قديمة حديثة، لهو خير دليل على ضرورة وجود هدف وإستراتيجية عمل واضحين كشرط مسبق لتحقيق ذلك.، وللخروج من دائرة الفعل العبثي الضائع.

---------------------------------------

خليل ابو خديجة: ماجستير قانون، الميسر التنفيذي للبرامج – مركز بديل.